رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في نظرة خاطفة على ربع قرن من الزمن، بإنجازاتها وتحدياتها، تتبين معالم بارزة لاختيارات مسار طوعي لترسيخ حقوق الإنسان، بمجتمع يعتز بتنوع ثقافته وغنى روافد هويته، يتملك ماضيه ويتسلح به وبتعدده لاستشراف مستقبله. لم يكن تملك ثقافتنا ولغتنا الأمازيغية والاعتزاز بهما وبمكانتهما، بعيدا أو منعزلا عن هذا المسار، بل كان واحدا من أبرز محطاتها... وإن لم تكن اللغة والثقافة الأمازيغية، حين انطلاق الألفية الثالثة، وافدا جديدا أو بعيدا عن التداول العمومي الوطني... ذلك أن استعمال هذه اللغة في كل مناطق المغرب ضارب في القدم، شأنه في ذلك شأن الاحتفاء بثقافتها وطنيا وإقليميا. ما يميز هذا المسار الجديد، المتواصل طيلة عقدين ونيف، هو اكتساب الأمازيغية لطابع مؤسساتي بارز، في الدولة والمجتمع، عبر مراحل ومحطات خمس رئيسية، متعاقبة يبني بعضها على بعض. تتجلى أولى هذه المحطات في جعل الأمازيغية في صلب القرار السياسي، من أولويات المسار، حيث يعتبر الخطاب الملكي بأجدير في 17 أكتوبر 2001، نقطة تحول مهمة في مسيرة مأسسة الأمازيغية، لغة وثقافة، باعتبارها مكونا أساسيا للهوية المغربية. لقد ارتكزت مبادرات عديدة لاحقة على هذه المحطة لتعزيز مكانة الأمازيغية في المجتمع المغربي، فضلا عن إحداث مؤسسة تعنى بتطوير هذه الجوانب، هي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. أما المرحلة الثانية في هذا المسار، فتجلت في تطور دينامية البحث الأكاديمي والتاريخي والاجتماعي، الذي أماط اللثام عن الاعتبارات الثقافية والاجتماعية، ومكننا من الانتقال من الأمازيغية كلغة وطنية إلى الأمازيغية كلغة فكر وتلقين وتداول وتأليف، تكتب بحروف تيفناغ، لتصبح لغة مدرجة في منظومة تعليمنا الوطنية سنة 2003... لغة متداولة بشكل واسع، تكتب وتدرس بحروفها الخاصة، لم يكن ينقصها سوى اعتراف دستوري يعزز مكانتها... وهكذا كان، في ثالث المحطات الرئيسية التي همت لغتنا وثقافتنا الأمازيغية، وهي محطة الإقرار الدستوري سنة 2011، الذي جعل من الأمازيغية لغة رسمية للدولة والمجتمع، إلى جانب اللغة العربية، باعتبارها جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية متعددة الروافد ومن التنوع الثقافي. لقد كرست هذه المحطة المشترك الجامع بين مختلف مكونات المجتمع، في بلد يطمح إلى جعل الاعتزاز بالانتماء والتعايش بين مختلف ثقافاته الوطنية عملة وطنية لا تنتهي صلاحيتها بمكان أو زمان... لقد أكدت هذه المحطة بالذات، بعد استفتاء شعبي شامل، التزام المغرب الثابت بتعزيز تعدديته الثقافية وتطوير لغته الأمازيغية واستخدامها في مختلف مناحي الحياة العامة. بعد هذه المحطات الرئيسية الثلاث، جاءت مرحلة رابعة، لا تقل لا أهمية ولا زخما، وهي محطة التفعيل التشريعي، بإصدار قانون يحدد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في الحياة العامة والمجالات ذات الأولوية، من أجل تعزيز استعمالها في التعليم والصحة والعدالة والثقافة والإعلام. لا شك أن من شأن استخدام اللغة الأمازيغية في مجالات الاستعمال اليومي ذات أولوية سيمكن لا محالة من تسريع وتيرة التفعيل الرسمي والفعلي وضمان فعلية تمتع المغاربة بحقوقهم اللغوية والثقافية كاملة. سنة 2023، توج هذا المسار بمحطة رئيسية خامسة تمثلت في صدور قرار يحتفي بكافة الأبعاد المؤسساتية لرافد من روافد غنى وتعدد ثقافتنا وتنوعها. لقد كانت السنة الماضية سنة الإعلان عن خطوة أضفت طابعا خاصا على مسار تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، الذي ما كان له أن يكتمل من دونها، خاصة أنها ترتبط في جوهرها ومغزاها بالاحتفاء بعادات وثقافة المجتمع المغربي ومأسية الاعتراف بها. هكذا كانت أهمية إقرار جلالة الملك في ماي 2023 رأس السنة الأمازيغية، إيض يناير، عيدا وطنيا ويوم عطلة رسمية مؤدى عنها... لنحتفي، بعد 8 أشهر ونيف في 14 يناير 2024 بشكل رسمي ومجتمعي، يعزز الاحتفاء الشعبي والجماعي الذي كان قاعدة قائمة، برأس السنة الأمازيغية ويصبح 14 يناير إذن تاريخا بحمولة ودلالات خاصة في مسيرتنا لمأسسة لغتنا الأمازيغية الرسمية وثقافتها غير أن هذا لا يعني أننا رفعنا جميع الرهانات... فكافة الفاعلين المعنيين على وعي تام بالتحديات القائمة، خاصة أنه توجد على المستوى الفعلي وتيرة أو وتيرات مختلفة بين القطاعات في أشكال التخطيط لعمليات تفعيل اللغة الأمازيغية، فضلا عن التحدي الأكبر، الذي يتجلى من وجهة نظري في ضمان التنفيذ الفعلي للسياسات والمبادرات المتعلقة بتعميم استخدام اللغة الأمازيغية في مختلف المجالات. ليس هناك غنا اليوم أو بديلا لأولوية وضرورة توفير الموارد البشرية والمالية اللازمة لضمان تدريس اللغة الأمازيغية بشكل يعزز الكفاءات التي ستسمح باستخدام لغتنا الرسمية في جميع مناحي الحياة العامة، شأنها شأن لغتنا الرسمية العربية. لقد تميز انطلاق الألفية الثالثة بالمغرب بإعلان سقف طموحات وأهداف مسار انطلق ولم/لن يتوقف، لتثبيت مسار نؤمن به؛ وبكل تأكيد، سيتواصل!