من خلال تتبعنا لتطور الخطاب السياسي بالمغرب خصوصا في زمن العهد الجديد يتضح جليا أن الدولة حسمت رسميا مع التوجه السياسي النهائي للبلاد. لقد عبر جلالة الملك مرات عديدة على ضرورة دعم الإصلاحات في مختلف الميادين في إطار المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. إنها إرادة قوية للدولة لمواجهة الغموض الذي يكتنف العمل السياسي المغربي. لقد تأكد عزمها في الاستمرار في دعم المجهودات العمومية لتحقيق التنمية البشرية في أفق تطوير قيم المواطنة على أساس استعمال العقل وتعميق النقاش الفلسفي والفكري بشأن قضايا المجتمع. ولتفادي كل المغالطات، فعندما نتحدث عن الحداثة في السياق المغربي لا نعني بذلك الابتعاد من الهوية المجتمعية ولا الفصل بين القديم لصنع الجديد كما يروج لذلك بعض الجهات الرجعية، بل نعتبرها مفهوما يهدف إلى تجاوز التقليد غير المبرر عقليا وعلميا والذي لا يتلاءم مع متطلبات العصر. كما أن تطويرها بوتيرة سريعة سيمكن المغاربة من مناهضة مصادر الشرعنة المبنية على استغلال الجهل والظروف الاجتماعية المتدهورة للمواطنين. إن الدعوة إلى الحداثة ما هي إلا دعوة لتقوية روح المواطنة من خلال خلق الظروف الملائمة لتمكين المغاربة من طرح السؤال باستمرار لتجاوز الجوانب المعقدة التي تعرقل تحويل الماضي إلى جسر يخضع الممارسات والسلوكيات الماضوية إلى تنقية عصرية تصفي ثراتنا من المفاهيم التقليدية العقيمة. جسر يمكن المجتمع المغربي من التطور بشكل طبيعي بعيدا كل البعد عن الانغلاق والتمظهرات التقليدية والخطابات التي تدعو إلى الاكتفاء بالجذور فقط لتحقيق التطور الذي يبقى ذا طبيعة خيالية. إن تطوير الحداثة في بلدنا العربي الإسلامي سيجنبنا آفة استغلال الدين، كعقيدة في ملك الأمة المغربية، من أجل تحقيق أعراض سياسية انتهازية (التلاعب بالانتماء العقائدي لخلق تهيج الانفعالات والسخط على الواقع). إن المحاولات المتكررة لاحتكار الدين الإسلامي من طرف البعض (الجماعات الثيوقراطية( على حساب الكل يعد جريمة في حق المجتمع وخيانة عظمى في حق الوطن والدين. وعليه، بات من الضروري أن نرقى بنقاشاتنا السياسية إلى مستوى الحسم النهائي في هذا الأمر إنصافا لتعددية الزمن وحركية التاريخ. وهنا يمكن اعتبار ابتداع السبل والآليات الكاذبة والتمادي في خلط الأوراق وبعثرها أمام المواطنين لتحقيق منافع فئوية ضيقة سيؤدي إلى الابتعاد عن قيم الدين الإسلامي الحقيقية المبنية على أساس التسامح والحب والتضامن والمسؤولية واستعمال العقل. إن مرور بلدنا من مجتمع قروي إلى مجتمع في طريقه إلى التمدين في سياق عالمي يرتكز على المنافسة يفرض علينا بذل الجهود لتطوير نسيجنا الإنتاجي من خلال الاعتماد على «تقنيات الذكاء الصناعي» وتجاوز الخطابات الإسلاموية العقيمة والمعرقلة لمسلسل التحرر الفكري للمواطنين. وأعتقد أن مقوماتنا الحضارية تتوفر على كل الإمكانيات لتمكين حداثتنا من صياغة طابع خاص بها. طابع يرتكز على العقل والعقلانية والإيمان بكل مبادئ التنوير وقيم النزعة الإنسانية. إن ثقافتنا وهويتنا المغربية العربية الإسلامية كفيلة لتجعل منا مجتمعا متضامنا لا يمكن أن يبني سعادته ورقيه على حساب الآخرين بل من خلال توسيع نطاق الفعل التواصلي في مجال الأخلاق والحياة الاجتماعية أي من خلال أنسنة النتاجات العقلانية في إطار يستند إلى التفاعل الاجتماعي والتفاهم المتبادل بين الذوات. وما يؤسف له، فعوض أن تستثمر المقومات السالفة الذكر ذات الطابع الإنساني في الزيادة من حدة العقلنة الاجتماعية في مجال الأخلاق والقانون وفي تقوية تنظيمات سياسية ديمقراطية وحداثية وقوانين وضعية فعالة، نجد بعض الجهات تستغل هاته المقومات لخلق انفعالات ظلامية يكون ضحيتها المواطن العادي المغرر به ويستفيد منها مروجو هذه الأفكار. إن غنى ثراتنا كفيل بجعل الممارسة الإنسانية عمل وتفاعل في نفس الوقت أي كفيل بتحديد علاقة الناس بعضهم ببعض. وإذا كانت إشكالية أنسنة العلاقات بين الأفراد والجماعات مطروحة في الحداثة الغربية وتحتل حيزا كبيرا في النقاشات بشأن ما بعد الحداثة، فإن وضعنا المغربي، خصوصا بعد التوافق السياسي، يمكن له أن يتحول إلى أرضية مشجعة لخلق التوازن بين الاقتصاد والجوانب الأخرى من الحياة. توازن في العلاقات الاجتماعية بين المواطنين من جهة وعلاقتهم بالمادة والعالم الخارجي من جهة أخرى. يحتاج المغرب إلى حداثة قادرة على الحفاظ على القيم الفردية وعلى أسس التساند الاجتماعي وعلى مد الأفراد بدرجة مقبولة من الوعي الجمعي الحقيقي. كل المغاربة يعرفون أشد المعرفة ركائز دينهم (الأركان الخمس)، ويمارسون شعائرهم الدينية بكل حرية، ويفرقون بين الحرام والحلال ومتضامنين في موارد عيشهم (تقاسم المداخيل). وأعتقد أن التمادي في تكرار الخطابات في هذا الشأن من باب التلاعب بأحاسيس الناس لتحقيق مصالح شخصية تصرف وسلوك مرضي اللاإنساني.