كنّا كلّما اقتربنا من السّقوط نقول، إننا على حافة الهاوية لا غير. كنّا كلّما وقعنا في الهاوية نَظلُّ في سقوطٍ حُرّ، مثلَ بئرٍ بلا قرار، ونُمنّي النفسَ بالآمال، نُداري اليأسَ قائلين لا بأس، إنما هذا أوّلُه، وبإذن الله، هذه طبيعتنا ومعتقدنا نحن بالفطرة اتّكاليون، سنصعد من جديد، ونأخذ نُمسِك بحافة الصخر تجرَح أيدينا نتوءاتُها لا بأس ما دُمنا سنُطِلّ على الحياة كأننا سنخرجُ للمرة الأولى من الرّحِم كاملين لا خُدّجاً كالسّابق، وعلى هذه الشاكلة تربّينا وظننّا أنّا كبُرنا بينما أقزاماً دبَبْنا على هذه الأرض؛ ما همّ خروجٌ مختلفٌ وسنعود لنحبو ونكبُر حقاً وصحيحاً، وما كان خسراناً مبيناً وسقوطاً مريعاً هو من نائباتِ الدّهر وكوابيسِ الحياة، ليس إلا، هي هكذا عسلٌ ومُرّ، وغداً نصحو فرحين، نصبح مثل الفائزين بالجنة وقد امتُحننا وصبرنا «في شغل فاكهون». كنا كلما سقطنا وأعدنا السّقوط، هوى علينا الرّدْم، أجساداً وبلداناً أريد أن أسمّيها أوطاناً بينا مساميرُ مدقوقةٌ على طرف اللسان تجرحُني ننتشِل عظامنا من أنقاضنا، ومن رماد حرائقنا نَجدِل سلالمَ للصّعود، وليكن، ولو مرة أخرى نحو ذروة الهاوية. رويداً، رويداً، صرنا ورثةً للأسطورة الإغريقية، أجنحةً وسماءً لتحليق طائر الفينيق، والألوهيةُ العبثية السِّيزيفية، تمرَح خلائقُها حقيقةً يوميةً سنويةً دهرية، وبنا ترتَع في الوجود. رغم أننا بسطاء، سحقونا، الترابُ ما فوقه وتحته، والجبلُ والبحرُ ساحله وأعاليه باعوه وتركونا فقراء، والسّماء ملاذُنا الأخير أمست بعيدةً لا تطال، إذ نافسوها في العُلوّ، ووضعوا لها أختاما للعبور وعيّنوا لها وسطاء، لهم الزّهو والسّموّ ولنا المحق ، ولنا ….فينا مؤمنون ومذنبون لكنّا لا نخاف عذاب جهنم، فلن نُبتلى بها بأكثر ممّا نحن فيه من تعُس وشقاء؛ يا لها الأرض العربية شعوبُها كلها غرباء! في قهر المهانة والسُّخرة، في قبضة الاستبداد والإذلال، وما شئتم مما تعُجُّ به قواميسُ هذه المعاني تَستعصي عندنا على الإحصاء، عاشت ، تعيش هذه الشعوب. تكالبت عليها الآفاتُ، محتلٌّ ومستعمرٌ ومستعبِدٌ وسارقٌ للأرزاق، مذِلٌّ للهامات، جابهت قوى الاستعمار بالحبيب والنفيس، تفانت في حبّ وفداءِ ما حسبتها لها الأوطان، لا أعيّن أيّ بلدٍ ولا أستثني، ولا تسألوني عن الأسماء، سواء المحفور منها والممحوّ في الشواهد، أو المفروض المعلن حقا وباطلا. ماذا جَنَت؟ بِمَ كوفئت تلك الجحافل؟ بسَدّ الرّمق بكدْحٍ يبدأ من الفجر إلى آخر شفَق، ديدانٌ محنيّة في المزارع وقلوبٌ واجفة، وعيونٌ زائغةٌ الأرضُ تميدُ تحتها من جزَعٍ ووجَعٍ ولا شعاع في الأفق، وبالرغم من هذا تُسلّم أمرها، صمدتْ، ثم غضِبت، هاجت، وإذِ استسلمت لم يبق رجاء غير ربّ الفلق. منذ قرن ونصف والعرب يبحثون عن سُبل الخروج مما سُمِّي انحطاطا ًلم تتحدد معالمُه وخصائصُه بوضوح، تَعيّن قياساً بما حققته المدنيةُ الغربية وأُنجِز في بلدانها من تَقَدّمٍ؛ وغزاهم المستعمر وهم محتّلون قبّله فتبيّنوا الفروقَ شاسعةً بينهم والمستعمرين، في ميادين الحكم والاقتصاد والصناعة والثقافة والعلاقة بالزمن الحديث الهارب عنهم، ما انفكّوا منذئذ فكرياً أولا يجتهدون ويفتون في أسباب تخلفهم وتمدّن الغرب، وفي كيفية اللحاق بركب التقدم، واجتراح أطروحات تتراوح بين الدّيني والفكري والإيديولوجي، تعرّضت لعديد تقويمات ومحاكمات من منظورات جاءت بعدها وفي سياقات سياسية وثقافية لاحقة أسقطت عليها مفاهيمَ وتصوّراتٍ أكبر منه، بل ثمةَ من علّق عليها إخفافاتِ نماذجَ وهياكلَ في الحاضر، بينما