تستكشف رواية «بيتنا الكبير» للكاتبة ربيعة ريحان مسارًا زمنيًا، يمتد من الربع الأول من القرن العشرين إلى ستينيات القرن الماضي، من خلال سرد حكايات أفراد عائلة متعددة الأجيال، حيث تُقدم الرواية شخصية الجد كنموذج فريد مُغاير عن أعراف المجتمع، فقد اختار طريقًا غير مألوف، مُمهدًا الطريق للأجيال القادمة.. تروى القصة من منظور «فريدة»، الطفلة التي تمّ فصلها عن حضن أمها «عقيدة» للعيش مع والدها وزوجته في «البيت الكبير». يحدث هذا الانفصال زلزالًا في حياة فريدة، ويترك أثرًا عميقًا في ذاكرتها، مما يُحفّزها على استكشاف حكايات أفراد عائلتها، بدءًا من الجد الأكبر إلى الأب والأم وزوجة الأب، وهكذا تُقدم الرواية تحليلًا دقيقًا لعلاقات أفراد العائلة وتفاعلاتهم، مع تسليط الضوء على الاختلافات والتناقضات بين الأجيال. من خلال اختيار الكاتبة لعنوان «بيتنا الكبير»، يتضح للقارئ أهمية حضور «العائلة» في حياة البطلة. إنها ليست مجرد كلمة تعني المكان الذي نعيش فيه، بل هي تنبيه مهم يشير إلى تجمعات الأحبة والأقارب، الجدات والأجداد، العمات والخالات، الصغار والكبار، والبراعم، كلهم يشكلون جزءاً لا يتجزأ من هذه القبيلة الممتدة. تتفرع الأسرة كشجرة كبيرة، تمتد فروعها في كل اتجاه، وتشكل أفرادها قصصًا حية مليئة بالماضي والحاضر، وبذلك تكشف الرواية ببطء عن هذا العالم، مستمدة قصتها وأحداثها من تجارب أفرادها المختلفة. إنه عالم يتكون من ذكريات الجد الأكبر «كبور»، بروحه القديمة، وخبرته الثرة، وكفاحه المستمر، ونزقه الفريد، وصندوق أرشيفه الذي يحتفظ بكنوز الزمن الماضي. الراوية تقدم هبة القادرة على جمع هذا الماضي، وتتبعه بدقة، لتختزل حياة كاملة بأفراحها وأتراحها، تعقيداتها وخفاياها، أخطائها وتضحياتها، وبذلك تترك بصمتها العميقة على أجيال نسل هذا الجد، محتفظة بتاريخهم وإرثهم بكل جوانبه. رغم التحولات التي شهدتها قصة «بيتنا الكبير» عبر الزمن، إلا أن إحدى أبرزها كانت قدرة المرأة على بناء هويتها الخاصة بعيدًا عن قيود المؤسسات التقليدية، خاصة المؤسسة الزوجية التي غالبًا ما تكبح طموحاتها. ترتبط هذه القدرة بفهمها لأهمية التعليم في تحقيق ذلك، حيث يُمكنها من توسيع آفاقها وتجسيد آمالها في مجتمع يعترف بحقوقها واختياراتها. ومع ذلك، كانت الرحلة المؤلمة لفريدة تحت سقف المهنية تجعلها تعاني من الإحباط والعزلة، وتبتعد عن تحقيق طموحاتها الشخصية والمهنية. ورغم ذلك، استطاعت فريدة أن تنتصر على تلك الصعاب بفضل الكتابة، فأصبحت لها وسيلة للتعبير عن ذاتها واستكشاف مسارات جديدة. بواسطة الكلمات، تستطيع أن تخوض رحلة داخلية محورها البحث عن الذات وتحقيق النضج الشخصي. ومع ذلك، لم تكن هذه الرحلة خالية من التحديات، فقد واجهت فريدة عقبات عديدة على طريق التغيير وتشكيل هويتها الجديدة، ولكنها استمرت في السعي نحو تحقيق حريتها واستقلاليتها في اتخاذ القرارات وتحديد مسار حياتها. أما إذا انتقلنا إلى جانب البناء الروائي، فإننا نجد أن رواية «بيتنا الكبير» تتصف بلغة سردية مميزة تُضفي عليها سحرًا خاصًا وجاذبية للقارئ، وتتسم هذه اللغة بالعديد من الخصائص التي تجعلها سهلة التناول ومُقربة من الواقع، مما يُساهم في إيصال الرسالة الروائية بشكل فعّال حيث إن الكاتبة تعتمد على تركيبات لغوية سلسة بعيدة عن التعقيد، مما يجعل النص سهل الفهم على القارئ العادي. وتبتعد عن استخدام المصطلحات المعقدة أو الألفاظ الغامضة، وتُفضل استخدام لغة واضحة ومباشرة تُوصِل المعنى ببساطة ويسر، هذه اللغة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع، وتُجسّد الأحداث والمشاهد بشكل حيوي وملموس، وتستخدم الكاتبة العديد من الأوصاف الدقيقة والتراكيب التشبيهية التي تُضفي على النص واقعية ملموسة وتُقرب القارئ من الأحداث وكأنّه يعيشها بنفسه. اعتمدت الكاتبة في بناء الرواية على تقسيم النص إلى 30 فصلًا قصيرًا مرقمًا، مما يُساعد على تنظيم السرد، وتسهيل عملية القراءة على المتلقي. وتُتيح هذه الفصول للقارئ فرصة أخذ قسط من الراحة بين كل فصل وآخر، ممّا يُساعده على التركيز على الأحداث والاستمتاع بقراءة الرواية. وفي الختام، تضفي الكاتبة على روايتها ديناميكية خاصة من خلال تداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر. وتتنقل بسلاسة بين سيرة الجد وحياة حفيدته فريدة، مما يُثري السرد ويُضفي عليه عمقًا تاريخيًا واجتماعيًا. وتُساهم هذه التقنية في ربط الأحداث ببعضها البعض، وتوضيح تأثير الماضي على الحاضر. -ربيعة ريحان «بيتنا الكبير» دارالعين للنشر، ط1،/2022