هل يستطيع السي عبد الرحيم أن ينهض الآن؟ و إذا افترضنا ذلك ممكنا فماذا سيقول لنا؟ إن استحضار روح الفقيد في هذا الظرف، تحيلنا بالضرورة على طرح سؤال عميق، وهو السؤال الذي يخامر كل المناضلين الأوفياء، بل حتى الذين أصبحوا ضحايا ضعف قدرتهم على المقاومة و الممانعة لإغراءات المنظومة التي قاوموها طويلا، أو أولئك الذين انعدمت لديهم المناعة الضرورية التي كانت تحميهم من فيروسات المؤسسات التي ظلت وظيفتها الأساسية هي تصفية الطاقات و الأخلاق النضالية للناس. إن السؤال العميق الذي يفرض نفسه على الجميع هنا و الآن هو : مادا تبقى من السي عبد الرحيم؟ لا نتبنى الفكر التقديسي للأشخاص و الأفكار و المواقف. ولكننا نسعى إلى الفهم من أجل التجاوز الايجابي، لاسيما إذا كان الشخص أو الفكرة أو الموقف، لا زالوا يحافظون على راهنتيهم، و قابلين للتحيين، و لم يستهلكهم التقادم . لا زال عبد الرحيم الى جانب المهدي و عمر يلهموننا عندما نعاين واقع الوطن و حال الحزب و متاهات الوضع السياسي العام بانزلاقاته و انحرافاته و التباساته. تتعدد المقاربات و التحليلات لدى المناضلين المهووسين بنبل الأفكار و المواقف، بل لدى حتى الذين يرون في الماضي عقدة يجب القطع معها، ويحكمون على غيرهم بالسذاجة والرومانسية البلهاء و الماضوية المنغلقة. الجميع هنا و الآن و كل المقاربات تكاد تجمع على أن هناك أزمة عميقة تطال المجتمع كما تطال حزب القوات الشعبية. و قد تختلف التشخيصات و الانطلاق من هذا العنصر أو ذاك، و تختلف تبعا لذلك الاستنتاجات و المواقف. و لكن ما لا يمكن الاختلاف حوله هو أن وضع الاتحاد الاشتراكي اليوم هو الأسوأ عبر كل تاريخه، و أن وضعية الوطن مقلقة إلى حد كبير و لا تدعو أبدا إلى الاطمئنان، و أن الفعل السياسي تجرد من كل مصداقية، و أن بنية القيم طغى عليها الاستهجان و الابتذال ، وأن الأزمة العامة اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا و أخلاقيا أصبحت هي عنوان مغرب اليوم. هنا يستلزم استحضار الدرس البوعبيدي. فهدا الرجل مند أن كان، و هو يفكر و يعمل من خلال مستويات مترابطة و متداخلة و يصعب تفكيكها. رجل اعتمد المعرفة نبراسا أساسيا للعمل. لم يكن يركن للنظريات الجاهزة. بل كان يسعى لمعرفة المعطيات التي تؤطر الواقع، سواء تعلق الأمر بالفهم الجيد لطبيعة الحاكمين، أو تعلق بفهم حاجيات الناس و قدراتهم و طاقاتهم على الانخراط في تحسين أوضاعهم. كان عارفا بطبيعة الدولة و اكراهاتها و بالمجتمع و متطلباته. هذه المعرفة التي كانت تمكنه دوما من الالتقاط الحدسي الرائع لطبيعة اللحظة التاريخية و الفعل الإرادي الخلاق القادر على التفاعل معها و تكييفها لفائدة ما يخدم الوطن و يقوي حزب القوات الشعبية. عبد الرحيم الكائن الممارس للفعل المعرفي، جعل الوجدان خادما لهده المعرفة و موجها لها. فليس في قاموسه معرفة محايدة. إنها المعرفة النابعة من حب هذا الوطن و الساعية لخدمته . و لقد ودعنا و هو يقول في آخر اجتماع حضره للجنة المركزية « إن ما قدمناه لهذا الوطن كان نابعا من القلب» إن الفقيد أيضا سلح معرفته و وجدانه ببنية قيمية عصية على الاختراق و صلبة أمام الإغراءات و المساومات و التواطؤات و المؤامرات. و هنا نستحضر الرجل في هذا الزمن المبتذل, حيث التسطيح المعرفي بتبريراته المراهنة أحيانا و المقامرة في أغلب الأحيان. و الفراغ الوجداني الذي ارتبط بمحبة الزائل و المتحول و المتغير. و التفكك القيمي الذي لا يرى قيمة الأفكار و المواقف إلا في ما تجلبه من منافع ذاتية ،شخصية، ومغرقة في الفر دانية. عاش السي عبد الرحيم مغرب الأزمات الكبرى التي هددت كيانه و وحدته و تاريخه أكثر مما هددته «السكتة القلبية». كما عاش أوضاع حزب القوات الشعبية مند نشأته بكارثيتها الاستئصالية. فمند بداية الستينات بمختلف محطاتها( دون استعراضها لأننا لا نؤرخ) دخل المغرب أقصى درجات الفساد و التسلط و النهب و الحكم الفردي و الاستبداد السياسي و الاستغلال الاقتصادي و القهر الاجتماعي......