هي أطروحاتٌ تجريبية، بِنتُ زمانها ومؤكدٌ خلخلت ثوابت، وزرعت شكّاً في يقينيات، وولّدت صراعات، وفجّرت أيضا مقاومات للاستعمار وإيديولوجيات وطنية بمكونات، على امتداد تاريخ العرب الحديث وسعيهم لتحقيق النهضة. النهضة، هذه الكلمة المصطلح المفهوم التصور المعضلةُ والإشكالية هي ما قضى العرب بلداناً مستعمَرة ومستقلة، وأحزاباً ونُخباً ومفكرين وأدباءَ تفكر فيه على قدر فهمها وثقافتها وبطبيعة الحال مصالحها أولا، تجرّ معها شعوباً مغلوبة على أمرها تابعةً بالاقتناع أو الغلبة، وعموماً بالتطويع القسري، لم يوجد أمامها خيار ولا أتيحت لها فرص الاختيار، دائما هي القربان، من أجل الأوطان في فترات الاستعمار لاسترجاع سيادات مفترضة، وبعد الاستقلال لتحصينها وباسمها شكلا توضع الدساتيرُ وفي مؤسسات تشريعية صورية تُسَنُّ قوانين منفصلةٌ عن الواقع حيث تتجسّد السلطة منفردةً بتمثيل الدولة ومحتكرةً للصلاحيات وما يبقى هوامشُ وفتاتٌ على مائدتها ينبغي لمعارضيها أن يقنعوا به وإذا طالبوا بأكثر يطلوهم شر العقاب. منذ بدايات الكفاح الوطني في سائر البلدان العربية وَضعت الحركاتُ الوطنيةُ في برامجها لزومَ الديموقراطية وإرساءَ عُمُدها وبناءَ مؤسساتها بعد تحقيق أولوية الاستقلال، بل منها من ربط بين الهدفين ربطاً جدليا ، وكان محقاً لأن الفصل أعطى مبرراً لخصوم الديموقراطية كي يتفرّدوا بالحكم ويتسلّطوا واجدين مع توالي العقود أسباباً لاستدامة الهيمنة واحتكار السلطة وقمع القوى المناوئة بمزاعم شتى من قبيل حماية الاستقلال وتحصين السّيادة والدفاع عن ثوابت وما إليه من مقولات وشعارات تُصطَنع لها أحزابٌ ومنابرُ وتُجنّدُ لها أقلامٌ تخدُم الأنظمة ومن بنية مصالحها، والواقع أن هذه الأنظمة لتأبيد سلطتها مع بضع تنازلاتٍ تتفضّل بها هباتٍ، إذ لا تعترف بالحقوق المشروعة التي تنتزعها الشعوب بالصّراع لا بالولاء وجدت نفسَها في غنىً عن كثير من الوسائط أو تقفز عليها، وإمّا حين تقبل بالمؤسسات فديكورات، بمقتضى ما تجِبر عليه المنظماتُ الدوليةُ الماليةُ والعلاقاتُ الدولية، تضيف إليها زِواقاً ومساحيق عن حقوق الإنسان تطريزات؛ هياكلُ جوفاءُ ورجالٌ جُوف، وأكداسٌ من التقارير وأعمال اللجان والتوصيات، الأرجحُ ترّهات، وإلا لِم كلمة لا تحتاج إلى صناديق الاقتراع تعلو على ملايين «لا» من الأصوات وتُخمِد الأنفاسَ حين تشاء من المهد إلى اللحد وما قد يخطر بين زمنَيهما من أوهام. لا أعرف لِمَ أسترسل في هذا الحديث وأعيد، وكان عليّ أن أدخل سوق رأسي وأنشغل بكلماتي أُرشِّقها وأعرضها في مزاد الجوائز وأصهل إنّي الحداثيّ الأخير، شأن الكتاب العرب بعد إذ كسّرت الأقلام، وبُترت الألسُن، ورُوِّضت النّمرة(شكسبير)، وتحوّل أغلب العالم العربي إليه ننتمي ولو كره الكارهون إلى حظيرة وثكنة الشعوبُ فيها سُجناءُ ورهائنُ ووسيلةُ إيضاح، يسُوسها ويقتتل من أجلها للاستفراد بثرواتها وخنَقَ حقوقها الجنرالات. عرفنا وشاهدنا أنظمةً عسكريةً تحكم وتستبدُّ وتنقلب على بعضها وتقرّر في الشروق والغروب، الخريطة أمامكم تُغني عن المثال، إنما أن ترى داخل البلد الواحد جنرالين بجيشين وعتادين كما يحدث حاليا في السودان يقتتلان بقواتهما بعشرات الآلاف والمدرّعات والطائرات ويقصفان الأحياء والأموات، من أجل أن يستفرد أحدهما بالحكم، أي بالشعب المسلوب رهينة، وسيرمي له أحدهما غدا عظمة يسميها الديموقراطية بينما هو جائع للخبز والدواء وقرص حرية، فهذا وربِّ الكعبة أغربُ ما ظهر من الشرائع وفوق ما يطاق. من ينقذُ أمّة محمد من هذا المحال؟!