تثير مسالة غياب الجمهور عن الأنشطة الثقافية والفنية جدلا واسعا بين الفاعلين في المجال الثقافي عموما ومعارض الفنون التشكيلية على نحو خاص. وبرأي المتتبعين قد يكون هذا الغياب نتيجة مجموعة من الأسباب والعوامل أهمها ،ضعف التسويق والترويج للمنتوج الثقافي وعدم نجاعة أو كفاية الإعلانات والمعلومات حول النشاط المزمع القيام به. عدم جاذبية محتوى المعروض الثقافي، بحيث يستشعر الزائر منتوجا لا يثير اهتمامه إما بسبب ضعفه الإبداعي أو مجرد تكراره في نسخته غير مبتكرة. ومن جانب آخر. قد يلعب اختيار توقيت غير مناسب للعرض دورا أساسيا في العزوف، بسبب تزامنها مع محطات اجتماعية محددة كالامتحانات الإشهادية والاختبارات الجامعية مثلا . مسألة أخرى غاية في الأهمية تتعلق بوجود فضاء العروض في مكان جغرافي منعزل وبعيد جدا عن الزوار حيث يصبح السفر مكلفا ماديا أجرة التاكسي ذهابا وإيابا . وإجمالا،هناك العديد من العوائق والإكراهات الاجتماعية التي تثني الناس عن المشاركة والحضور. وإذا كان البعض يرى في غياب النجاعة لدى المنظمين وضعف المنظومة الدعائية سببا محوريا . فإن البعض الآخر ينحو باللائمة على صناع المحتوى الثقافي أنفسهم حيث يبقى إنتاج واستهلاك المادة الثقافية مناسباتيا ومحدودا جدا.وبالتالي يصبح غياب الجمهور عن الأنشطة الثقافية ملحوظا .وتلك إشكالية عامة تتجدد ولا تقتصر على محور دون آخر . لقد أصبح ذلك لافتا ومحرجا في آن سواء تعلق الأمر بالندوات الفكرية أو معارض الفنون التشكيلية أو غير ذلك. ومن اللافت جدا ظهور المقاعد الوثيرة شبه فارغة وعدد الحاضرين لا يتجاوز العشرة باحتساب المنظمين في أغلب الفعاليات والأنشطة الثقافية والفنية التي تنظم هنا أو هناك. لذلك يجدر التأمل والسؤال أين الخلل؟ في هذا الحوار، يتحدث الأديب والفنان التشكيلي عمر الصديقي إلى الاتحاد الاشتراكي حول هذه الظاهرة وعن النقاش المفتوح حاليا في أوساط الفنانين والمهتمين بالشأن الثقافي وعن تأثيرها السلبي في مسار العملية الثقافية والفنية عموما. كما يتحدث أيضا عن تجربته في عالم التشكيل ورؤيته للمجال الفني بالمغرب، وعن تقاطعات آرائه مع الآراء الأخرى، ويقدم تشخيصا جريئا لوضعية العرض التشكيلي والمعارض الفنية حاليا، بإضافة إلى حديثه عن مواضيع أخرى بالغة الأهمية تجدونها في الحوار التالي: بداية ذ عمر الصديقي الجمهور بالثقافة عموما والمعارض الفنية على نحو خاص أية علاقة ؟ أعتقد أن علاقة الناس بالثقافة وبالمثقف تحديدا ظاهرة ملتبسة ومعقدة وتحتاج إلى مختبر رقمي لتفكيكها وتحليل أسبابها وأعطابها النفسية والإبستيمولوجية . في السياق نفسه سبق لي أن أقمت طيلة شهر يونيو 2024) معرضا تشكيليا بقاعة المعارض التابعة لمديرية وزارة الثقافة بتازة بمناسبة اليوم العالمي للبيئة، فكانت كل لوحاتي المعروضة ( 27 لوحة) مستمدة من الطبيعة والتراث المغربي، انسجاما مع المناسبة لكن، بالرغم من الجهود المبذولة على مستوى مديرية الثقافة بتازة بشأن الإعلان والملصقات والدعوات ووجود قاعة محترمة و مضيئة صالحة للمعارض، سجلت بأسف شديد عدم الإقبال على ليس على المعرض التشكيلي فحسب، بل كافة الأنشطة الثقافية بالمدينة، ويبقى الحضور نوعيا وغير محفز، واستهلاك المادة الثقافية محدود جدا، ربما لعوامل اجتماعية وتربوية وأيضا لاعتبارات ثقافية صرفة. مادامت أغلب الأنشطة الثقافية والفنية اختيارية ومجانية. أين يكمن الخلل .