كما عرف حزب القوات الشعبية أقصى درجات القمع و التنكيل و الإقصاء الاستئصالي. إلى جانب محنة انقسام مكوناته بين نزعة انتظارية متواطئة، و نزعة انتحارية مغامرة. وكان الوضع عموما يحمل عنوان وطن في حالة نهب و تفقير مستمرين و حزب في حالة انقسام كارثي يؤدي عليه المناضلون ضرائب قاسية من أرواحهم و حرياتهم و أرزاقهم. و إلى حدود بداية السبعينات و أمام الأزمة الشاملة في الوطن و الحزب، و إجابة عن سؤال المرحلة. تجلى الدرس البوعبيدي الذي صاغه عبد الرحيم مع عدد من المناضلين الأوفياء الذين لم يفقدوا الأمل. و كان الجواب هو القطع مع الانتظارية المميتة ( قرارات 30 يوليوز 1972 ) و التحضير لمؤتمر استثنائي يحدد معالم الطريق،يبني الاختيارات الفكرية الواضحة، و يرسم آليات العمل، و يصنع أداة الفعل. لقد بلغت الأوضاع مع محاكمة مراكش (1970) و الانقلابان العسكريان(1972-1971) وأحداث مولاي بوعزة و كلميمة...(1973) قمة جدلية الفشل. فالبنيتان المتصارعتان، بنية المخزنة من جهة و بنية الدمقرطة من جهة ثانية، كلاهما أعلنتا، كل بطريقته، عن فشلهما. فالمخزن يحاكم وزراءه و الحزب يودع انتظار يته و انتحار يته. وهنا الدرس الاتحادي الذي قاده السي عبد الرحيم إلى جانب رفاقه، فكانت التركيبة الرائعة لجدلية الفشل و التي تجيب عن سؤال اللحظة التاريخية و كان المؤتمر الاستثنائي. إن إستراتيجية النضال الديمقراطي التي سيعرضها السي عبد الرحيم في عرضه السياسي و سيؤدلجها عمر في تقديمه للتقرير الإيديولوجي كانت الدرس السياسي القوي و الفعل الثوري الذي تستدعيه المرحلة و الذي راهن من خلاله السي عبد الرحيم على ضرورة تحقيق التراكم الايجابي من خلال التجدر وسط الجماهير المعنية بالدمقرطة و تغيير موازن القوة لفائدة حركة التغيير. و هو الشيء الذي تحقق بمجرد الدخول في أول تجربة انتخابية في أكتوبر 1976 . راهن الدرس البوعبيدي منذ انطلاق مسلسل إستراتيجية النضال الديمقراطي على البعد النظري الذي يقوم على أساس الملاءمة بين المواقف المبدئية و التطورات الحتمية . كان السي عبد الرحيم عارفا بأن النظام المخزني لن يتحول إلى نظام ديمقراطي بين عشية و ضحاها. فالتزوير آلية المخزنة، و الدفاع المستميت عن الديمقراطية آلية الدمقرطة. و لذلك أجاب في المؤتمر الثالث (1978) عددا من المناضلين الداعين إلى العودة لمقاطعة الانتخابات بقوله: « علموا الناس كيف تدافع عن أصواتها فهذه وظيفة و مهمة المرحلة» مع انطلاق هذا المسلسل راهن الفقيد على تقوية الأداة الحزبية و تغلغلها وسط الفئات الجماهيرية المعنية بالتغيير، و هكذا كان موقفه حاسما من قرار اللجنة العمالية الوطنية في 1978 القاضي بتأسيس منظمة نقابية بديلة. فكانت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل و التي شكلت أداة ضرورية في أغناء و تطوير حركة الدمقرطة و التغيير. لقد كانت رهانات الفقيد ثلاثية الأبعاد ، الوضوح الفكري، و الأداة المتجدرة، و الممارسة الفاعلة، وبذلك استطاع الاتحاد الاشتراكي بقيادة السي عبد الرحيم أن يغير فعلا من ميزان القوى ، و أصبح خطابه فاعلا في الدولة و المجتمع،و أداته أكثر جاذبية للكادحين