بدعوة من الجمعية الوطنية للاقتصاديين الجزائريين، حضر الدكتور مصطفى الكتيري بوصفه نائب جمعية الاقتصاديين المغاربة مكلفا بالعلاقات الخارجية وأمين عام اتحاد المغرب العربي للاقتصاديين يومي السبت 19 والاحد 20 دجنبر 2009 الملتقى العلمي الدولي الثامن الذي التئم بتمنراست بالجنوب الشرقي للجزائر لتدارس موضوع تنمية السياحة كمصدر تمويل متجدد لمكافحة الفقر والتخلف في الجزائر وفي بعض البلدان العربية والاسلامية يشهد قطاع السياحة راهنا تحولات عميقة ومتسارعة في ظل ما يعرفه واقع العولمة والاقتصاد الشمولي من اختلالات ظرفية وتصدعات بنيوية جراء الأزمة المالية والاقتصادية التي تهز أركانه في الآونة الأخيرة والتي ابتدأت بإفلاس واحدة من أقدم وأضخم المؤسسات البنكية من قبيل بنك Lehman BROTHERS World Com d'Enron... وقد كان لهذه الأزمة المالية والاقتصادية وقع الصاعقة والأثر السلبي على الاقتصادات تجاوز حجمها وتأثيرها سابقتها في بداية التسعينات التي هوت بالبورصات العالمية بفعل تأجيج المضاربات والمنافسات المريبة على قيم أسواق المال والأعمال، وغدا وقع الأزمة الحالية أشد وطأة على الاقتصاديات الوطنية المرتبطة في معاملاتها ومبادلاتها مع الخارج وتحديدا مع الرأسماليات الكبرى. وقطاع السياحة من القطاعات التصديرية التابعة للأسواق الخارجية والمشدودة إلى عواملها ومحدداتها يتأثر بفعل تدني الطلب الخارجي وانكماش القدرات الشرائية وانحسار حجم الحركة السياحية في البلدان المصدرة للسواح. إن الظرفية العالمية تبدو صعبة ولا تخلو من تأثيرات سلبية على قطاع السياحة الذي يظل مع ذلك في المرتبة الرابعة لمصادر عائدات التصدير في العالم. وفي هذه السنة بالذات، تعاني السياحة العالمية من إسقاطات بيئية محيطة بها كالأزمة الاقتصادية الكونية وتفشي الأوبئة كحمى إنفلوانزا الخنازير H1N1 وطوارئ جوية. وقد تراجعت العائدات السياحية في الثلاثة أشهر الأولى من سنة 2009، حيث أن عدد المسافرين الذين جابوا العالم في الفترة ما بين يناير وأبريل من هذه السنة إنحدر إلى 247 مليون نسمة في مقابل 269 مليون في نفس الفترة من السنة السابقة 2008. وتتفاوت نسب التراجع في أعداد السواح بين بلدان الشرق الأوسط التي سجلت نسبة انخفاض ب 18 % وأوربا 10 % وبلدان آسيا والمحيط الهادي 6 % والأمريكيتين الشمالية والجنوبية بأقل من 5 %. والملاحظ أن القارة الإفريقية وحدها استطاعت أن تحقق نسبة نمو ب 3 % يمكن اعتبارها إيجابية في ظل الظرفية العالمية المتأزمة. ومن المتوقع أن يتأكد هذا المنحى في النمو السياحي في آخر السنة 2009 فيما يقدر مهنيو السياحة تراجعا إجماليا للمعدل العام للنمو ما بين 1 إلى 5 % خلال السنة 2009.(1) وفي هذا السياق العام، يبدو الوضع السياحي في بلدان المغرب العربي لافتا حسب المعطيات المقدمة في المعرض الدولي للسوق السياحية (International French Travel Market) الملتئم بباريس في 2 نونبر 2009. بناء على إحصائيات سياحية محينة (السبعة أشهر الأولى من سنة 2009)، بلغ عدد السواح الوافدين للمغرب 5 مليون سائح فيما سجل عدد الليالي السياحية تناقصا بنسبة 2 %، كان من آثاره تدني العائدات السياحية بنسبة 11,5 % في نفس الفترة. وبمعنى أوضح، فإن السواح القادمين للمغرب يقيمون به مدة أقل وقد يكون في الأمر ما يفيد من وجهة نظر المهنيين السياحيين أن هذه الظاهرة الجديدة مردها إلى أن شركات الطيران والنقل الجوي أصبحت تعرض منتوجا سياحيا للإقامة لمدة قصيرة بأقل كلفة. كما تضاعف أسلوب الترويج عبر الأنترنيت لإيجار منازل وشقق للإقامة الذي من شأنه أن يشجع على هذه الظاهرة. وهكذا غدا الإقبال على عينات جديدة من المنتوج السياحي