بحلول ذكرى عيد العرش لهذه السنة تكون قد مرَّت 25 سنة على تقلد الملك محمد السادس العرش وتولي الحكم، وهي مدة تجعل من الضرورة متابعة الديناميات المتعددة التي خلقها الملك طيلة هذه الفترة، التي تقارب ربع قرن، ضرورة وطنية خاصة وهي تتزامن مع الخطاب الذي سيلقيه الملك والمخلد لهذه الذكرى، وهو ربع قرن من الممارسة الملكية التي خلقها في مسار حكمه خاصة مع النَّفس الذي أعطاه للمغرب تزامناً وانطلاق مشروعه الإصلاحي الذي انعكس إيجاباً على مختلف الملفات على رأسها الملف الدبلوماسي الذي انتقل إلى مرحلة جديدة قوامها التأثير الإيجابي في عدة ملفات حيوية، وطنية وأخرى دولية ذات بعد أممي، بحيث عمد عاهل البلاد إلى القيام بثورة دبلوماسية، في السياسة الموجهة للخارج سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى طبيعة التحركات والمبادرات التي تم القيام بها. على مستوى الخطاب:
خطاب المغرب الموجه إلى الخارج شهد تغيراً جذريا، وهو تغير كان يتطور مع تطور السلوك الدبلوماسي للمغرب، ففي مرحلة أولى كان هذا الخطاب يتجه نحو تعزيز مقاربة الحضور الناعم للمغرب في الساحة الدولية، برز بشكل كبير في الخطب الملكية المرتبطة بمرحلة ما بين ما قبل ولحظة طرح مبادرة الحكم الذاتي، حيث كان هناك تهييئ للرأي العام الدولي من أجل تقبل فكرة حل نزاع الصحراء على قاعدة جديدة، طريق ثالث يتجاوز فكرة " الاستفتاء" ويتماشى مع ميثاق الأممالمتحدة. لهذا كان خطاب المغرب على المستوى الخارجي يتميز بنوع من الهدوء، وناعم...لينتقل لمرحلة أخرى للكثير من التدقيق ليس فقط على مستوى الحل الذي طرحه المغرب لكن أيضاً على مستوى طبيعة العلاقات الخارجية التي أصبحت تجمعه مع عدة دول، سواء في العلاقات التي تجمعه مع شركائه، أو في العلاقة مع مختلف المؤسسات الدولية حتى وصلنا إلى خطاب العرش الأخير ليضع عاهل البلاد النقط على الحروف ويجعل من ملف الصحراء المحدد في علاقة المغرب مع الخارج، وقبله ما طرحه الملك في وضع حد فاصل بين أن يكون " الشخص وطنيا وألا يكون"، ليحسم الموضوع على المستوى الداخلي خاصة المنطقة، فانتقل إلى مستوى آخر في الخطاب الموجه للخارج بحيث حدد بشكل واضح أسس الشراكات المتنوعة التي جمعته بعدة دول، من خلال ضبط اللغة التي توجه بها إلى الخارج، فقد حسم موضوع الحل من خلال تأكيده ألا نقاش خارج مبادرة الحكم الذاتي، ثم حدد المنظار الذي سينظر به المغرب إلى الخارج، ألا وهو منظار الموقف من قضية الصحراء، فكان خطابه واضحاً مع الخصوم والأصدقاء، ومع الشركاء الذين كان ينتظر منهم خطوات تراعي العلاقات التاريخية التي تجمع تلك البلدان بالمغرب، لهذا كان يتوجه لها بشكل مباشر في خطبه مطالباً إياها بحسم ترددها والانسجام في موقفها مع المواقف الدولية، فكان أن انتزع اعترافاً أمريكياً بمغربية الصحراء وبعده اعترافات أوروبية انطلقت بإسبانيا وألمانيا لتتلوهما دول أوروبية أخرى صارت داعمة للحكم الذاتي ... ولولا وضوح خطابه الدبلوماسي المعتمد على الصراحة والصرامة وتدقيق المواقف والتوجهات الدبلوماسية لما استطاع المغرب أن يحقق المكاسب التي حققها، ولما استطاع الخروج منتصراً من كل الأزمات والضربات التي كان يُراد توجيهها إليه، هنا لابد من استحضار خطابه الموجه إلى الأمين العام السابق بان