بداية لا بد من التذكير أن رسالة الرئيس ماكرون لا يجب تحميلها أكثر مما تحتمل، فهي قبل كل شيء مجرد تهنئة تندرج في إطار أعراف دبلوماسية مرعية بين الدول في المناسبات الوطنية. وهو عمل روتيني يتكرر كل سنة في أهم عيد وطني للمملكة. وفي المقابل المغرب يقوم بنفس الشيء في أهم عيد وطني لفرنسا وهو عيد الثورة الفرنسية، وقد سبق لعاهل البلاد أن بعث برقية مماثلة يهنئ فيها ساكن الإيليزي بالعيد الوطني لبلده قبل أسبوعين فقط أي في 14 يوليوز الماضي. وكان أمر التهنئة سيمر دون إثارة أي اهتمام لولا البرود الذي يخيم منذ فترة على العلاقات السياسية بين البلدين، وما نجم عن ذلك من تعليقات في هذا الاتجاه أوذاك، إضافة إلى الطابع الشخصي الذي برز مؤخرا بعد تصريحات الأديب العالمي وعضو «أكاديمية غونكور» الطاهر بن جلون، والذي أكد أن ماكرون كان قد تجاوز حدود الأدب واللياقة في مكالمة هاتفية مع العاهل المغربي. كل هذه الملابسات تدفعنا للتدقيق في مضمون رسالة الرئيس ماكرون، والتي حوت إشادة خاصة بالملك محمد السادس والإنجازات التي حققها المغرب بفضل تبصره وحكمته، وتحدثت الرسالة عن العلاقات الاستثنائية بين البلدين وعن عمقها وعن إمكانية تطورها نحو الأفضل، ثم انتقلت الرسالة للتذكير بالتحديات الدولية وقدرة البلدين على إيجاد أجوبة مشتركة ملائمة لها.. نحن إذن أمام رسائل مشفرة تحمل إشارات وتلميحات لا تخطئها العين، وهي تدعو ضمنيا إلى تذويب الجليد الدبلوماسي بين العاصمتين، والعودة بالعلاقات الثنائية إلى وضعها الطبيعي والتاريخي. وإذا سلمنا بهذه الفرضية أو القراءة بين سطور التهنئة، فكيف نفسر هذآ الموقف؟ يمكن أن نرجع ذلك إلى تصاعد أصوات السياسيين داخل البرلمان الفرنسي وخارجه المطالبين بعودة الدفء إلى العلاقات مع الرباط، وماكرون في بذلك يصغي إلى حدسه كرجل يحترف السياسة ولا يريد أن يحسب عليه أنه أفسد علاقات متميزة مع شريك وصفه كل الرؤساء الفرنسيين من اليسار إلى اليمين بالشريك الاستراتيجي، ولكن العلاقات بين الدول لا تحكمها المشاعر حتى ولو كانت مدعومة بحدس سياسي، لذلك علينا أن نوجه بوصلة البحث عن الأسباب الحقيقية شطر المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ففي حدها الفصل بين الجد والهزل. وفي هذا الصدد لن أعود إلى تفاصيل تطرقت لها باستفاضة في مقالات وحوارات سابقة، ولكن سأركز على المأزق الذي أوقع فيه الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، مما جعله لا يملك خيارات كثيرة غير مراجعة مقاربته التي أثبتت فشلها. فقد راهن على علاقات قوية مع الجزائر، وإذا بهذه العلاقات الموعودة تتدهور بنفس سرعة تحسنها، وبلغ التوتر مداه إلى درجة إلغاء زيارة أعلن عنها رسميا كان سيقوم بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس وتعويضها بزيارة إلى موسكو في عز الصراع الأوربي مع روسيا. كما أن الشريك المغاربي الآخر لفرنسا يعيش أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة قد تصل إلى حد تصنيفه بدولة شبه فاشلة بسبب تجميد الرئيس قيس سعيد لعمل كل المؤسسات الدستورية التونسية وتركيز كل السلطات في يده، ونظرا أيضا لأزمة تونس الاقتصادية، والتي بلغت حد العجز عن دفع أجور 30% من الموظفين، وعجزها عن توفير العملة الصعبة لتموين السوق الداخلية ببعض المواد الأساسية مثل الزيت والقمح لإنتاج الخبز، وبعض الأدوية، وهو ما اضطرها للخضوع لابتزاز الجزائر مقابل المساعدات المالية والتزويد بالكهرباء