إلى ال «أحمد» ين العزيزين: المديني وبوزفور - 1 - وببساطة.. هي كل ما أشرت إليه في احتمالاتك الكاشفة لجزء من فاكهتنا المشتهاة ولوعتنا الدائمة، وبعيداً عن بحر النظريات النموذجية والقوالب الجاهزة، نضيف: هي حرقة الإنسان الحقيقية وطوق النجاة من زنازن اليومي الوحش الجائع الصادم، وصلاة محروسة لا يلج معبدها سوى من آمن بالحاجة للاختلاء بالنفس وأسئلتها الحارقة. - 2 - يخيل إلي أن الدافع وراء جرح السؤال، استنكار مكتوم وقلق محرض، وعجب لا يضاهى من قدرة كائنات القلم على الاستمرار في عشق حسنائهم الكتابة، و الإمساك بجمرتها التي يدرك جوهرها وجدواها ورثة العشق الصافي ومريدو الانفلات من قسوة الخوف والخواء والتلاشي. لأن آلام الخواء جارحة أكثر، خواء الموتى الضاج بحركية الأشباح، والذي يبيعه لنا دهاقنة استغلال الدم البشري مطليا بكل المثيرات وأنواع الإغراء والتنويم، ضد هذا الخواء إذن تنهض الكتابة، لأنها بطبعها ترفض الفراغ!! وحتى لا تضيع دهشة كائنات تحتمي برداء الشهادة والشهداء، وحفاظا على دفء السؤال وبراءة عشاق الحياة المغدورة، والكلمة الموحية لا مناص من التأكيد المعلوم: إنها وسيلتنا المتبقية كي لا تفرغ الرؤوس من أحلامها الطفولية المؤثثة بقيم الحرية والبراءة والمسؤولية الطبيعية تجاه الأنا والآخر، وما يمنح الوجود معناه البسيط المفتقد. وضد هيمنة منطق المطلق الشمولي البغيض، تنهض الكتابة، أكثر من أي وقت مضى، بإلحاح وعناد، تفتح متاهات السؤال والقلق والشك في هوية ومصير الموجود. - 3 - والكتابة فاكهة مقدسة لشجرة ظليلة جذورها في تربة الجراح والأحزان الدفينة، وأغصانها تتعالى في سماء البوح والفضح تحمل أعمالا فنية متباينة اللغات والقيمة لأعلام وأسماء وجدت نفسها مجبرة على نقش دليل العبور، وهي بفتنتها وسحرها للمحرومين شجرة مباركة معزولة لا تحرسها شرطة ولا تحميها جمارك ولا شيوخ يوزعون وصايا الانصياع والخنوع، فوق تربة تسقيها آيات الألم ودموع المحروم، أحزان اليائس، غضبة المكلوم وحيرة العاجز حين يسترق من واقع الموت وقتا يطارد فيه حلما هاربا وبقايا كبرياء توثق لجراح تنزف فوق البياض سواداً يدل على معاني ويسمح بتأويلات، وبعدها.. نتطهر، نجد الخلاص في استعادة العطش للحياة والحلم بالممكن الأحق والأسلم. ولكل امرىء ما نوى... - 4 - هوية صراع أبدي لنار أسطورية متوحشة تأتي على حطب اليابسة المشاع، ولهيب شغب غير مأذون يصر على إثبات المرور قرب طاحونة الأيام المسعورة، ومن بين رماد المحو وديدانه، فيما تحفظه الصدور، قرب شواهد القبر وحفريات الظلم والظلام، تنبت شجرتنا المحروسة، نؤرخ لعبورنا المؤقت بإبداع فني يحلم بالقبض على اليومي القاهر الغارق في تفاصيل الرعب والحزن والحروب التي لا تفارق عيوننا المتعبة. بسبب ذلك، تصير الكتابة، تلك الشجرة المعلومة، استراحة كل محارب يسرق من زحمة الوقت فجوة لرؤية الذات عارية مما علق بها من أوساخ الأساطير والادعاءات وأوهام ذوي النيات السيئات، ويصير السفر معها وبها رحلة إجبارية تدمنها كائنات عنيدة تنعم بخروجها عن القطيع، رحلة صوفية يدرك حلاوة عذاباتها من تمسك بإنسانيته واقتربت عنده متعة البوح والوصل بعيون قراء محتملين يمنحون للكتابة وجودها الفعلي الملموس، ويدخلون محرابها متأهبين متعطشين لمن يطفىء نار الفضول الإنساني وجمرة اليومي الحارقة ويهديها فسحة لتبادل الهموم وإعادة ترتيب