كيمون عندما أراد الانحراف بملف الصحراء فكان أن أعاد الوضع لسكته الطبيعية ولمساره السياسي الأممي، كما لابد من استحضار خطابه الموجه إلى الاتحاد الأوروبي وإلى بعض الدول الأوروبية خاصة لحظة استغلال مؤسسات أوروبية لضرب صورة المغرب الحقوقية لينتصر عليهم بقوة مضمون خطابه الدبلوماسي المستند إلى القانون الدولي، خاصة في عدة قضايا مرتبطة بملف القاصرين، بشكل خاص، والمهاجرين غير النظاميين، وملف اللاجئين وجل الملفات التي تجمع المغرب بأوروبا... لتنتهي كلها باعتراف غالبية الدول الأوروبية بجدية ومصداقية مبادرة الحكم الذاتي، ولينتزع المغرب مواقف واضحة داعمة لسيادته الكاملة على ترابه ولسيادته الداخلية... لهذا كان للخطاب الملكي الدبلوماسي الأثر الكبير في توجيه عمل المغرب خارجياً، ليس فقط على المستوى الرسمي بل أيضاً الشعبي، فبات تحرك الأدوات المتعددة للدبلوماسية المغربية يستند إلى مضمون خطابه.
على مستوى الممارسة الدبلوماسية:
تميزت الدبلوماسية المغربية، طيلة 25 سنة من حكم محمد السادس، بانتقالها إلى مستوى جديد من المبادرة، وإطلاقها، والخروج من دائرة الشك إلى دائرة الثقة، ثقة الدولة في مختلف الفاعلين من خلال ما طرحه الملك، بشكل رسمي وواضح، من فكرة ضرورة " تحرير المبادرة الدبلوماسية"، وعدم انحصارها وجمودها، وهي فكرة دفعت باقي المؤسسات خاصة منها المجتمع المدني إلى اتخاذ مبادرات شعبية، غير رسمية، من أجل تعزيز الطرح المغربي لحل نزاع الصحراء، ليتم تحرير من خلال ذلك الدبلوماسية الرسمية من أية قيود مرتبطة ببقايا الحرب الباردة، والتكتلات الدولية الكلاسيكية، فكان أن تموقع المغرب دوليا وفقاً لما يخدم مصالحه الاستراتيجية وقضاياه الحيوية على رأسها ملف الصحراء، دون التنازل عما يمكن تسميته بالثوابت المغربية على مستوى الكيفية التي يتعاطى فيها مع العديد من الملفات الدولية، فكان أن تحرك المغرب، وبشكل شخصي من الملك، نحو روسيا والصين دون أن يتعارض ذلك مع العلاقة التي تعززت مع الغرب، على رأسه الولاياتالمتحدةالأمريكية، ودون أن يسقط المغرب في فخ التموقع مع تكتل إقليمي ضد آخر، وهنا كانت قوة الدبلوماسية المغربية التي قادها الملك نحو التعاطي الرزين والهادئ مع هذه القضايا، فلم يجد المغرب أي تناقض في الإعلان مثلا عن دعمه لوحدة أوكرانيا ورفض التدخل الأجنبي فيها والحفاظ على مصالحه وتعزيزها مع روسيا. الملك طيلة هذه المدة دفع في اتجاه اتخاذ قرارات استراتيجية مهمة أدت إلى تحول جذري في السياسة الخارجية المغربية، نزل الملك بكل ثقله لتكون عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي بالقوة والحضور اللذين يراعيان مكانة بلد بحجم المغرب، فيه احترام لوضع اعتباري كبير لملكية مغربية لها جذورها الممتدة روحيا في إفريقيا، ليكون حضور الملك في القمة الإفريقية لحظة عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي بالتصور الذي طرحه في الرسالة الملكية التي وجهها عاهل البلاد إلى دول الاتحاد الإفريقي لتكون عودته واسترجاع مقعده بروح داعمة للتنمية والديموقراطية داخل إفريقيا، وإعادة إصلاح الاتحاد الإفريقي بمقاربة تجعله في خدمة السلام، وليس أداة من أدوات تصفية الحسابات الدولية من خلاله، كما كان حاصلاً في السابق، وهو ما بدأ يبرز منذ عودة