تتضمن الورقة السياسية، العديد من العناوين الرئيسية والفرعية، وقد اعتمدت في خطوطها العامة على كل من البيان العام للمؤتمر الوطني العاشر، المقرر التوجيهي للمؤتمر الوطني العاشر، مجموعة من بيانات اللجة الإدارية والمكتب السياسي، مساهمات الحزب في كل من النموذج التنموي الجديد والإصلاح الضريبي الشامل، إضافة إلى مبادرة الكاتب الأول بخصوص إدارة البلاد في ظل جائحة كورونا، مع الرجوع أحيانا لأدبيات ووثائق الحزب التاريخية. في السياق الوطني لم يكن من قبيل الصدفة، أن اعتمد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية شعار «الوطن أولا» في خضم مسلسل استحقاقات 2021، وجعل منه الخيط الناظم لمختلف محاور البرنامج الانتخابي، بل تم ذلك بعد تحليل دقيق لأوضاع بلادنا، خاصة وأن تداعيات جائحة كورونا قد أثرت بشكل جلي على الاقتصاد والمجتمع. إن حزبنا تجاوز في لحظات عديدة مصلحة الحزب مُقدما مصلحة الوطن عليها، «وتجلى ذلك سواء في مبادراتنا في إطار الكتلة الوطنية، أو من خلال المساهمة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، أو في إطار الكتلة الديمقراطية، أو في الاستجابة لنداء إيقاف نزيف السكتة القلبية»، أو حتى من خلال قبولنا الاستمرار في التدبير الحكومي بعد بيان «الخروج عن المنهجية الديمقراطية»، ومساهمتنا الفعالة في الاستشارات حول كل من نظام الجهوية، والمراجعة الشاملة للدستور، والنموذج التنموي الجديد. لقد كنا دائما، نُثير الانتباه إلى كل ما يُمكن أن يمس بمصلحة الوطن والمجتمع من خلال فضح خروقات حقوق الإنسان، والتنديد بالانتخابات المزورة، وعدم المشاركة في الاستفتاءات حول نصوص دستورية غير مُتوافق حولها، وتقديم ملتمسات الرقابة ضد السياسات اللاشعبية للحكومة، والاحتجاج النقابي ضدها، والفضح الإعلامي لها. وحتى يكون لمواقفنا كل الشرعية المطلوبة، لم نكتفِ بالعمل على مستوى الدولة أو المجتمع، بل أيضا على مستوى الأوضاع الداخلية لحزبنا، حيث أننا، وبنفس العزيمة والإرادة، عملنا على إعادة الدفء للعائلة الاتحادية من خلال تحديد أفق اتحادي جديد قائم على المصالحة والانفتاح، وذلك بمناسبة الذكرى الستينية التي اعتبرناها فرصة لمصالحة الذات الاتحادية مع نفسها من خلال تجميع الحركة الاتحادية، ومع المجتمع عبر الانفتاح على الطاقات والكفاءات المختلفة. في ظل هذا السياق الوطني، فإن المؤتمر الوطني الحادي عشر، مدعو لإيجاد الأجوبة اللازمة، على أسئلة حارقة، ينتظر الرأي العام الوطني بمختلف فئاته أجوبتنا عنها: – فما هي السمات الكبرى للاتحاد الاشتراكي في وضعه التنظيمي ومساره السياسي؟ – أي وضع للاتحاد الاشتراكي في المنظومة السياسية والمشهد الحزبي؟ – ما هو تقييمنا للعشرية التي تَلَت دستور 2011؟ – أية رهانات سياسية وأي تناوب أصلح لبلادنا؟ – أي تدبير للبلاد في ظل جائحة كورونا؟ – أي رهانات اقتصادية أمام «النموذج التنموي الجديد»؟ – أية معارضة سيُمارسها الاتحاد الاشتراكي؟ – أية تحالفات حزبية/برلمانية مُمكنة؟ وأخيرا، فإن الإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي أن تكون منطلقا لتطوير وجهات نظرنا في العديد من القضايا الكبرى التي تتطلب المواكبة والتحيين. المحور الأول: التحديات التي ينبغي إيجاد أجوبة لها: أولا: الاتحاد الاشتراكي بين الوضع التنظيمي والمسار السياسي بَصَمَت المراحل التي عاشها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ تأسيسه، المسارَ التنظيمي حسب تأثير الوضعية السياسية العامة للبلاد وموقفه منها. وإذا كنا قد تمكنا من الإجابة على كل الأسئلة المرحلية المطروحة في حينه، فإن المؤتمر الاستثنائي (1975) شكل محطة مفصلية بامتياز من خلال اعتماد