ماذا أصاب هذا العالم العربي حتى يتحول إلى هذه الحالة البركانية المفاجئة؟ اندلعت شرارة الثورة الأولى في تونس وبقيت أنفاس العرب وأعناقهم مشدودة إلى تلك البقعة المباركة من بلاد المغرب العربي حتى انقلب الوضع وهرب الرئيس زين العابدين بن علي من البلد. لحظة تاريخية أبت إلا أن تلد من رحمها لحظة أخرى تحولت فجرا جديدا على أرض الكنانة، وها هي لحظات المخاض والميلاد تتكاثر على امتداد الرقعة العربية، وأغلب الظن أنها لن تتوقف حتى ينزل الجنين العربي الجديد كاملا مكتملا. ما الذي جعل شعوبا تعودت لعقود طويلة عيش الذل والهوان تنتفض فجأة وتخرج كالمارد تطارد جلاديها وتصيح في وجوههم أن اغربوا عن أنظارنا وارحلوا لأننا لم نعد نتحملكم ولا نخاف من بطشكم شيئا؟ بماذا يذكركم هذا الإصرار والالتفاف الشعبي العربي الهائل ضد الحكام العرب؟ ولماذا كل هذه النشوة وانفراج أسارير الناس وهم يرون حكامهم يخرون أمامهم؟ بل ما الذي يجعل أفئدة باقي الشعوب العربية معلقة بهذا البلد الذي يشهد انتفاضة شعبية أو ذاك، تضامنا ودعاء وتعاطفا في البداية ثم ابتهاجا واحتفاء بعد سقوط الصنم؟ لحظات تاريخية لا تعادلها إلا تلك اللحظات التي عشنا بعضا منها وعاشها آباؤنا قبل عقود. تلكم هي لحظات خروج المستعمرين الغزاة واستعادة المنطقة استقلالها الذي حرمت منه لفترات طويلة. اسألوا شعب تونس وشعب مصر وسيؤكدون لكم أنهم بعد رحيل بن علي ومبارك أحسوا أنهم ولدوا من جديد وأنهم الآن فقط بدأوا يستنشقون نسائم الحرية والكرامة والاستقلال، نعم الاستقلال. واسألوا أيضا اليمنيين والسوريين والليبيين عن شعورهم في هذه اللحظات الحرجة من حياتهم وسيقولون لكم دون تردد إنهم يناضلون ويقاومون ويقاتلون من أجل أن ينالوا إحدى الحسنيين، الحرية أو الشهادة. الانتفاضة، الثورة، الحرية، الكرامة، المقاومة، القتال، النصر، الاستشهاد.. كلها مصطلحات يفترض أن لا نسمعها متداولة في ربوع الوطن العربي باستثناء فلسطين أو العراق على أقصى تقدير. فالبلاد العربية الأخرى لا يوجد فيها استعمار ولا انتداب ولا حكام أجانب، بل هي بلدان مستقلة لها قوانينها ودساتيرها الخاصة ويحكمها رجال من بني جلدة الشعوب وصلوا إلى عروشهم تلك من خلال عملية معروفة تسمى الانتخابات. فما الذي يجعل إذن شعبا مثل شعب تونس أو شعب مصر أو شعب اليمن أو شعب سورية يخرجون إلى الشوارع حاملين شعارات تطالب بالحرية والكرامة وبإسقاط النظام وتستعمل في ذلك مصطلحات من قبيل المقاومة والثورة؟ بل ما الذي دفع شعبا كشعب ليبيا إلى حمل السلاح والاستنجاد بالخارج من أجل إزاحة حاكم خرج من صلبه ووصل إلى الحكم باسمه ولبث في قومه أربعين سنة؟ ماذا دهى العرب في لحظة واحدة حتى يقوموا منتفضين على حكامهم يدعونهم إلى الرحيل من دون أن يضمنوا لهم عيش ما بقي من أيام حياتهم دون محاسبة ومحاكمة؟ الجواب بكل بساطة هو أن الشعوب اكتشفت في لحظة وعي فارقة أنها لم تنل استقلالها بعد وأن الحكام الذين ورثوا العرش في ما يسمى عهد الاستقلال إنما هم مستعمرون ومستبدون. أربعة أو خمسة عقود مرت قبل أن تتفطن الشعوب العربية إلى أن الاستعمار لم يرحل بعد وأنها كانت تعيش لحظات استقلال مزيف، لذلك كان لزاما عليها أن تعود إلى نقطة الصفر وتعلنها ثورة شاملة لن تتوقف حتى تصل إلى محطة الوصول. نعم الاستعمار ليس فقط فرنسيا أو بريطانيا أو إيطاليا، بل يمكن أن يكون أيضا عربيا محليا خالصا. يروي الجزائريون عن مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة الرئيس شارل ديغول أنه قال قبل منح الجزائر استقلالها إنه صار مطمئنا إلى أن الذين سيرثون الحكم من بعده لن يفعلوا شيئا ضد مصالح فرنسا، بل إنهم سيكونون أشد حرصا على مصالح فرنسا من الفرنسيين أنفسهم. لن أضيف شيئا، بل اسألوا الجزائريين الآن إن كان ذلك هو ما يعيشونه أم لا. اسألوهم إن كانوا يعتقدون صادقين أن بلادهم مستقلة فعلا وأن حكام الجزائر المتعاقبين منذ الاستقلال كانوا يضعون مصلحة الجزائر أم مصلحة فرنسا قبل كل اعتبار. ليس هذا مجالا لجلد الذات كما يحلو للبعض تكراره في كل مناسبة، بل انظروا إلى واقع الجزائريين، استمعوا إلى رئيسهم الحالي وإلى وزرائهم المتنفذين أي لغة يتكلمون أو يتقنون، وبأي بلد يتعلقون، هل يتكلمون العربية أم الفرنسية، وجلهم إذا تكلم بالعربية، هل يجد من الشعب من يفهم كلامه؟ بل حتى الذين يتحدثون العربية بطلاقة يفضلون في المناسبات الرسمية داخل بلادهم وخارجها أن يتخاطبوا بالفرنسية، بل المصيبة أنهم حتى عندما يزورون بلدا كالصين أو أمريكا أو إسبانيا أو تركيا مثلا فإن مضيفيهم يضطرون إلى إحضار مترجم يتقن اللغة الفرنسية. يحدث هذا بعد خمسين سنة مما يسمى استقلال الجزائر. لست أتحدث هنا انطلاقا من أية عقدة أو تفكير رجعي، بل من واقع أن اللغة هي أكبر مؤشر على السيادة والانتماء الوطني. وقبل أن يسبقني أحد إلى القول إن بشار الأسد أو علي صالح أو مبارك أو القذافي متمسكون بلغتهم العربية في مخاطبة شعوبهم أو في التواصل مع نظرائهم أو ضيوفهم الأجانب، علي أن أشير إلى أن عقدة اللغة ليست إلا مؤشرا واحدا للتأكيد على أن حكامنا لا يعون شيئا في المسألة السيادية أو الاستقلال. فمعظم الشعوب العربية التي كافحت من أجل دحر الاستعمار ورفع راية الاستقلال وجدت نفسها بعد عقود طويلة ترزح تحت وطأة مستعمر ولد مع شعبه من رحم بلد واحد. بداية العهد كانت عسلية يسودها الوئام والمحبة، القيادة والشعب متلاحمان تحت شعارات البناء والعزة والتحدي ومحاربة الفقر والجهل والوحدة والصمود والقومية، ومع مر الأعوام بدأت مساحيق التجميل تزول ويظهر الوجه القبيح لأنظمة الحكم العربية. أنظمة مستبدة طاغية باغية ظالمة لا يهمها من مستقبل بلدانها ولا شعوبها شيء، أنظمة تملك وحدها الحقيقة المطلقة وهي وحدها العين الساهرة على أمن البلد واستقراره وعلى حمايته من المندسين والخونة والعملاء. تأملوا في البدء كيف وصلت هذه الأنظمة إلى السلطة، كلها نصبت نفسها في الحكم دون استشارة حقيقية لشعوبها، بعضها انتدبها الاستعمار الأصلي لذلك قبل أن يغادر وبعضها ناور وتآمر من أجل ذلك وبعضها الآخر انقلب على من سبقه، وقد حملت هذه الانقلابات شعارات رنانة من قبيل التصحيح الثوري أو ثورة الضباط الأحرار أو ثورة الفاتح إلى غير ذلك. ماذا فعل هؤلاء الحكام بعد ذلك؟ قرروا لوحدهم أي نمط حكم يصلح للشعب والبلد، ووضعوا بأنفسهم دساتير البلد التي كانوا يغيرونها كلما تغيرت طموحاتهم وأعمارهم. سخروا ثروات بلدانهم وشعوبهم لخدمة أطماعهم وتأمين عروشهم ومصالحهم ومصالح أولادهم. لا أدري من هذا الحكيم ابن الحكيم الذي اخترع لنا شعار (بالروح، بالدم نفديك يا...)