مارتن شولتز، رئيس مؤسسة فريديرش إيبرت، وأحد الزعماء التاريخيين للحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني وقائده في مرحلة من المراحل، ورئيس البرلمان الأوروبي في فترة من فترات التقاطب الفكري والسياسي، رجل لا تثْقله الفكرة، بل يَخفُّ بها إلى درجة عالية من الرقة. وبالرغم من أن المناسبة التي جمعتنا به، في المكتب السياسي للاتحاد، هي مناسبة سياسة تنظيمية تفرض طقوسها المتجهمة في الكثير من الأحيان، فإن الإطناب الذي يتركه الجلوس إليه يطير بصاحبه إلى مجال أوسع وأرحب. سواء في مقر حزب الاتحاد الاشتراكي أو في بيت الكاتب الأول إدريس لشكر. اللقاء الذي جمعنا به بدأ ب»نوتة» مرحة، بمجرد أن انسحب الصحافيات والصحافيون الذين جاؤوا لتغطية الاجتماع، مساء أول أمس الثلاثاء. حكى قائلا:»ذات زيارة إلى الدنمارك استقبلتني الملكة، وبمجرد خروج الصحافيين الذين كانوا يغطون الحدث، أغلقت الأبواب وسألتني بلهفة: هل تدخن؟ قلت : لا قالت لي: أليس لديك مانع في أن أدخن؟ قلت: جلالتك هذا قصرك ويمكنك أن تفعلي ما تشائين! « ما سيدور من بعد، كله حديث عن عالم يتحرك على إيقاع اللايقين، وعن الجدوى من الفكرة التقليدية اليوم لإنقاذه من تخبطاته والعودة إلى السيرة الوردية للسياسة : من الشرق الأوسط إلى أوروبا مرورا بفوز ترامب وديون دول أوروبا القوية، وملامح ما يجري في أوروبا التي تعود إلى مرحلة مشابهة، مرحلة توحيد الألمانيتين، وخروج هيلموت كوول لطمأنة الأوروبيين ومنهم الفرنسيون بإنشاء العملة الموحدة من أجل مصير موحد… كل ذلك نقله بمهنية وتدقيق الزملاء في مكتب الرباط، بقلم عبد الحق الريحاني. لكن الدعابة الذكية والتي تخلق جوا من الألفة والرفاهية السعيدة لم تقف عند تدخين ملكة الدانمارك، بل سيتواصل طوال اللقاء وعند مأدبة العشاء السخية في بيت الكاتب الأول. في تعقيبه على كلمة الكاتب الأول للاتحاد، الذي ذكر بالزيارة الأخيرة لقيادة الحزب إلى ألمانيا واستضافة أعضائها من طرف الحزب الاشتراكي الديموقراطي قال السيد شولتز، في لمسة تواضع مرحة : «أعتذر عن غيابي عن ندوتكم ولقائكم مع قيادة الاشتراكي الديموقراطي في بلادي. ولربما إن غيابي هو الذي … أنجح اللقاء» ! وفي اللقاء ذاته ستقوده تداعياته إلى الحديث عن الذاكرة الوارفة للحزب الاشتراكي الديموقراطي والحركة الاجتماعية الديموقراطية والحركة العمالية الاشتراكية والأرشيف من أربعة طوابق تحت أرضية ببرلين. صورة أصلية لويلي براندت الذي يعد معلمه، رفقة أعضاء مكتب الأممية الاشتراكية ومنهم «باباندريو» اليوناني و«اولاف بالم» السويدي و«برونو كراكسي» الإيطالي، ووراء ويلي براندت يظهر واقفا كل من إسحاق رابين وياسر عرفات، وبالرغم من الخلافات والمواجهات الحربية، كان هناك نقاش خلاق وبحث عن مسارات مشتركة على قاعدة الاحترام المتبادل واللاعنف، تحت مظلة الأممية الاشتراكية وقتها… ويسارع إلى الخلاصة بالقول : « كيف يرى الأوروبيون العالم العربي والشرق الأوسط. والعالم يتساقط بلدا تلو آخر في سلال القطاف المتطرف يمينا، وكيف تبدو الفكرة الاشتراكية ضرورية من أجل إحياء اليوتوبيا والحلم لإنقاذ عالم متغير ومتقلب وبلا مزاج مطمئن… بقناعات واضحة يقول بأنه تلميذ ويلي براندت، واحترامه للمبادئ الثلاثة (الإقرار بالواقع، كما هو موجود، ورفض العنف