ما فتئت عصابات تهريب المخدرات تبتكر أساليب متطورة في سعيها للإفلات من قبضة حراس البوابات الحدودية بالعالم، البرية منها والبحرية والجوية، ذلك أنها جعلت من الدلافين سفنا، ومن الحمام سعاة بريد ومن بطون الرضع الأموات مخابئ، ومن الأجهزة الهضمية والتناسلية للإنسان مستودعات لسلعتها. ومن خلال رصد عمليات تهريب المخدرات عبر أكبر محطة عبور جوية بشمال إفريقيا، مطار محمد الخامس الدولي، يلاحظ أن عصابات التهريب عددت ونوعت أساليبها خلال السنوات الأخيرة لتأمين وصول بضاعتها إلى بر الأمان. كما يلاحظ أن هذه العصابات تعمد إلى تغيير خططها عندما تشتد المراقبة الأمنية، ويتم ضبط عدد كبير من عملياتها، حيث يغيب المهربون عن الأنظار لإيهام مصالح أمن المطار بأنها قضت على نشاطهم، أو يتم تغيير مسارات الرحلات الجوية بالقدوم من وجهات لا يحوم الشك حول مرتاديها، أو يستبدل مطار محمد الخامس الدولي بعبور مطار «آمن» تضعف فيه المراقبة ويفتقر إلى التقنيات المتطورة في التفتيش. وقد سجلت المنطقة الأمنية للمطار حالات للتهريب، تتباين بين إخفاء المواد المخدرة في الأمتعة أو الملابس أو في أحزمة السراويل، ودسها بين خصلات الشعر الكثيف المستعار، الذي تتزين به الإفريقيات وفي أغلفة الكتب والأشرطة وداخل المنتجات التقليدية الصنع وغيرها. وانبهر رجال الأمن بأكبر بوابة جوية بالبلاد، حينما اكتشفوا أغرب حالة في العقد الماضي، تجلت في إشباع فروة معطف، فاخرة وناصعة البياض، بمادة الكوكايين، بعد تبليلها وتجفيفها بطريقة خاصة تحافظ على الكمية المهربة. ومن بين العمليات الهامة المسجلة بالمطار في السنة الماضية، الكشف عن ستين صفيحة من مخدر الشيرا (19 كلغ) مدسوسة داخل أغلفة جلدية فاخرة لقوائم وجبات غذائية مغربية، كان المهرب يعتزم السفر بها إلى كندا، فضلا عن إحباط عملية تهريب 19 كلغ أخرى من نفس المخدر نحو ليبيا و15 كلغ من الكوكايين نحو إسبانيا. كما تم اكتشاف 28 كويرة من مخدر الشيرا، يعادل وزنها كيلوغرامين وسبعمائة غرام، مدسوسة داخل فوانيس تقليدية الصنع تفوح منها رائحة الثوم، كان زوجان إيطاليان يعتزمان التوجه بها من مدينة الدارالبيضاء نحو لندن. ويمكن القول إن عصابات التهريب أضفت على عملياتها صيغة التأنيث، بتوظيف أعداد لا يستهان بها من العابرات الإفريقيات اللواتي يركبن أمواج المخاطرة في سبيل كسب قدر من المال لا يوازي حسب ضباط الشرطة القضائية حجم المغامرة التي تقودهن في أبسط الأحوال إلى السجن إن لم تكن المقبرة أحيانا. وقد شكلت سنة 2007 منطلق مسلسل تعرية وفضح فئة المهربين الذين يلجأون إلى حشو جهازهم الهضمي بالمخدرات؛ فقد بلغت حصيلة ستة أيام فقط على تجهيز الوحدة الطبية لمطار محمد الخامس الدولي بجهاز الكشف بالصدى (18 يناير إلى 23 منه) 10 كيلو غرامات من الكوكايين، كان 20 عابرا، معظمهم من نيجيريا، يبتلعونها على شكل كبسولات. وكانت حصيلة الأيام الستة تلك، تعادل تقريبا الحصيلة السنوية الكاملة لعام 2006 حسب السلطات الأمنية (17 كلغ من الكوكايين)، مما يعني أن أسلوب