و المثقفين و الشباب و النساء، و ممارساته وسط الجماهير أو في الواجهات ذات قيمة اضافية وسط الجماهير و في أعين الحاكمين. يعلمنا الدرس البوعبيدي أن القائد السياسي يمكن أن يكون رجل دولة بامتياز. والسي عبد الرحيم شارك كوزير دولة من موقع المناضل المعارض الذي يعرف كيف يضع المسافات و الحدود بين موقف الدولة و موقف الحزب دون أن تبتلع الدولة الحزب، و دون أن يتمسك الحزب بمعارضة دوغمائية عمياء. كان بوعبيد متشبثا بالبحث عن المعادلات الصعبة التي يتكيف فيها الموقف المبدئي مع التطورات الحتمية. و عندما يستعصى الأمر يصبح الموقف المبدئي هو الأساس المعتمد في اتخاذ القرار. و هذا ما أدى بالقائد الكبير إلى أن يعلن الموقف المبدئي من قرارات نيروبي فيما يتعلق بالقضية الوطنية ليؤدي بذلك ضريبة هذا الموقف بقوله داخل المحكمة:» رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه». اليوم نستشعر كمناضلين الخسارة الكبرى في فقدان البوصلة و الربان. وليس بين يدينا إلا الدرس البوعبيدي. فما الذي سيقوله السي عبد الرحيم لو نهض الآن؟ و هو لن ينهض إلا في قلوب و ضمائر المناضلين الذين يعاينون ما وصله حزبهم و وطنهم ليسألوا ذواتهم : ماذا تبقى فيهم من السي عبد الرحيم الوطن اليوم أصبح محلبة كبرى للطامعين القدماء و الجدد. التراكمات الكمية المفترى عليها لم تحقق الانتقالة النوعية المعلن عنها. الحقل السياسي المغربي اليوم يعرف أقصى درجات الاختناق المنفتح و الانفتاح المخنوق الفعل السياسي فقد نبله وتحول إلى انفعال تابع يثمن و يبارك لائحة رصد الترديات و التدنيات طويلة يصعب حصرها. وفي هذه اللحظة بالذات و نحن نستحضر روح الفقيد، ألا يبدو أننا نعيش انتظارية جديدة من داخل مواقع الدولة.؟ و نعيش انتحارية جديدة من واقع الابتعاد عن عمقنا الجماهيري وواقع الانزواء و الابتعاد المؤدي إلى الموت؟. ألا نعيش انتظارية المواسم الانتخابية التي فقدت كل بعد ديمقراطي استراتيجي و أصبحت مناسبة لكل شيء إلا الديمقراطية؟ . ألا نعيش انتحارية العزوف السياسي الذي حول المواطنين إلى بضاعة انتخابية؟ و أخيرا و ليس آخرا ألا نعيش انتظارية الريع السياسي و الحصة الغنائمية التي ستمنح لنا؟ و نعيش انتحارية القضاء على ما تبقى من حزب هز الدنيا وشغل الناس؟ لا إمكانية للإجابة عن مرارة هذه الأسئلة إلا استحضار الدرس البوعبيدي الذي يفتحنا على الأمل و أن نقف أمام روحه و أمام ضمائرنا لنستخلص العبر. فلقد كان حزب القوات الشعبية فضاء للعطاء بنكران كبير للذات و يكاد يتحول إلى فضاء للأخذ فقط. ما أحوجنا إلى عبد الرحيم من جديد. و حتى نكون مخلصين لروحه و أوفياء لما رددناه في جنازته « بوعبيد ارتاح ارتاح، سنواصل الكفاح» أستعير من الأخ حميد باجو « لقد سألني صديقي و ما الجدوى إذن من هذا الجهد الذي نبذله اذا كان كل شيء ملعوب مسبقا؟ غير أن جوابي هو أن نبقى نثق في المناضلين، خاصة أولائك الذين ابتعدوا عن كل عمل تنظيمي لحثهم للدفاع عن حزبهم» و أضيف أن بوعبيد في ضمائرنا يدعونا إلى نبذ الانتظارية الريعية الجديدة و الانتحارية الانزوائية التقاعسية القاتلة. فخدمة هذا الوطن الآن تبدأ من خدمة حزبنا و انتشاله مما هو فيه. و أشاطر الأخ حميد باجو من جديد عندما يقول:» لا نريد للإرث الاتحادي و التاريخ النضالي لليسار بشكل عام أن يضيع، بل أن يكون هو المنطلق لإعادة تأسيس حركة يسارية ذات امتدادات جماهيرية حقيقية..... كنتيجة ممكنة لإراداتنا نحن وعبر التراكمات التي نحققها هنا و هناك في الميدان، فلا شيء هو محدد مسبقا و لا شيء مخسور منذ البداية.