المتمثل في الإقامة لمدد قصيرة بمعدل يومين أو ثلاثة أو في عطلة نهاية الأسبوع بمراكش أو طنجة بأسعار منخفضة ومغرية تقدمها شركات الطيران مثل RYANAIR و EASY JET التي أصبحت تراهن على هذا التوجه الذي يرجح أسعارا جذابة صوب وجهة المغرب. ومن جهتها أصبحت وكالات الأسفار تتخذ مواقعها على الأنترنيت لتتخصص في إيجار الشقق والمنازل ودور الضيافة بديلا عن الوحدات الفندقية وحتى عن وحدات العبور السياحية في إطار برامج الجولات السياحية. ونتيجة لهذا التحول الجديد في طبيعة ونوعية المنتوج السياحي، سجلت عائدات القطاع السياحي بالمغرب خلال الستة أشهر الأولى من سنة 2009 تراجعا نسبيا في حدود 14,4 % وبالقيمة المطلقة من 24,4 مليار درهم في 2008 إلى 20,9 مليار درهم في 2009 بالرغم من ارتفاع عدد السواح الوافدين المسجلين في الستة أشهر الأولى من سنة 2009 إلى 3,5 مليون سائح أي بزيادة بنسبة 9% عن نفس الفترة من السنة 2008. ويبدو أن هذا التراجع تجلى أكثر في الثلاثة أشهر الأولى من يناير إلى مارس 2009 وأن الوضع يسير حاليا نحو التحسن ولم يفت السلطات العمومية أن تعتمد خطة عمل تحسبا للطوارئ وذلك برصد غلاف مالي إضافي من حساب الميزانية العامة للدولة بمبلغ 10 ملايين أورو. ومن الجدير بالتذكير أن المغرب وضع ضمن أهداف المخطط الأزرق للنهوض السياحي بلوغ 10 مليون سائح في أفق 2010 بعدما سبق أن استقبل في سنة 2008 ما يقارب 8 ملايين سائح. وتراهن السلطات العمومية المكلفة بالسياحة على انفراج الأفق المنظور لهذه السنة 2009 بتحسن العائدات السياحية في فترة الذروة للسياحة المغربية التي عادة ما يعرفها ويسجلها موسم الصيف. ولعل تأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على السياحة المغاربية متفاوتة بين البلدان المغاربية الثلاثة تونسوالجزائر والمغرب. ففي تونس، يمثل القطاع السياحي 6,5 % من الناتج الداخلي الإجمالي. ويبدو أن السياحة التونسية أكثر تضررا وتأثيرا بالأزمة العالمية التي أرخت بإسقاطاتها وتبعاتها على بلد كتونس منفتح بشكل كبير على السوق السياحية العالمية. فتونس تعد وجهة جذب سياحي مفضلة للسياحة الشاطئية المتوسطية تتميز بالعرض السياحي بأسعار تفضيلية الذي يستقطب الطبقات المتوسطة الأوربية والتي شكلت القاعدة الواسعة ضمن سبعة ملايين سائح استقبلتهم تونس في سنة 2008. وقد تأثرت هذه الطبقات المتوسطة في أوربا الغربية كما هو معلوم بفعل الآثار الاجتماعية للأزمة المالية والاقتصادية العالمية وهو ما حد من قدراتها الذاتية على الطلب السياحي. وفي الجزائر، فإن الوضع السياحي يختلف عما هو عليه في كل من المغرب وتونس من حيث أن الجزائر تستقبل أعدادا أقل من السواح إذ تشير إحصائيات وزارة السياحة الجزائرية أن إجمالي السواح بلغ في سنة 2007، 1,74 مليون سائحا من بينهم حوالي 510.000 من الأجانب ضمنهم 170.000 سائحا فرنسيا و 1,23 مليون سائحا جزائريا يقيمون خارج البلاد. وتراهن الجزائر على تنمية السياحة الصحراوية التي تأتي في سلم الأولويات ولو أن سنة 2009 سجلت نقصا في الإقبال السياحي على مناطق تامنراست ودجانيت وطاسيلي ناجر وهي من المناطق الصحراوية الخلابة جنوب شرق الجزائر وقد يوجد في صحراء الجزائر من المحاسن ما لا يوجد في غيرها وهي من الوجهات السياحية الكبرى. ولعل نمو القطاع السياحي وتطوره وتزايد عدد السواح الأجانب القاصدين هذه المناطق الصحراوية يساهم فيه الأمن والاستقرار. وتعمل السلطات الجزائرية على توفير المنشآت السياحية من فنادق ومتاحف وكهوف وبرامج سياحية بالسيارات والأنترنيت. ومن تم فإن آثار الأزمة العالمية على القطاع السياحي الجزائري تظل محدودة بل إنه لا أثر لهذه الأزمة على السياحة بالجزائر كما تؤكد عليه وزارة السياحة الجزائرية.