التفتيش والمراقبة التقليديين، كان ضروريا تعزيزه بتقنية أكثر تطورا، تثبت شكوك العناصر الأمنية حول كل مشتبه به. وبعد صيف سنة 2008 لاحظ المراقبون تراجع وتيرة التهريب عبر الجهازين الهضمي والتناسلي، بل إن الأشهر الثلاثة الأخيرة من السنة ذاتها لم تسجل أي عملية تهريب تذكر من هذا القبيل، وهو ما يؤكد فرضية تغيير استراتيجية العصابات الجهوية والإقليمية بغرض التمويه. ويصف المدير العام للمكتب الوطني للمطارات عبد الحنين بنعلو الأسلوب الوقائي المتطور المتمثل في تجهيز الوحدات الطبية بالمطارات الرئيسية بالمملكة بأجهزة الفحص بالصدى، على انه سابقة من نوعها على مستوى المطارات الدولية، مشيرا إلى أن هذه الأجهزة أربكت كثيرا عصابات التهريب وزعزعت ثقتها في نجاعة الحيل والأساليب التي يبتكرونها، بعد سقوط أعداد هامة من المهربين الموظفين من بلدان إفريقية مختلفة. وتجدر الإشارة إلى أن جهاز الفحص بواسطة الصدى يوظف أيضا لإنقاذ حياة المهربين الذين يلجأون بمحض إرادتهم إلى الوحدة الطبية للمطار بعدما يشعرون بأحشائهم تتقطع من شدة المغص، ولا يجدون بدا من النجدة للتخلص من كبسولات الكوكايين التي تهدد حياتهم. كما أن المشتبه بهم من المهربين المعروضين من قبل رجال الأمن على أنظار فريق الوحدة الطبية للمطار، لا يتم فحصهم إلا برضاهم طبقا لأخلاقيات مهنة الطب، حيث يتم نصح المهرب وإقناعه بالخطر الذي يتهدد حياته في حالة الحفاظ على تلك الأجسام الغريبة في أحشائه. ومن الأحداث المأساوية التي عرضت على فريق الوحدة الطبية للمطار في الصيف الماضي، حالة مسافر سينغالي فقد الوعي عندما كانت الطائرة التي تقله من السينغال إلى مدريد فوق الأجواء المغربية، حيث اضطر الربان إلى النزول بمطار العاصمة الاقتصادية قصد إغاثته. ونظرا لكون المسافر «المهرب» كان مغمى عليه تماما، فقد تعذر على الفريق الطبي معرفة سبب إغمائه، وعلى الرغم من ذلك تم نقله على وجه السرعة إلى مستشفى ابن رشد بالدارالبيضاء حيث فارق الحياة ساعتين بعد ذلك. ويرى مصدر طبي مسؤول بالمطار أن الأجهزة الهضمية تختلف من إنسان إلى آخر، وأن حشو المعدة يخضع لشروط قلما تتم مراعاتها أو إدراك حجم تأثيراتها السلبية على الإنسان، ومدى خطورتها على حياته. وأوضح أن كل تأخير في عملية وضع الكبسولات المبتلعة، يؤدي إلى انتفاخ هذه الأخيرة وانفجارها في البطن معرضا حاملها إلى موت محقق، مشيرا إلى أن الفريق الطبي بالمطار يصادف أنواعا من الكبسولات تختلف حجما ولونا وشكلا وسمكا، كما يفاجأ أحيانا بكبسولات وظفت فيها أكياس عازلة وواقية من الأمراض التناسلية ومانعة للحمل. وعلى الرغم من ارتفاع عدد ضحايا التهريب عبر العالم، الزاهقة أرواحهم في عز الشباب أو القابعين منهم وراء القضبان، فإن العصابات الجهوية والإقليمية والدولية، لا ولن تتوقف عن الابتكار والتجديد في أساليب التهريب لتحقيق أهدافها، حيث يبقى باب الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه أمام اليقظة المستمرة لخبراء مكافحة المخدرات وحيطة حراس الحدود. (وم.ع)