بعد إعادة انتخاب رجب الطيب اردوغان رئيسا لتركيا يرتقب أن تتصاعد طموحات أنقرة لتعزيز نفوذها الاقتصادي وتأثيرها السياسي، كما تشير إلى ذلك البرامج الانتخابية للحزب الفائز. والمغرب مثل العديد من الدول العربية والإفريقية معني بهذه الطموحات، وإذا لم يسارع إلى بلورة استراتيجية تجارية واقتصادية ومالية واستثمارية تجاه أنقرة، فإن حجم العجز التجاري سيتفاقم، وأضرار بعض القطاعات خاصة النسيج ستتعاظم. ويكفي أن نشير هنا إلى أن حجم المبادلات بين البلدين تجاوز حاجز الثلاثة مليارات دولار سنة 2021، كما استفحل العجز التجاري المغربي ليصل إلى ملياري دولار.. وهو رقم كبير مقارنة مع حجم المبادلات. في المقابل هناك بعض الجوانب الإيجابية في هذه العلاقات الاقتصادية ومنها أنّ الحجم التراكمي للاستثمارات التركية بالمغرب بلغ حوالي مليار دولار، وتوجد حوالي مائة شركة تركية عاملة بالمغرب تشغل أزيد من 6 آلاف مغربي. ولكن هذه الأرقام تبقى أرقاما ضعيفة مقارنة مع الاستثمارات التركية في دول مغاربية وعبرالعالم. وبالعودة إلى تطور الصادرات التركية نحو المملكة، سنجدها قد سجلت ارتفاعا يناهز 15 % سنويا منذ دخول اتفاقية التبادل الحر بين البلدين حيز التنفيذ سنة 2006 وإلى متم 2022. ولا شكّ أنّ ارتفاعاً مطرداً بهذا الحجم لا يمكن ان يكون محض صدفة، بل هو نتيجة لاستراتيجية وبرامج عمل. وهذا ما يدفعنا لطرح السؤال: هل يملك المغرب في المقابل استراتيجية للتوسع في السوق التركية التي تضم 85 مليون مستهلك؟ علماً أنّ متوسط الدخل الفردي في تركيا يفوق 10 آلاف دولار سنويا، وهو ما يعني وجود قدرة شرائية مقدّرة في هذا البلد. ثم إنّ العجز التجاري يهمّ دولاً كثيرة وعلى رأسها جارتنا الإسبانية التي تخطّى العجز التجاري معها 3.4 مليار دولار. لذلك لا يمكننا أن نحمل الأتراك وحدهم مسؤولية العجز في ميزان مبادلاتنا التجارية، فمن حق أي دولة ان تكون لها طموحات في زيادة حصتها في الأسواق الخارجية، بل إن ذلك يعتبر مؤشرا على حيوية اقتصادها، ولكن المشكل يهم المغرب بالدرجة الأولى، ويُسائل الحكومة عن غياب استراتيجية لامتصاص العجز الحاصل وخطط للزيادة من قيمة الصادرات الوطنية نحو الأسواق الخارجية. وفي كل الأحوال، العالم يتجه أكثر فأكثر نحو العولمة، ولا يمكن أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء أو الاختباء وراء الحمائية، وإذا لم تَغزنا تركيا ببضائعها وشركاتها فأكيد أن هناك من فعل وسيفعل ذلك مثل الصين وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا وكوريا، وغيرها. وفي الحالة التركية بالذات، يمكن ان نعتبر أن الطريق معبدة أمام صادراتنا في ظلّ وجود اتفاقية للتبادل الحر تم توقيعها سنة 2004 وتمت مراجعتها سنة 2020، وما علينا إلا ان نفعلّها من خلال استراتيجية إرادية وطموحة لزيادة صادراتنا تجاه هذا البلد الذي استطاع ان يضاعف ناتجه القومي الخام أكثر من أربع مرات خلال 20 سنة، واستطاع ان يستقطب استثمارات اجنبية تفوق 250 مليار دولار في نفس المدة، وان يجذب حوالي 79 ألف شركة أجنبية. قد يتحجج البعض بأن الأتراك لديهم بعض السبق في شبكات التوزيع بالجملة والتقسيط داخل المغرب، سواء توزيع الملابس الجاهزة أو متاجر للقرب، وهو ما أعطى دفعة لصادراتهم تجاه بلدنا، ولكن بإمكان الدولة المغربية أن تتدارك ذلك وبسرعة إذا ساعدت علامات تجارية مغربية معروفة وناجحة على إنشاء شبكات مماثلة للتوزيع داخل تركيا، وفي قطاعات متنوعة مثل النسيج والملابس الجاهزة والجلد، أو المخابز العصرية والحلويات، أو مطاحن الدقيق والمعجنات، أو متاجر توزيع الآلات الكهرومنزلية، أو