في الجهة المنظمة مثلا أم في طبيعة المادة المعروضة…؟ في تقديري هناك أسباب وعوامل متباينة، يتداخل فيها ما هو اجتماعي بما هو تربوي أو له علاقة بمفهوم محدد ونمطي للثقافة . قد يكون لقلة الوعي أو سوء تقدير لقيمة الأنشطة الثقافية والفنية ورسائلها السامية للمجتمع . وقد تكون التمثلات والأحكام المسبقة حول المنتوج سببا مباشرا وحاجزا لدى بعض الناس . هناك فئة عريضة من الناس لا يدركون أهمية هذه الأنشطة أو قيمة مضامينها في الارتقاء بالوعي واستنارة الفكر. ويبدو لي أن المدرسة المغربية والتلفزيون الرسمي بتعدد قنواته حتى لا نتحدث عن الأسرة التي تفكر في الصالون قبل المكتبة. هؤلاء لم يقوموا بواجبهم في التعريف بالرسائل الهادفة للوعي بدور الثقافة والفن على النحو الأمثل. وما هو حاصل الآن لا يكفي .. ثم إن غياب التنوع في المعروض الفني ومراعاة الأجندة الثقافية العامة كذلك عدم تقديم برامج تناسب مختلف الأذواق والمستويات العمرية يشكل إكراها حقيقيا . كيف تقيم تفاعل الجمهور مع معرضك الفني الأخير ؟ بهذا الخصوص ، لا أعتقد أن ثمة تقصير من قبل الجهة المنظمة. لقد تم توجيه الدعوات إلى الكثير من الفعاليات والأدباء والمهتمين والأصدقاء محليا وإقليما عبر مختلف وسائل الاتصال (هاتف انترنيت ملصقات دعوات ورقية وشفاهية..)، ورغم حجم الجهود الفنية والتقنية المبذولة على مستوى مديرية الثقافة بتازة بشأن الإعلان عن المعرض التشكيلي الذي سيقام بقاعة المعارض التابعة لمديرية وزارة الثقافة بتازة بمناسبة اليوم العالمي للبيئة.أقول رغم إعلان وتعميم الملصقات وتوجيه الدعوات ووجود قاعة عرض محترمة و مضيئة صالحة للمعارض، وإذا ما استثنينا يوم الافتتاح الذي تميز بحضور العديد من المبدعين والفنانين والشعراء والكتاب الذين تفاعلوا إيجابيا مع مضامين اللوحات وأغنوا النقاش الفني والتقني حولها، واستحسنوا مبادرة تنظيم هذا المعرض التشكيلي. فبكل صراحة وموضوعية . فقد سجلنا بأسف شديد عدم الإقبال على هذا النشاط الثقافي الأنشطة بالمدينة على النحو المطلوب باقي أيام العرض ويمكن أن نقول إن الإقبال كان محتشما جدا والتفاعل ضعيفا للغاية. هل يواكب الفنان التشكيلي نشاطا يقام بمدينته؟ هنا تحديدا، تتباين آراء المثقفين والفنانين وتختلف وفقا للقناعات والمرجعيات الثقافية والفكرية .وأعتقد أن المثقف الفنان هو المعني بالدرجة الأولى . بل من المفترض أن يكونوا الأوائل قبل الموعد . وهم الجمهور الأول الرسمي والنوعي للتظاهرة . وعندما لا يحضر الفنان التشكيلي لمعرض موضوعاتي في مدينته يكون الأمر مؤسفا للغاية . أن قلة الحضور الجماهيري في محفل ثقافي أو فني بمدينة ما يعد عقبة حقيقية أمام نجاح الفعاليات والأنشطة الثقافية. فالمثقف بمعناه العام أولى من يقدر ويحفز ويثمن التجربة. قد يبدو للبعض أن بعض الأنشطة الثقافية مُكررة. وجديدها