المغرب إلى هذا التكتل الإفريقي واستناده إلى القواعد الكبرى التي حددها الملك، خاصة مع الزيارة التي قام بها إلى عدة دول إفريقية أعادت بعث الروح التي ظلت ممتدة مغربياً للداخل الإفريقي، وهو ما تُوج بسحب عدة دول إفريقية لاعترافها بالكيان الوهمي، وافتتاح قنصليات لها بالصحراء، وإطلاق مشروع أنبوب الغاز نيجيريا /المغرب، واختراقه لغرب إفريقيا الذي كان محوراً مغلقاً في ما مضى على التواجد والخطاب المغربيين، ثم أخيراً مشروع وضع البنية التحتية المغربية بالمحيط الأطلسي جنوب المغرب تحت تصرف وفي خدمة التنمية لدول الساحل، في خطوة لاقت دعماً دولياً وأممياً كبيراً جداً. عاهل البلاد، منذ توليه العرش، وهو يتحرك ويتفاعل، إيجابياً، مع ملفات اعتبرت بمثابة قضايا وطنية، على رأسها الملف الفلسطيني، فكان أن لعب دوراً كبيراً وشخصياً على مستوى هذا الملف لتحقيق السلام، وحل النزاع على أرضية حل الدولتين، سواء لحظة الهدوء أو لحظة العدوان كما هو حاصل الآن، بحيث استطاع المغرب بالضغط وثقل شخصية الملك على مستوى الملف الفلسطيني-الإسرائيلي إدخال مساعدات إنسانية للداخل الفلسطيني بقطاع غزة، رغم العدوان، واتجه نحو دعم مختلف القرارات الأممية الصادرة في الموضوع وغيرها من المبادرات التي تم اتخاذها قصد وقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وهي كلها مبادرات ملكية تتجه نحو دعم السلام وحل الملف على قاعدة الشرعية الأممية وقراراتها، ورغم هذا الوضع المأزوم بالمنطقة فقد اتجه نحو لعب دوره بالقدس الشريف والاستمرار في دعم سكانها خاصة القدس الشرقية في توجه واضح نحو وقف كل عمليات التهويد والاستيطان، وقد قام بكل هذه الخطوات والمغرب قد وقع الإعلان الثلاثي مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، وهو إعلان لم يمنعه ولم يقيد مبادرات الملك الشخصية والرسمية تجاه فلسطين، بل ازداد حجمها وقوتها وتنوعت تجاه مختلف مكونات الشعب الفلسطيني. إن هذين النموذجين " ملف الصحراء، فلسطين" يعتبران مثالاً للتطور الذي شهدته الدبلوماسية المغربية بقيادة الملك محمد السادس طيلة توليه الحكم، حتى بات الملفان هما المحددان للتوجهات الخارجية للمغرب ويعكسان حضوره الإقليمي القوي، وهما من بين علامات التحول الاستراتيجي الذي شهده المغرب منذ تولي ملك البلاد العرش، واعتباره قنطرة نحو إقرار السلام، السلام بمنطقة الساحل من خلال حل ملف الصحراء، والسلام بالشرق الأوسط من خلال مساعدة أطراف الصراع على تحقيق السلام المنشود. إن الحديث عن التحولات الدبلوماسية في شقيها المرتبط بالخطاب والممارسة، له إشاراته الكبيرة في ما يتعلق بالمقاربة الجديدة التي ترتبط بالعهد الجديد، وبلمسة ملك البلاد في قيادة المغرب، وأسلوب في الحكم وتدبير الشأن الدبلوماسي باعتباره شأناً استراتيجياً، وشكَّلت علامة من علامات اللمسة الملكية لفترة حكمه، فنجاح هذه الخطوات كان بفضل تأسيسها على قواعد دستورية واضحة تعتبر التوجهات الاستراتيجية الدبلوماسية للمملكة المغربية مجالا محفوظاً للملك استطاع في ذلك أن يحقق الكثير من المُنجزات ويكرس العديد من المكتسبات الدبلوماسية لصالح المغرب، وما محطة عيد العرش إلا لحظة لإعطاء نفسٍ جديد لهذه الروح الدبلوماسية المستندة إلى إرث عريق للمملكة المغربية.