خلّد المغاربة، قبل أيام وفي مقدمتهم كل التقدميين، الذكرى الثلاثين لرحيل القائد الاتحادي السي عبد الرحيم بوعبيد، وهي الذكرى التي كانت مناسبة لاستحضار مسار وفكر هذا القائد المؤسس لاستراتيجية النضال الديمقراطي. ولقد خلّد الاتحاديون ذكرى قائدهم السياسي المتفرد والمنفرد، في ظروف خاصة، عنوانها التحضير للمؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب، فكان من الطبيعي أن يستحضر الاتحاديون، وهم منكبون على تحضير مؤتمرهم، فكر السي عبد الرحيم، حتى يكون كما كان دائما نبراسا لهم. وفي علاقة بالنقاش الدائر حول عملية التحضير للمؤتمر، كانت ذكرى السي عبد الرحيم فرصة ومناسبة، للرد على كل من يحاول إظهار اتحاد اليوم، منزاحا عن مسار وفكر اتحاد الأمس، من خلال استحضار مقومات فكر السي عبد الرحيم، باعتباره الأب الروحي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. إن المسار السياسي للسي عبد الرحيم، بكل المحطات التي عاشها، والتي كان فاعلا فيها، هو ما شكل بشكل كبير فكر هذا القائد السياسي، فانخراطه المبكر في الحركة الوطنية، ودفاعه المستميت عن استقلال الوطن، ثم قيادته لحركة مجابهة الاستبداد، وبناء الدولة الوطنية الحديثة، وربطه للنضال السياسي بالنضال لأجل الديمقراطية، أدى إلى تبلور ما سنسميه الفكر البوعبيدي، أو التوجه البوعبيدي، والذي كان مضمونه مجموعة من الاختيارات السياسية، التي أسس بها لأطروحته السياسية، البعيدة عن استيلاب أطروحات الشرق والغرب، فأطروحة السي عبد الرحيم، والتي أسست لجزء كبير من أطروحة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أطروحة مغربية بامتياز، خلفيتها وغايتها المغرب أولا ودائما. ويمكن القول، إن للتوجه البوعبيدي، مجموعة من المحددات التي تميزه وتؤسس له، والتي سنحددها في ثلاث محددات، المحدد الوطني، المحدد الديمقراطي، والمحدد الواقعي، وهي المحددات التي يمكن أن نسائل من خلالها اختيارات الاتحاديين والاتحاديات اليوم، حتى نحكم على مدى وفائهم لهذا القائد، والتزامهم بأفكاره وتوجهاته. فبالنسبة للمحدد الوطني : تتجلى وطنية السي عبد الرحيم، في كل مواقفه وعلى طول مساره النضالي، ويكفي استحضار أنه كان من بين الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، واستحضار مواقفه تجاه استكمال الوحدة الترابية للمغرب، لكن تبقى أهم محطة سياسية تعكس مدى وطنية هذا القائد، هي استماتته خلال المؤتمر الاستثنائي، في التأسيس لاستراتيجية النضال الديمقراطي، ذلك أن فترة انعقاد هذا المؤتمر، أي منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت مرحلة موسومة بمد اشتراكي عارم، عنوانه إسقاط أنظمة سياسية وقيام أنظمة سياسية اشتراكية بديلة، لكن الاتحاديين وفي مقدمتهم السي عبد الرحيم، اختاروا نهجا آخر، وأسلوبا نضاليا آخر، مضمونه التغيير من داخل المؤسسات، انطلاقا من تحليل ملموس لواقع ملموس، ليكون هذا المؤتمر محطة أساسية لتبني أطروحة سياسية مغربية، وهي الأطروحة التي لازالت تحكم كل اختيارات الاتحاديات والاتحاديين إلى اليوم، والتي تجلت في محطات عديدة، حيث كانت اختياراتهم مؤسسة على فهم وتحليل الواقع الذي أنتجت فيه، وبخلفية استحضار المصلحة الوطنية قبل كل شيء، ولعل أهم هذه المحطات، هي قيادة الاتحاد الاشتراكي لحكومة التناوب التوافقي، واستمرارهم في الحكومة التي تلتها، من أجل استكمال الأوراش التي فتحتها، ثم رفع الاتحاديين لشعار «المغرب أولا» كشعار مركزي في حملتهم الانتخابية السابقة، بكل ما يعنيه هذا الشعار من أولوية للوطن على حساب الحزب، وهي المحطات والمواقف، التي يجب استحضار السياقات الوطنية والإقليمية والدولية التي أنتجت فيها، حتى يتضح جليا أن ما كان يحكمها هو مصلحة الوطن أولا وأخيرا. أما المحدد الديمقراطي : فلقد ارتبط نضال السي عبد الرحيم، بالنضال لأجل الديمقراطية، بكل ما تعنيه الديمقراطية من قيم ومن إجراءات، وهو النضال الذي أطرته استراتيجية النضال الديمقراطي، والتي كانت غايتها المساهمة في بناء نموذج ديمقراطي فعلي، وهو ما لا يمكن تصور قيامه، إلا من خلال انتخابات حرة ونزيهة، بكل ما تعنيه الانتخابات النزيهة من احترام لمجموعة من المعايير، فالسي عبد الرحيم، لم يكن يوما ضد الانتخابات، ولم يستصغر أهميتها في عملية البناء الديمقراطي، أما مقولة «الانتخابات لا تهمنا»، والتي يستحضرها بعض الذين يفهمون استراتيجية النضال الديمقراطي، وفكر السي عبد الرحيم، فهما منقوصا، لم يكن مضمونها التقليل من أهمية الانتخابات في مسير البناء الديمقراطي بالمغرب، ولا في اهتمامات وأولويات الاتحاد الاشتراكي، بل كانت في سياق محدد، عنوانه رفض فرض ترشيح السي عبد الرحيم في دائرة محددة. وما مواقف الاتحاد الاشتراكي اليوم، إلا استمرار للنهج البوعبيدي، وللفهم البوعبيدي لاستراتيجية النضال الديمقراطي، وهو الفهم المؤسس على تحقيق التراكم، وعلى التنبيه لكل ما من شأنه أن يشكل عثرة أمام استمرار البناء الديمقراطي، وهو ما يوضح اهتمام الاتحاد الاشتراكي بالعمليات الانتخابية، وخصوصا بالعمل على تطويرها ودمقرطتها، وما تجسد في بلاغ الخروج عن المنهجية الديمقراطية، وفي التنبيه لخطر «التغول» الذي تشكل مع الحكومة الحالية، فالنقاش الذي فتحه الاتحاد الاشتراكي بخصوص تركيبة هذه الحكومة، نقاش في صلب الفهم السليم للديمقراطية، أكيد هي حكومة احترم في تشكيلها كل من الشرط الانتخابي، ثم الشرط السياسي، لكن الواقع يثبت أنها لم تحترم الشرط الديمقراطي، فلا معنى لتشكيل حكومة، من حزب كان جزءا من الأغلبية السابقة، بمعية حزبين كانا في المعارضة حينها، هذا دون استحضار مواقف هذين الحزبين تجاه الأغلبية السابقة، ولاسيما تجاه الحزب المشكل لأغلبية معهما اليوم، لتكون تركيبة الحكومة الحالية بهذا المعنى، معطِّلة لمفهوم التداول، الذي يشكل جوهر الديمقراطية. وقد انعكس كذلك التزام الاتحاد الاشتراكي بالاستمرار في عملية البناء الديمقراطي، في مضامين مشروع الورقة السياسية التي من المزمع أن تعرض على مؤتمره القادم، والتي تضمنت مجموعة من الاختيارات، التي تشكل مداخل أساسية في تأهيل النموذج الديمقراطي المغربي، كالالتزام باستمرار الدفاع عن السلطة التشريعية ورفع هيمنة الحكومة عنها، والدفاع عن تكريس صلاحيات الحكومة، وتقوية وتحديد وظائف وأدوار مؤسسات الحكامة، والدفع في اتجاه تأهيل وإصلاح المنظومة الانتخابية، وكلها اختيارات لا غاية منها إلا إضافة لبنة أخرى في صرح الديمقراطية بالمغرب. وبخصوص المحدد الواقعي: فالأكيد أن سياسة السي عبد الرحيم، كانت سياسة واقعية بامتياز، حيث حكمت الواقعية كل مواقفه، والمقصود بالواقعية هنا، هو فهم الواقع السياسي فهما صحيحا، حتى يكون الموقف السياسي موقفا سليما، أي موقفا واقعيا، وهو ما اتضح في مسار السي عبد الرحيم منذ بدايته، وما تعكسه مجموعة من مواقفه واختياراته، ولعل أولى هذه المواقف، هو اصطفاف السي عبد الرحيم، مع اتجاه أولوية استقلال المغرب، عن وضع دستور له، وفي اشتراط عودة الملك محمد الخامس قبل أي حديث عن استقلال البلد، وفي دفاعه عن تشكيله الكتلة الوطنية، مع أحزاب كانت في خصومة سياسية مع الاتحاد الاشتراكي، وفي موقفه من الوحدة الترابية، ومن جعل القضية الوطنية، نقطة أولى على الأجندة السياسية بالمغرب، بحيث أصبحت سابقة عن القضية الديمقراطية. إن تبني مواقف واقعية، في الممارسة السياسية، على اعتبار أن السياسة فن لتدبير الممكن، هو ما يزال يحكم ممارسة الاتحاد الاشتراكي للسياسة إلى اليوم، وما يتجسد في اختياراته، وفي تحالفاته، والتي تتأسس على الشرط الواقعي أولا وأخيرا، وما تضمنته الورقة السياسية المعروضة على مؤتمره القادم، حيث يتجه الاتحاديون إلى إعادة تأطير مجموعة من المفاهيم انطلاقا من شروط الظرفية الراهنة، كتحديد شكل المعارضة المفروض عليهم ممارستها، انطلاقا من شروط الواقع، وانطلاقا من مجموعة من المستجدات، كالصلاحيات الدستورية المكفولة للمعارضة، والتي لم تكن قبل دستور 2011، حيث من غير المنطقي استمرار المعارضة بنفس طبيعتها وممارستها وشكلها قبل دستور 2011. إن تتبع مسار الاتحاد الاشتراكي، وتقييم اختياراته ومواقفه بشكل موضوعي، يتأسس على استحضار اختيارات السي عبد الرحيم، سيوضح لكل موضوعي أكيد، أن الاتحاد الاشتراكي لا يزال وفيا لفكر السي عبد الرحيم، ملتزما بتوجهه، مستمرا على نهجه، في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، التي لا تعني عند الاتحاديين غير الدولة الاجتماعية القوية، بكل مرتكزاتها، وليس تلك الدولة التي تختزلها الحكومة الحالية، في ضمان الحماية الاجتماعية، وهو ما نبه إليه الاتحاد الاشتراكي منذ إعلان برنامجها الحكومي.