في معالجة إشكالاته ووضع أرضية للحل، قد تكون مؤقتة ولكنها تصبح صالحة، للمدى البعيد). ويعود ويلي براندت في جلستنا، ويلي الذي كان رجل دولة ألمانيًّا وسياسيًّا، كان زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني (SPD) من 1964 إلى 1987 وشغل منصب مستشار جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) في الفترة من 1969 إلى 1974. حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1971 لجهوده في تعزيز التعاون في أوروبا الغربية من خلال المجموعة الاقتصادية الأوروبية وتحقيق المصالحة بين ألمانيا الغربية وبلدان أوروبا الشرقية. وكان أول مستشار من الحزب الديمقراطي الاجتماعي منذ عام 1930. فرّ إلى النرويج ثم السويد خلال فترة حكم النظام النازي، وعمل كصحفي يساري، واتخذ اسم ويلي براندت كاسم مستعار لكي لا ينكشف أمره من قبل عملاء النازية، ومن ثم اعتمده كاسم رسمي عام 1948. وعند تبادل الهدايا البروتوكولي المعتاد، كشف السيد شولتز عن روح الأديب عندما أراد التمهيد لتسليم الهدية التي أهداها إلى الكاتب الأول للاتحاد، وهي عبارة عن كتاب عن حياة الألماني القيادي الآخر هيلموت شميدت. حكى شولتز عن رفيقه هيلموت شميدت، الذي خلف ويلي براندت في قيادة الحزب وقيادة ألمانيا، قال إنه رجل لا ينسى، مضيفا:"قبيل وفاته التقيت به في بيته وكان معنا مساعده الخاص، لما كان وزير الدفاع. رأيت كتاب سيرته في مجلدين كل مجلد من 700 صفحة، أي ما مجموعه 1400. يقول شولتز: سألت هيلموت شميدت، هل قرأت كتاب سيرتك هذا؟ أجابني: لا ولما سألته: كيف لا، ولمَ لم تقرأه ؟ قال: لأنني كنت موجودا في كل هذا الذي كتبته! وهي سيرة في الواقع ثرية باعتبار أن شميدت هو أطول مستشاري ألمانيا عمراً، تم انتخابه مرة أخرى في البوندستاغ وعمل في حكومة براندت وزيرا للدفاع، ووزيرا للاقتصاد، ووزيرا للمالية والاقتصاد، وفي عام 1974 انتخب هيلموت شميدت مستشارا لألمانيا الغربية خلفا لويلي براندت ليصبح شميدت خامس مستشار ألماني بعد الحرب العالمية الثانية. قبل الانتقال إلى المأدبة رويت قصة تنسب إلى الفقيه العلامة والوطني المختار السوسي، وفيما تقوله القصة إن "العلامة قال ذات مرة اثنان لا مزاح معهما، الإيمان والألمان!" ابتسم شولتز وقال ما معناه إننا جديون كثيرا، وأضاف بأن نابوليون قال عن ألمانيا ما مفاده بأن نصف سنتها شتاء والباقي من السنة ليس فصل صيف! بما يفيد بأنهم جديون حد البرودة! على طاولة العشاء في بيت الكاتب الأول الأخ إدريس، ووسط عائلته، تحدث السيد شولتز عن العالم، وعن العالم الأوروبي وعن العالم الاشتراكي الديموقراطي ومتاعبه… وعن عالمه الصغير، وقصصه مع ابنته ومواجهتهما، بأسلوب سلس ومرح، كما لو أن الالتزام السياسي هو محبة وأدب وسياسة وعلاقات إنسانية ودية. حكى بسلاسة عن أصدقائه، الفرنسيين بالخصوص، عن فرانسوا هولاند، وعن ساركوزي وعن إيمانويل ماكرون، بدقة شديدة في رسم البروفايل الصائب للسياسيين، والقدرة على تلخيص الكلام حول مواضيع ذات طبيعة معقدة. ليس الأمر هو ما قاله بل أن ترسخ في الذاكرة تلك الخفة في الانتقال من موضوع شائك إلى قصة عائلية مع الابنة، وربط ذلك بتاريخ روسيا مثلا والمرحلة القيصرية .. والخلاصة الثورية التي تدفع إلى الضحك.. كانت جلسة، للعلم المرح والمعرفة الجذلانة!