(2) ومن جانبه، سجل المغرب 8 مليون سائح في سنة 2008 أي بنسبة نمو وصلت 7% مقارنة مع سنة 2007 وهو ما يدر 5,2 مليار أورو (58 مليار درهم) من العائدات التي حققتها السياحة المغربية. ويشار إلى أن هذه العائدات المالية تراجعت في سنة 2008 بما نسبته 1% قياسا إلى سنة 2007 ويعود سبب هذا التراجع أساسا إلى تقلبات سعر الصرف بالخارج حسب تفسير وزير السياحة المغربي. وفي مواجهة تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على السياحات المغاربية، بصورة متفاوتة وبوتائر متقاربة إلى حد ما في تأثيراتها على الواقع السياحي المغاربي، تسعى البلدان المغاربية الثلاثة إلى اتخاذ تدابير واعتماد سياسات عمومية للحد من تفاقم الصدمات السلبية على قطاع السياحة كقطاع نشيط هادف وواعد يتفاعل مع قطاعات خدماتية أخرى كالصناعة التقليدية والنقل الجوي وإلى حدّ ما مع تنمية الاستثمار المنتج والمدر للدخل وإنعاش التشغيل والاندماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب الوافدين على سوق الشغل. ففي المغرب، أعدت السلطات العمومية استراتيجية للعمل (CAP 2009) للحد من آثار الأزمة العالمية على القطاع السياحي الذي يعول عليه الاقتصاد الوطني وقد تطلب بناء هذا القطاع وتأهيله استثمارات ضخمة من القطاع العام والقطاع الخاص وإعداد تجهيزات فندقية وإقامات سياحية وشبكة مواصلات برية وبحرية وجوية للرفع من مستوى الأداء والكفاءة وتوسيع وتنويع العرض للمنتوج السياحي. كما أن القطاع المالي والبنكي المغربي الذي لم يتأثر بالأزمة المالية العالمية بمقدوره اليوم أن يواصل دعمه للقطاع السياحي المغربي وذلك بتأمين التمويلات الضرورية للمشاريع السياحية وبجلب المزيد من الاستثمارات في المجال السياحي. وفي سياق التوجهات والتدابير الاحترازية والوقائية التي سنتها الدولة في إطار مخطط اليقظة الاستراتيجي والمخطط الاستباقي المضاد للأزمة (CAP 2009) الذي رصدت له الميزانية العامة للدولة مخصصات مالية بواقع 100 مليون درهم، تم التنسيق مع الهيآت التمثيلية للمهنيين السياحيين والفندقيين لإسناد البرامج المرسومة ضمن الاستراتيجية الوطنية للسياحة وتفعيلها على الصعيد الجهوي من خلال خطط العمل للمجالس الجهوية للسياحة. ويتوخى المخطط السياحي (2009 CAP) وهو مخطط إرادي وتوافقي، النهوض بالمهام الآنية التالية : - جلب المزيد من السواح الأجانب عبر تنويع العرض السياحي ورصد الأسواق السياحية (أوربا الشرقية، روسيا ودول الخليج)؛ - إنشاء وحدة تابعة للمكتب الوطني المغربي للسياحة مكلفة بتسويق وترويج سياحة المؤتمرات والندوات؛ - تقوية آليات وأدوات التسويق السياحي عبر الأنترنيت؛ - تنظيم الحملات الإشهارية والترويجية والتعبوية لتنشيط حركة السياحة الدولية والتيارات السياحية من داخل الجالية المغربية المقيمة بالخارج؛ - فتح خطوط رحلات جوية جديدة؛ - تثمين وتقوية وجهات سياحية جديدة وإضافية في أقطاب الجذب السياحي والتنمية الجهوية وإعفاء الرحلات الجوية غير المنتظمة من بعض الرسوم الجبائية. ومن الواضح أن هذه السلسلة من التدابير والإجراءات المتخذة تحسبا للطوارئ في مواجهة انعكاسات وتأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على قطاع السياحة في المغرب باعتباره قطاعا استراتيجيا وأساسيا في الاقتصاد الوطني من شأنه أن يخفف من الإكراهات التي قد تعوق مساره في اتجاه تجاوز حالة الانحسار التي ظهرت في أوائل سنة 2009 واستعادة عافيته في أفق سنة 2010 التي يستهدفها المخطط الأزرق كاستحقاق لبلوغ هدف عشرة ملايين سائح يجب كسبه كرهان مستقبلي للسياحة المغربية.