ليست «مزحة» أبدا، فال «كائن الذي لا تحتمل خفته» غادرنا أمس الأربعاء 12 يوليوز 2023 إلى الأبدية و»الخلود» بعد أن اختار مغادرة «حفلة التفاهة» و «الحياة في مكان آخر» يسمح له ب»الضحك والنسيان» أكثر. إنه ميلان كونديرا، أشهر الكتاب العالميين ومبدع الروايات التي حققت شهرة عالمية كبيرة، الروائي الذي عانى من توتاليتارية الحزب الشيوعي بالتشيك، محتميا بعالم الرواية الذي شكّل بالنسبة إليه، وأكثر من ممارسة أي نوع أدبي آخر، موقفاً وحكمة وموقعا اجتماعيا. موقع يستبعد كل تماثل مع السياسة والدين والأيديولوجيا والأخلاق والجماعة. «-هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا؟ – لا، أنا روائي. – هل أنت منشقّ؟ – لا أنا روائي. – هل أنت يساري أم يميني؟ -لا هذا ولا ذاك، أنا روائي». لعل هذه الكلمات من الروائي الأبرز في العالم ميلان كونديرا (1929) تلخص حياة كاملة هرب فيها العملاق التشيكي (لم يسترجع جنسيته التشيكية إلا عام 2019) من كل التصنيفات السياسية والأيديولوجية إلى الرواية. هو الذي ترك بلاده الرازحة تحت القبضة التوتاليتارية إلى منفاه الباريسي عام 1975، ليهرب من زمن الرعب الذي يسيطر فيه شاعر الحزب الأوحد مع الجلّاد، وهو ما صوّره في تحفته «الحياة في مكان آخر». هرب كونديرا من براغ وهو يفكّر بماياكوفسكي الذي كانت عبقريته ضرورية للثورة الروسية مثل شرطة دزيرجينسكي، وهارباً من كل أدبيات الشيوعية الحاكمة وخطاباتها وحماستها الغنائية التي شكّلت بالنسبة إليه جزءا متمما للعالم التوتاليتاري الذي شبّهه بعالم» الغولاغ» مع جدران خارجية موشّاة بآيات الشعر ويرقص الناس أمامها. لم يهرب كونديرا إلى المنفى الباريسي إلا ليشيّد عمارة هائلة في الرواية يحاكم فيها ماضيه بأسره كمن يجلد ظهره بالسوط، وتختلط فيها الأسئلة الكبرى بالسياسة، والفن بأوهامه عن التقدم، بأيديولوجيته عن الثورة والتقدم بسبعة عشر عملاً روائياً مترجماً إلى أكثر من 45 لغة (صدرت ترجمات معظم أعماله بالعربية عن «المركز الثقافي العربي» بيروت/ الدارالبيضاء)، تزدحم في مدخل بيته الباريسي كأنها ردهة في برج بابل وأبرزها «كتاب الضحك والنسيان» (1979) و»كائن لا تحتمل خفّته» (1984) التي تحولت إلى فيلم سينمائي (1988)، يعتبر كونديرا من أشهر الروائيين في العالم، كما كرّسه كتابه «فنّ الرواية» (1985) ناقداً كبيراً يحاور الأعمال العظيمة لماركيز وروث وسلمان رشدي. أضحت عناوين رواياته بمثابة الطوطم للكثير من القراء، بحيث ملأت شذرات منها مواقع التواصل الاجتماعي واستلهم بعضها مغني الراب Nekfeu (كين ساماراس). لم يهرب كونديرا الذي ظل الغزو السوفياتي لبلاده عام 1968 في وعيه بمثابة جرحه النازف إلى أحضان «الإمبريالية» ليمجّد انتصارها على المعسكر الاشتراكي، وظلت الدوائر الأدبية والثقافية ولا سيما القريبة من «جائزة نوبل»، تغمز من ماضيه الشيوعي، ليصوم كونديرا عن التصريحات الإعلامية تاركاً لنا عالماً روائياً لا ينسى: من الجنس الكئيب إلى الضحك الأسود وابتسامة الكلب كارينين وتسمية مدينة كالينينغراد على اسم النقابي المصاب بالتبول اللاإرادي إلى إيماءة يد آنييس على حوض السباحة، إلى وصف الحياة برمتها في روايته الأخيرة ب»حفلة التفاهة «. وبينما كان كونديرا يحظى بتلقٍّ ومقروئية واسعة في فرنسا، كان الكاتب أشبه ب»أب غائب للأدب التشيكي»، حيث ظلّت كتبه ممنوعةً لعقود، لكنّ ذلك لم يمنع بعض القرّاء من الوصول إليها. هذا الحضور البعيد، أو الغياب الحاضر، يفتح الباب على نوعين من العلاقة لدى القرّاء والكتّاب التشيكيين مع كونديرا: إما احترام الأب وإنجازه والمشي على خطاه وحتى انتظار عودته يوماً ما، أو إلقاء اللوم عليه والبحث عمّا يدينه، أو السعي إلى تناسيه وتجاوزه. ولعلّ وصول أعمال كونديرا المتأخّر إلى بلده الأم، بعد عقود من المنع، عقّد أيضاً من علاقة الكاتب مع القرّاء من مواطنيه، كما يقول الناقد بيتر بيلك، الذي يشير إلى غرابة هذا التلقّي، حيث كُتب عددٌ من أبرز أعمال