توزيع العقاقير ومواد البناء المختلفة بالجملة والتقسيط، أو المتاجر الكبرى لتوزيع البضائع التي نتوفر منها على علامتين مرموقتين، أو منتجات الصّباغة الكيماوية الموجهة لقطاع البناء، وما يرتبط بالبناء من تجهيزات صّحية وترصيص وكهرباء، وغيرها من القطاعات التي تتوفر فيها المملكة على خبرة مشهود بها وعلامات تجارية معروفة. هذا بالإضافة إلى قطاعات يعتبر فيها القطاع الخاص المغربي رائدا إقليمياً مثل التأمينات والبنوك وبطائق الائتمان، وصناعة الأدوية ومستحضرات التجميل وغيرها كثير. إذن الكرة في ملعب وزارة التجارة والصناعة والاستثمار، والكونفدرالية العامة لمقاولات المغرب، والبنوك وشركات التامين، للقيام بدراسات للسوق التركية ووضع برامج عملية مستعجلة لتدارك ما فات، وتقديم سلّة من الضمانات لتحفيز التصدير تشمل النقل البحري والجوي والضرائب والخدمات القنصلية والذكاء الاقتصادي وباقي التسهيلات. أما بالنسبة لتداعيات الانتخابات الأخيرة على العلاقات السياسية، ودون الخوض في الملفات الدولية المتشعبة، فإن أهم ملف بالنسبة للمغرب هو ملف الصحراء، وقد سبق للرئيس أردوغان أن عبر عن موقف بلاده بوضوح في هذا الشأن سنة 2013 خلال زيارته للمغرب، حيث أكد عدم اعتراف تركيا بجبهة «البوليساريو» الانفصالية، واقترح آنئذٍ الوساطة بين المغرب والجزائر، وهو ما أغضب النظام الجزائري الذي زاره اردوغان في اليوم الموالي من زيارته للرباط، فكان الاستقبال باهتا وردّت حينها الخارجية الجزائرية على تصريحات الرئيس التركي بشكل حاد وسلبي كعادتها تجاه كل بلد يؤيد الوحدة الوطنية والترابية للمملكة. ولكن منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وركزت الجزائر جهودها لجر تركيا إلى صفها أو على الأقل إلى الحياد، من خلال تعدد الزيارات على مستوى وزراء الخارجية والرؤساء، وإغراء تركيا بصفقات اقتصادية كبرى، حيث ارتفعت الاستثمارات التركية في الجزائر إلى 5 مليارات دولار، وقد تجاوز عدد الشركات التركية في الجزائر 1400 شركة، ويعتبر مصنع الصلب والحديد في وهران من أهم تلك الاستثمارات حيث يغطي حاجة السوق المحلية من حديد التسليح الموجه لقطاع البناء ويُصدّر الفائض للخارج. بالإضافة إلى استثمار مشترك لشركة النفط الجزائرية «صونطراك» بلغ حوالي 1.4 مليار دولار في قطاع النفط ومشتقاته في تركيا، التي رفعت كذلك حجم وارداتها من الغاز الطبيعي الجزائري. وأمام سياسة الإغواء الجزائرية هذه، بدأت تلوح بوادر التحول في الموقف التركي حيال الصحراء المغربية، صحيح أنها مازالت جنينية ومحتشمة، ولكنها ملموسة وتؤشر على وجود ابتزاز وضغوط جزائرية، ومن هذه التحولات أن القناة الدولية للأخبار التركية «تي ار تي» بدأت تسلط الضوء أكثر فأكثر على الحركة الانفصالية في جنوب المغرب، وتستضيف وجوها انفصالية في برامجها، وتنشر خارطة مبتورة للمملكة، كما أن لهجتها بدأت تجامل الجزائر في قضية الصحراء المغربية، وفي هذا الصدد انتقلت التصريحات التركية من الحديث عن دعم وحدة المغرب وسلامة أراضيه إلى الحديث عن تشجيع حلّ يرضي كل الأطراف! لأجل ذلك كله، على المغرب أن يسارع إلى طرح كل هذه الملفات سواء الاقتصادية أو الجيوسياسية على الطاولة مع الأتراك، حتى لا يتكرر مسلسل «فرانس24» الذي مهّد إعلاميا لتغيير الموقف الفرنسي بشكل أو بآخر تجاه المغرب، وكنا قد حذرنا من ذلك الانزلاق الإعلامي في بداياته الأولى، ولكن في غياب استراتيجية مغربية للاحتواء تحول الأمر إلى أزمة صامتة بين باريس والرباط مازلت مضاعفاتها لم تتوقف، وأتمنى ألا يتكرر السيناريو مع تركيا أو البرتغال مستقبلا. خبير في العلاقات الدولية