شؤون النفس لتتصالح مع «نفسها» وتتحمل صدمات الجديد وكوابيس الحاضر وخيبات الآتي. - 5 - وللصدفة يد في الأمر.. وما الذي يستطيع فعله كائن عايش جراحات أمة وضياع أحلام وأدركه قدر الانتماء لأمة دائخة تتلاعب بها أعاصير قوى خرقاء؟! ما الذي يمكن أن يفعله كائن عايش في طفولته ضياع وطن وانكسارات وهزائم، وشاخ على خبر اغتصاب بكارة أرض طاهرة واستباحة خلجان وتمريغ أنفها مكرهة في أوحال الجهل المركب وذل المهانة وجميع صنوف العجز والتبعية والحاجة (؟!) وما الذي يمكن أن يفعله كائن أصابته دهشة الصدمة جراء صمت الإخوان الخرفان ذات صيف قائظ وهو يرى مجازر تحصد الأهل في صبرا وشاتيلا وآلاف الجثث والأحلام تدفن بتواطؤ مع ظلمة الليل تحت الأضواء الكاشفة وأزيز الوحوش الآلية «الطراكس» على مرأى ومسمع من عيون الأمم غير المتحدة وخصام مفتعل بين حراس ثورة مسرنمين وديكة نظام عالمي وشماتة وسطاء أغبياء يناورون من أجل إبعاد حلم الشهيد بعيداً عن موطنه (؟!!). وماذا يفعل الكائن عند ملتقى ساحة الوطن ودرب الشهداء الشرفاء حين يشهد عشاق الوردة الحمراء وحماة النضال الفاعل يوضعون في منافي الغربة وحالات الاعتقال المشاع، بينما سلالة الطاعون من قتلة الحلم البسيط والخونة وسماسرة البيع والشراء في مواطنتنا المعلومة والمضمرة يلعبون وسط الغابة المتوحشة لعبة «غمّيضة» الحقيرة لممارسة النهب و القتل والخنق والاختطاف ومحاصرة الناجين من عشاق الشجرة المباركة حيث لا يبقى بعدها سوى الظلمة والقهر وعار الاستسلام وبقايا إنسان (؟!!) وما الذي يمكن أن يفعله من ظل حيا ورأى اغتيال الحلم وركوب اللحية لزورق النفاق والعميان وعودة الظلمة مدعومة بأموال عباءات الماء الأسود لاحتلال ساحة الخطابة والمزايدات والرقص على حبل الملائكة والمتناقضات (؟!!) - 6 - ما الذي يمكن فعله غير الاحتماء بالكتابة وهدم الكثير من التواطؤات والقناعات وبناء الأسس اللازمة لعوالم أخرى لا أثر فيها للخطأ أو الغلط... وبسبب ذلك، ولأجل هذه النية المبيتة/ التصور والغايات صعبة التحقيق، تمارس الكتابة فتنتها وتقود الكائن مرغماً إلى تشويه الجماجم المسكونة بهوس السيطرة والهيمنة والتسيد وفضح خفاياها وميولاتها الدموية ونزوعها الدائم نحو قطع الألسنة والتعتيم على الآمال والآلام. ولحسن حظ الكائن، تبقى الكتابة توثيقا لرحلة غير مأمونة العواقب نحو مستقبل غامض يصنع تفاصيله اليوم آدميون وأشباه إنسان. وملاذا متاحا لكل مصاب بلعنة التخييل والإبداع والسفر الذاتي الحر في العمق الإنساني وعتمات النفس عله يعثر في الواقع على ما يشبهه عارياً من أسمال التوازنات والإكراهات والخطط الملغومة العرجاء. نقول كلمتنا ونرحل، نهدي أولاد اليوم والغد شهادة تنتصر لأحلام البسطاء ووصايا الشهداء، ضد القتلة والطغاة ومصاصي دماء البشر ومغتصب الحريات.. تلك هي الكتابة التي تعنينها، وغيرها.. حاليا.. لا يعنينا. -7- وهذا هو جوهر الكتابة وأصل اللوعة، طيلة تاريخ البشرية، لذلك، ولأسباب عدة، اقترب الشعراء من مرتبة الأنبياء، واخترق الرواة دائرة الحكماء، تقودهم جميعا كلمة صادقة تغار على كرامتها ورسالتها المفترضة، وتحكمها جماليات الوصل وبلاغات الإفصاح، ألم يقل شيخنا الجاحظ «إن المعاني مطروحة في الطريق» والمهم هو أسلوب وصنعة الكلام.. والمجد دائما لجديد الشجرة وكتابة المقاومة... وتلك كما قال العزيز عبد الرحيم مودن قصة أخرى.