كونديرا في السبعينيات والثمانينيات، لكنّها لن تصبح متاحة أمام التشيكيين إلا بعد عام 2006، وهو ما يتطلّب نوعاً خاصّاً من القراءة وإعادة وضع النصوص في سياقها. منذ مغادرته بلاده تشيكوسلوفاكيا عام 1975، مُختارا العاصمة الفرنسية باريس مكان إقامة له، و»تهمة» التخّي عن الوطن الأّم تلاحق الروائي التشيكي ميلان كونديرا (1929)؛ تُهمةٌ لطالما نفاها صاحب «الخلود» (1988)، مُعتبراً أنها تندرج في سياقٍ يرتبط بماضيه المعارِض لنظام الحكم الشيوعي، الذي طالما عبرت رواياتُه عن انتقاده له، وللطريقة التي أطّر فيها مفهوم الفنّ. ورغم قلّة التصريحات التي كان يخرج بها كونديرا إلى الإعلام، تبقى الأفكار والمواقف التي يُطلقها على لسان شخصياته كفيلةً بإثارة جدلٍ نقديٍّ دائم. لكنّ هذا الجدل بقي لمدّة طويلة بعيداً عن لغته الأمّ وقرّائه فيها، على عكس حضوره الكبير في لغات أُخرى، وعلى رأسها الفرنسية إلى أن جاءت الخطوة التي بددت هذا الجفاء في أبريل الماضي (2023) بافتتاح مكتبة في مسقط رأسه مدينة برنو التشيكية ، تضم ثلاثة آلاف عنوان من مكتبته الخاصة، بعد أن كانت محفوظة في شقته بباريس.. كونديرا روائيا يتحرك عالم ميلان كونديرا الروائي بين مجموعة من الأقطاب، الخفة والثقل، الروح والجسد، القوة والضعف، ضحك الملائكة لأن كل شيء له معنى، وضحك الشياطين لأن العالم كله لا معنى له. إن قدرة كونديرا على دمج الفلسفة والتاريخ والأحلام، والموسيقى والرومانسية في رواياته، وعبر قالب متحرك، وقابل للقراءة بمرونة، ما هي إلا شهادة على أصالته وموهبته الاستثنائية، وليس ذلك المزيج لدى كونديرا لمجرد حشد كثير من الأفكار، لكنه حاجة روائية لديه، فغالباً ما تبنى روايات كونديرا على موضوعات فلسفية لا تقل أهمية عن الحوار أو الشخصية. لكونديرا اليد الطولى في حشر العالم في الرواية، بحيث تغدو رواياته الشيء الذي «ليس منه بد»، في كل مجال يمكِّنك من فهم العالم. رواياته بعيدة عن أن تكون محددة الهدف والوِجهة، ففيها لا يريد الكاتب سردًا تاريخيًا ولا فلسفيًا ولا سيكولوجيًا ولا اجتماعيًا ولا وضعيًا ولا إيديولوجيًا ولا ميتافيزيقيًا، بل كل هذا الميراث الإنساني دفعة واحدة. فالرواية تقف عنده على نفس السوية مع الفلسفة وعلم النفس في فهم خفايا الكائن الإنساني، بل وتزيد عليهما بقدرتها على اجتياح الأنا بطريقة أكثر ودّية، والاقتراب أكثر من فهم تناقضاتها التي تصعب أحيانًا على الدراسات العلمية البحتة. تتناول أغلب أعماله مواضيع تأملية عميقة خاصة بالوجود الإنساني، دون أن تكون هذه الوجهة وجهته الوحيدة في الرواية، ودون أن تؤطر هذه الأدوات أيّ من حالات السعي المتكررة نحو فهم الأنا. لا حصر لما يمكن أن تُحبه في عوالم كونديرا، فكل شي يعد اكتشافًا، اكتشافًا بالمعنى العميق للكلمة. اكتشاف هواجسك، جهلك، عواطفك، أخطائك، أفكارك، سخريتك، فجورك، وخاصة الوجه الثاني لما تعرفه عن نفسك. إنه عالم مكدس ومكثف من الاكتشافات. الاكتشافات التي يمكن أن تمر عليها عادة دون أن تشعر بها أو تستطيع تسميتها أو تلقي لها بالًا. اختصار العالم إلى فكرة، والفكرة إلى كلمة والكلمة إلى فراغ… هو السحر الذي يطغى على سطوره، خاصةً تلك التي يتخذ فيها كونديرا وجهه التأملي التهكمي ليُلقى بضوء الخالق على كائناته العالقة بالفعل أو بالحدث وعلى الأخص بالتأمل. لكن هذا الفراغ لا يظل فراغًا مبهمًا، بل يؤلف عالمًا واسعًا للاحتمالات الإنسانية، عالمًا للامكانيات المنطقية واللامنطقية التي لا يمكن لعلم أو نوع أدبي أن يضمها سوى الرواية. بقوة كلمات كونديرا، التي لا تتعب من المراوغة وتعابيره المنطرِحة من ثِقل المعنى، يُغرق كونديرا رأسك بالماء ثم يخرجه ليدَعَكَ تتنفس بضع دقائق هواءً نقيًا، قبل أن يعود ويغطس رأسك مجددًا في حوض الماء. إنه يتسلى بك، ولكنك تكاد تطير من الفرح واللذة، تُطلق له حريته وتسامحه على حركته السادية تلك، مقابل أن تحصل على المتعة المثقلة بالمعاني والدلالات، مقابل أن يهبك هو داخله الفسيح..