، المفروض أن يصنع له الحكام العرب تماثيل من ذهب وأن تلاحقه الشعوب باللعنات إلى يوم الدين. هكذا تحولت الشعوب والبلدان فداء لحاكم سافل ساقط استغل ظروفا معينة ليتسلق إلى منصة الحكم ويخلد فيها حتى يأخذه ملك الموت عنوة. هذا هو الاستقلال وهذه هي الديمقراطية في بلاد العرب، جاهلون ينصبون أنفسهم حكاما على شعوب تزخر بالطاقات العلمية والثقافية التي أبدعت وصنعت معجزات في بلاد الغرب، لكنها وجدت عقولها مربوطة في بلدانها. من الذي يعطي الحق لكائن مهما بلغ من العلم والجاه والقوة أن يفرض نفسه على شعبه حاكما أبديا، مستعملا كل الوسائل المتاحة من أجل ذلك، التزوير والرشوة والقمع والتآمر والنفي والمطاردة والتصفية الجسدية. صار الحاكم العربي يندهش ويصدم عندما يسمع أصواتا تنبعث من أفواه شعبه تطالبه بالعدل أو حتى بالاستقالة، من أنتم أيها الجردان لكي تتطاولوا على زعيمكم؟ والجرذان هذه ليس حكرا على سفاح ليبيا فقط، بل هي تتردد على ألسنة جميع حكام العرب عندما يتكلمون عن معارضين لهم في صفوف شعوبهم. ماذا فعل الاستعمار عندما غزا البلاد العربية؟ طغى فيها وأكثر فيها الفساد، نهب خيرات تلك البلاد وتآمر على شعبها ولجأ إلى كل الأساليب من أجل الاستمرار في الحكم، طارد المقاومين وقتلهم وشردهم ونفاهم إلى الخارج وزج بهم في السجون وتعامل مع شعب البلد الأصلي كما يتعامل مع الدواب والأنعام. المستعمر الفرنسي والبريطاني والإيطالي فعل ذلك والجرائم موثقة في أرشيفهم الرسمي وفي ذاكرة الشعوب، فماذا فعل الحكام العرب في شعوبهم بعد ذلك؟ هل تحتاجون إلى إحصائيات عن عدد الذين اغتالتهم الأنظمة العربية، والذين زج بهم في سجون وأقبية المخابرات والأجهزة الأمنية والعسكرية المختلفة وذاقوا هناك صنوفا وألوانا من التعذيب ربما لم يذقها أسلافهم أيام الاستعمار الأصلي أو الخارجي؟ هل تريدون أرقاما عن الذين صدرت في حقهم قرارات نفي من بلادهم أو اضطروا إلى الهجرة طوعا قبل أن ينال منهم حاكمهم المفدى؟ هل تصدقون الوثائق الرسمية التي تتطرق إلى المليارات التي نهبها الحكام العرب وأقاربهم وأزلامهم والأملاك التي اقتنوها في بلدانهم وفي مختلف بلاد العالم؟ ما هو الوصف الأقرب لحاكم أو نظام يقتل وينهب ويقمع ويسخر كل أجهزة الأمن في البلد لخدمته هو وحده؟ بماذا يختلف النظام العربي الحاكم الذي يفعل كل هذا وأكثر عن أنظمة الاستعمار الغربية؟ أي بلد يستحق أن يوصف بالبلد المستقل هذا الذي يختصر في الحاكم وابنه على أقصى تقدير؟ أي وطن يمكن أن نعتبره ذا سيادة وشعبه لا يقدر أو لا يسمح له أن يفكر يوما في تغيير حاكمه أو مطالبته بقليل من الحرية والكرامة؟ أية كرامة وأي استقلال هذا الذي يسمح لشخص أو نظام حكم أن يطلق الرصاص ضد شعبه ويحاصره ويملأ به المعتقلات والمقابر دون أن يهتز ضميره مثقال ذرة؟ أي استقلال هذا الذي يسمح للحكام أن يعيثوا في بلدانهم فسادا وأن يتعاملوا مع شعوبهم كالحشرات والزواحف الضارة والسامة، وإذا قرروا أن يفعلوا فيهم شيئا من الخير فإنهم لا يفعلونه حبا أو نزولا عند رغبة شعوبهم، بل استجابة لضغوط أجنبية أو خوفا من عقوبات خارجية ضدهم وضد مصالحهم؟ هذه هي الصورة انقلبت وصار مستعمرو الأمس أحرص على حياة وكرامة شعوب العرب من حكامهم، لا يهم أن يقول قائل إن الغرب يفعل ذلك حفاظا على مصالحه أو إنه هو الذي كان يدعم أو يساند هؤلاء الطغاة ضد شعوبهم، قد يكون هذا كلاما معقولا أو صحيحا لكنه لا يعفينا من التأكيد بالوقائع أن الحكام العرب أشد قسوة وظلما لشعوبهم من الاستعمار. الشباب العربي اكتشف بعد جيلين كاملين أنه لا يزال مستعمرا وأن ما يسمى استقلالا إنما هو كلام مزيف، لذلك قرر أن الوقت حان ليعلنها ثورة شعبية من أجل استقلال حقيقي ودائم هذه المرة. أربعون سنة أو أكثر مرت على شعوب العرب وهي تحت تأثير أضخم كذبة وأكبر خديعة اسمها الاستقلال والسيادة الوطنية.