والغاز الطبيعي. أما على صعيد باقي الدول الإفريقية في الساحل وجنوب الصحراء فقد توالت الضربات والانقلابات التي أخرجت فرنسا بشكل مهين من مناطق نفوذها التقليدية في إفريقيا الوسطى، ومالي وبوركينافاسو، وغينيا، ومؤخرا في النيجر التي قد تشكل تهديدا حقيقيا لإنتاج الكهرباء في المحطات النووية الفرنسية التي تعتمد كليا على مناجم اليورانيوم النيجيرية، ونحن نعلم أن فرنسا تعتمد على الطاقة النووية بنسبة 70% . ومن جهة أخرى المغرب بعث بإشارات قوية تجاه فرنسا بأنه لا يمكن أن يبقى في قاعة الانتظار طويلا، وأنه قد يستبدل شراكته مع باريس بشراكات مع حلفاء أوربيبن وأمريكيين وآسيويين إذا اقتضى الأمر ذاك. وليس عبثا أن خطاب العرش الأخير ذكر بالاسم إسبانيا والبرتغال وأشاد بالعلاقات معهما، ووصفهما بالبلدين الصديقين، ورغم أن مدريد انتزعت من فرنسا المرتبة الأولى كشريك تجاري للمغرب، إلا أن هذه العلاقات الاقتصادية مرشحة للتطور أكثر والانخراط في مشاريع بنية تحتية كبرى خاصة إذا تم قبول ملف تنظيم المونديال بكيفية مشتركة. وقد يكون من ضمن تلك المشاريع الربط القاري بين أوروبا وإفريقيا الذي تفوق تكلفته 25 مليار دولار، وهناك العلاقات مع الولاياتالمتحدة التي تسارعت وتيرتها في المجالات الاستراتيجية خلال السنوات الأخيرة. وبحضور المغرب القمة الروسية الإفريقية، يكون قد أرسل إشارة من نوع آخر إلى من يهمه الأمر، وقد ردت عليه روسيا بإشارة قوية كذلك وإشادة بالمغرب في كلمة الرئيس بوتن، ثم في التقدير البروتوكولي للمغرب الذي كان الأول، من بين كل الدول الإفريقية، في ترتيب إلقاء الكلمات الرسمية رغم أن المغرب لم يكن ممثلا برئيس الدولة، في حين كان هناك ما لا يقل عن 10 رؤساء داخل قاعة الاجتماع منهم رئيس مصر. ونضيف إلى هذه الإشارات، ذلك الإعلان عن فوز شركة صينية بصفقة الدراسات التقنية والطوبوغرافية لإنجاز خط القطارات السريع نحو أكادير، وهي إشارة إلى إمكانية خروج فرنسا من سباق إنجاز أشغال هذه الصفقة إذا استمر الجليد في العلاقات الدبلوماسية، وهو أمر ينطبق أيضا على أنبوب الغاز مع نيجيريا، والذي تقدر هو الآخر كلفته بأزيد من 20 مليار دولار. أمام هذه المعطيات الجيوسياسية والاقتصادية التي لا تسير وفقا لما تشتهيه سفن المصالح الفرنسية، قد تكون التهنئة بمناسبة عيد العرش بداية لسلسلة من الخطوات قد يضطر الرئيس ماكرون إلى القيام بها لإصلاح ما أفسدته السنوات العجاف من حكمه في العلاقات الخارجية مع المغرب. ولا شك أن أقرب الطرق إلى قلوب كل المغاربة، ملكا وشعبا، هو الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء لأن فرنسا كانت طرفا مباشرا في تقسيم المغرب مع إسبانيا، وساهمت في إطالة عمر الاحتلال الإسباني بسبب تدخلها سنة 1958 في معركة اكوفيون لفك الحصار عن الجيش الإسباني الذي كان محاصرا في العيون من طرف جيش التحرير المغربي. ولولا ذلك التدخل العسكري الفرنسي لكانت الصحراء قد تحررت بالكامل في الخمسينيات من القرن الماضي قبل استقلال الجزائر، التي تحتضن المشروع الانفصالي وتمده بالسلاح وتوفر له القواعد العسكرية وتمنحه التغطية الدبلوماسية، وكافة أنواع الدعم الأخرى، ومنها المالي والإعلامي وغيرهما. من هذا المنطلق تتحمل فرنسا مسؤولية أخلاقية وسياسية وتاريخية تجاه المغرب ووحدته الترابية والوطنية، وأمامها فرصة ذهبية لإصلاح جزء ولو بسيط مما أفسدته. فهل يملك ماكرون الشجاعة السياسية لذلك؟ هذا ما سنراه في المستقبل.