ليس جيدا، وجيدها ليس جديدا جيدا و لا تلبي طموحات ورغبات المتلقي. المشكلة أكبر من ذلك . عندما نتحدث عن الجمعيات والهياكل المدنية ذات الأبعاد الثقافية الاجتماعية والتنموية نغرق في بحر لا ضفاف له من التسميات والمسميات . وعندما تبحث عن أثرها في الأنشطة الثقافية والفنية بالمدينة تنصدم . بالكاد تعثر على عنصر أو اثنين . مع العلم أن غايات وأهداف جمعيات وهياكل النسيج المدني اجتماعية تنموية ثقافية في الجوهر.و يمكن القول بتجرد أن هناك تقصير لافت من طرف فئات عريضة من المحسوبين على الثقافة والفن. ومن المفترض أن يكون حرصها على حضور الفعاليات الثقافية و التواجد فيها شديدا وملزما. ليس لأن الإبداع نشاط ومهارة إنسانية وخلق يتميز بتجاوز المعتاد والمألوف السائد، فحسب بل لأن من شأن التفاعل أن يشكل فرصة لإنتاج أفكار جديدة واستشراف أفاق جديدة تبرهن في الغالب على الملكة والموهبة لدى الكائن الاجتماعي . وقد يبدو للبعض أن هذه العملية الإبداعية بسيطة ومتيسرة للجميع، لكن الحقيقة خلاف ذلك، هي معقدة ومركبة تتشكل وتتبلور وفق المعطيات النفسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية والتربوية للذات المبدعة والذات المتلقية. كيف تقرأ الحراك التشكيلي على الصعيد الوطني و بالنسبة لمدينة تازة على نحو خاص؟ بداية ، يمكن أن نقول إن الحركة التشكيلية المغربية انطلقت مع فترة الحماية، اذ وجد المبدعون التشكيليون الأوروبيون الوافدون على المغرب كل الظروف المواتية للإبداع التشكيلي من مواضيع ومادة دسمة وجمال وألوان وشمس وثقافة وتراث…الخ. وكانت نتيجة ذلك ازدهار الفن التشكيلي بالمغرب، لاسيما بعد الاستقلال، حيث ستظهر عدة مدارس تشكيلية ومعاهد تكوين في الفنون الجميلة وأسماء وازنة في هذا المجال. بالنسبة لمدينة تازة، على غرار المدن الأخرى، عرفت التشكيل وازدهرت بها الفنون التقليدية عامة بحكم طبيعتها الخلابة ومناظرها الطبيعية وأصالتها المستمدة من تراثها وتاريخها وثقافتها العريقة المتنوعة ( عربية اسلامية امازيغية مسيحية ويهودية…..) ومادام الشيء بالشيء يذكر. فإن هوسي بالفن التشكيلي يعود لفترة الطفولة، وبالضبط لفترة الدراسة الابتدائية، حيث وجدت نفسي أتناول الفحم والطباشير ومختلف الألوان الطبيعية لأرسم على جدران البيت والأسوار طيورا وقططا وزهورا وجبالا وسهولا ووجوها الخ.، خاصة بعدما التقيت بأستاذ اللغة الفرنسية الذي شجعني على الرسم، فتأثرت به كثيرا في لمساته وحركاته الفنية طيلة مساري الفني إلى اليوم، اذ لازلت أستشيره في أمور عدة ويشجعني دائما على الإبداع. للأسف، ظروف التنقل بين المدن لمتابعة الدراسة والعمل، لم تترك لي كفاية من الوقت لأهتم بشكل متواصل ومنظم بالإبداع الفني، ورغم ذلك، استطعت تنظيم عدة معارض فردية وجماعية أهمها: بتازة سنة 1986 بقاعة أنوال، وسنة 1994بقاعة المعهد الموسيقي، وسنة 2004 بكلية المتعددة التخصصات، وسنة 2014 بمتحف المقاومة والتحرير بتازة العليا. وبمدينة فاس بمعهد التكوين المهني سنة 1999 ، وبالرباط سنة 1996 بقاعة كليلة ودمنة الواقعة بشارع محمد الخامس الرباط …الخ بمن تأثر عمر الصديقي فنيا ؟ في عملي الفني، أنتمي إلى المدرسة الانطباعية الواقعية وأفضل الاشتغال على عناصر الطبيعة، ولكن هذا لا يمنع انني أوظف الرمزية والسريالية في انجاز لوحاتي، والاعتماد على عناصر التراث والثقافة المغربية بروافدها الامازيغية والعربية الإسلامية من أقواس وحروفية وبيئة ومحيط اجتماعي خصب بالمشاهد الأصيلة. تأثرت في العمل بعدة مبدعين أمثال فان كوخ، وكلود موني، ودولاكروى، ومغربيا معجب بأعمال الكثير من المبدعين كأحمد بن يسف ومحمد لمليحي مثلا. هذا وفي غياب الدعم الحقيقي من القطاع الوصي على الثقافة ومن المؤسسات العمومية والقطاع الخاص، لا يمكن مطلقا للفنان أن يواصل خطواته في حقل الإبداع، لا سيما في مدينة ناشئة لا يقبل سكانها على التشكيل والإبداع والثقافة والفكر، بينما تبقى اذ تتطلب مصاريف ومواد وحاجيات تقنية ومادية وإعلامية يصعب على الفنان توفيرها. رغم أن صناعة الإبداع جد مكلفة ، فإنها لا تحظى بالتقدير اللازم من قبل النسيج المدني المثقف.. أعتقد أنه لا بد من ضرورة تربية الجيل الجديد وحفزه على الاهتمام بالثقافة والفن والأدب، لابد للمدرسة والأسرة والإعلام أن يؤدوا رسالتهم التنويرية كما يجب وأن يبدعوا في التثقيف والإخبار والتوعية .وعلى المثقفين والمهتمين بالفعل الثقافي أن يحرصوا على التواجد في الفعاليات المقامة حتى لو لم تكن تدخل في دائرة اهتماماتهم. لقد بات ملحوظا الغياب الصادم للجمهورعن الحضور والمساهمة في الفعاليات الثقافية. كما على المنظمين كذلك مراعاة فترة اختبارات المدارس والجامعات، وأن لا يخططوا للأنشطة في أوقات متقاربة من السنة . فلا بد من وضع بعين الاعتبار خريطة الأنشطة المحلية والإقليمية أثناء التخطيط لتنظيم الفعاليات الثقافية فلكل فعالية جمهورها خاص. أن الثقافة تربية.ويجب العمل على ذلك منذ التنشئة الأولى للمواطن حتى تصبح المسألة الثقافية جزء من الحياة بل الحياة كلها . لقد حول المجتمع الاستهلاكي حياة الناس إلى منظومة من الفزاعات والإكسسوارات والتوافه بعيدا عن الثقافة التي تبني حياة الأمم وتطورها . لابد من الإقرار اليوم أن هناك فئة من الجيل الصاعد لا يعير كبير اهتمام بالثقافة الحقيقية ولا يعترف بروح الفنون ولا رسائل الآداب . وقلما يهتم بالمعارض والأيام الثقافية الفنية، رغم أنها تعلب دورا هاما في تعزيز الوعي بالثقافة والفكر وتساعد على فهم الذات في علاقتها بالآخر . ومن شبه المؤكد أن النقص الحاد في الإيمان بما تحمله الثقافة وما يقدمه الفن من رسالة سامية للمجتمعات هو ما ينفر الناس . فالثقافة وما نعبر عنه من اقتراب من هموم الناس ومناقشة لقضاياهم والتحدث عن مشاكلهم وتحاكي أفكارهم وتوجهاتهم بصيغ جمالية وأساليب غاية في الإبداع والجاذبية. ولعل الحراك الثقافي الذي نحتاجه يجب أن يطور أدواته وأفكاره ليكون حالة مجتمعة مدنية حديثة وقابلة للتحديث. غير أننا نلاحظ أن أغلب الأنشطة الثقافية عندنا لا تزال تقليدية مكرورة ونمطية وتقدم نفسها لجميع الأعمار والفئات . ففي كل سنة نجدها تكرر نفسها دون أي تجديد . شكرا لجريدة الاتحاد الاشتراكي على هذه الاستضافة الكريمة .