شعار النضال الديمقراطي، والوضوح في آليات العمل وفي تحديد الأهداف المرجوة من ذلك. وقد توالت المؤتمرات الوطنية، وتمكنت من معالجة إشكاليات حزبية متنوعة، من قبيل معالجة الخط السياسي (1978)، وإعادة الاعتبار للاجتهاد الفكري عبر وثيقة «أزمة المجتمع وأزمة الديمقراطية» (1984)، والتأقلم مع واقع اقتحام الحركة النقابية حلبة الصراع الحزبي الداخلي (1989)، والمساهمة الفاعلة في بناء الكتلة الديمقراطية، بكل حمولتها السياسية والنضالية الوحدوية، والمرحلة الانتقالية الناتجة عن قيادته لحكومة التناوب التوافقي (2001). وقد فتح بيان «الخروج عن المنهجية الديمقراطية» نقاشا سياسيا جديدا، لكن الالتفاف الشعبي حول الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نتيجة ما فتحه من أوراش واعدة، بدأ في التفكك نتيجة عدم القدرة على تجديد المشروع السياسي آنذاك، وقد تجسد ذلك بشكل جلي في النتائج الكارثية لاستحقاقات 2007. إلا أن حزبنا العتيد، تمكن من الخروج من هذه الوضعية، في مرحلة أولى، بالتوافق حول أرضية سياسية وبيان عام في الشوط الثاني من مؤتمرنا الوطني الثامن (2008)، بعد أن فشل شوطه الأول. وانطلاقا من هذه المرحلة، بدأت ملامح الأسئلة الجديدة تطرح نفسها بإلحاح، حيث أن الحزب لم يعد مطالبا بإيجاد أجوبة فقط على القضايا التنظيمية والسياسية، بل أيضا عن وسائل عودة الارتباط بالمجتمع. ومن مميزات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أن أوضاعه لم تكن شأنا حزبيا داخليا فقط، بل أيضا شأنا مجتمعيا، يتابعه الرأي العام باهتمام كبير ويدلي الكثير من الناس برأيهم في شؤونه، أغلبهم يتوقون إلى إعادة زخم «القوات الشعبية» إلى «الاتحاد الاشتراكي». ولذلك، كان من الطبيعي جدا، أن نعمل، جماعة، على إعادة الاعتبار للنقاش الفكري من خلال التنافس بين الأطروحات السياسية، وقد شكل المؤتمر الوطني التاسع (دجنبر 2012) محطة نوعية جديدة، ساعدت على فتح مسالك فكرية وعملية قادرة على خلق دينامية تتجاوز الأشخاص وتجاربهم الذاتية الشخصية، إلى ما هو أرقى بالتعبير عن أطروحات موضوعية. ورغم عدم التجاوب الشعبي في حينه من خلال استحقاقات 2016 بما تميزت به من استقطاب ثنائي بين استغلال الدين واستعمال المال، فإن الحزب تمكن تنظيميا من إعادة هيكلة نفسه وتجديد كل هياكله، وسياسيا بتقديم أطروحات سياسية جديدة أصبحت مرجعا لكل القوى الحزبية الأخرى التي تبنتها وأصبح «تعتبرها» جزء من تصوراتها. لقد تمكنا في محطات عديدة، وفي العديد من المجالات، من فرض تميز حزبنا، انطلاقا من البرنامج الانتخابي لاستحقاقات 2016، والأرضية السياسية التوجيهية للمؤتمر الوطني العاشر (ماي 2017)، ثم مساهماتنا في كل الأوراش الإصلاحية الكبرى ببلادنا، سواء في مجال السياسات القطاعية (السياسة الجبائية مثلا)، أو في مجال بلورة النموذج التنموي الجديد، ثم تصورنا الواضح والمتكامل بخصوص نظام الحماية الاجتماعية، وصولا إلى البرنامج الانتخابي لاستحقاقات 2021. وبالموازاة مع ذلك، أدت مبادرة الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس حزبنا تحت شعار «المصالحة والانفتاح» إلى تحقيق النتائج المرجوة منها، كما أن حزبنا تميز بمبادرة الكاتب الأول بخصوص تدبير البلاد خلال جائحة كورونا. إن هذه السلسلة من المواقف والمبادرات السياسية، قد مَكنَت حزبنا من استرجاع ثقة الاتحاديات والاتحاديين، ومن وراءهم ثقة جزء هام من المجتمع في حزب القوات الشعبية. لذا، فإن المتتبع لبيانات اجتماعات المجالس الوطنية، سيُلاحظ النتائج الإيجابية لهذه المبادرات، والتي تكللت بما حققناه من نتائج إيجابية على أرض الواقع في مختلف استحقاقات 2021، رغم كل ما شابها من تجاوزات. ثانيا: أي وضع للاتحاد الاشتراكي في المنظومة السياسية والمشهد الحزبي؟ لقد سبق أن وقفنا مُطولا، خلال المقرر التوجيهي لمؤتمرنا العاشر، عند أحد الظواهر التي أثارت نقاشا موسعا، يتعلق بمسألة تخلي الطبقة الوسطى، بما لها من تأثير واسع، سياسي وثقافي داخل المجتمع، عن المشروع الاتحادي. فهذه الطبقة بالذات، والتي كانت حاملة لمشروع التغيير، والمدافعة عن قيم الحداثة، تراوح سلوكها بين الرهان على قدرة تنظيمات أخرى أو عزوفها عن المشاركة، الأمر الذي لا يُمكنه إلا أن يؤدي إلى نتائج كارثية، نتيجة عدم القدرة على فهم تطلعات هذه الطبقة والاستجابة لها. وقد تمكن حزبنا، سواء من خلال تموقعه في المعارضة أو من خلال مشاركته في الائتلاف الحكومي خلال العقد الأخير، من الشروع في استعادة مكانته ليس من خلال ممارسته للمعارضة البرلمانية فقط، وإنما من خلال تحوله لمعارضة مجتمعية مع بداية انخراطه في المعارك المجتمعية الكبرى، خاصة على صعيد الفئات التي تضررت من سياسة الحكومة المحافظة. إن حزبنا الذي يحمل صفة «الاشتراكي» كان عرضة لحملات متعددة المصادر. وإذا كان قد تمكن من تجاوز مخلفات «الصراع» مع الدولة عن طريق سلسلة من التوافقات، فإن الهجوم بقي مُستمرا من قِبل القوى المحافظة والرجعية وبعض اللوبيات النفعية، في البلاد. لكن مبادراتنا ومواقفنا وصمودنا، جعلت منا، رقما ثابتا في المعادلة السياسية للمغرب، لأن مكانتنا داخل المشهد الحزبي قائمة، بناءً على تميزنا الذي يجعل منا مشروعا سياسيا ومجتمعيا واضحا، جوهره الدفاع عن الجماهير الشعبية وعن الديمقراطية والعدالة والمساواة وقيم الحداثة. إن مُختلف الهجمات على تنظيمنا، كحزب سياسي، لم تُمَكن الحالمين بالحلول محله بإمكانياتهم المالية، ولا المحافظين باستغلالهم البشع للفكر الديني، من أن ينالوا من مكانته. وإذا كانت استحقاقات 2021 قد قلصت من تأثير الدين في العمليات الانتخابية، فإن استعمال المال لا يزال في حاجة لسياسة صارمة تقضي عليه بصفة نهائية، لفتح المجال أمام المزيد من التنافس المتكافئ، وتُمكننا من الاستمرار في التركيز على الدفاع عن دور الدولة في تحسين ظروف معيشة الفئات الأكثر تضررا داخل المجتمع، بعيدا عن أية مزايدات حزبية تستعمل المال أو الدين لذلك الغرض. لقد شكلت مرحلة ما بعد استحقاقات 2021، مرحلة سياسية جديدة أصبح لزاما على حزبنا أن يعمل على التجديد والابتكار بخصوصها، وهي فرصة للتمييز في مطالبنا ومواقفنا بين ما هو بنيوي وما هو ظرفي. إن حزبنا مُطالب بأن يفكر في رصيده السياسي الذي اشترك فيه مع المغاربة عبر تجربته التي دامت من سنة 1996، وهي السنة التي عرفت التوافق حول الدستور الجديد والتوزيع الجديد للسلطات، ثم المفاوضات التي أفضت إلى تجربة التناوب. إن الأمر يتعلق بمسار ساعد على خلق وسيادة منطق التوافق. وخلال كل المراحل اللاحقة، وإلى غاية استحقاقات 2021، كان الحزب يشتغل بإيقاع توافقي بينه وبين الملك. لقد أدى مسار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال هذه المراحل إلى تآكل داخلي دون أن يُؤدي ذلك إلى الانكسار، وهو ما يتطلب الآن الخروج من هذه المرحلة والدخول لمرحلة جديدة. لقد عرف الخيط الرابط بين تجربتنا الماضية قبل التناوب وبعدها، تقطعات لا بد من الوقوف عليها. فقد كان الاتحاد الاشتراكي خلال الخمسين سنة الأخيرة يدبر الخط السياسي بالنظر والتمعن اللازم، لكن هذا الخيط الرابط ضَعُف الآن، بل ويكاد ينعدم من الناحية الكمية خاصة على مستوى تواجد الاتحاد الاشتراكي داخل المؤسسات، فأصبحنا في وضع جديد ليس لأننا في المعارضة، ولكن للحاجة إلى مقاربة نقدية جدلية. إن اعتماد شعار «الوطن أولا» خلال استحقاقات 2021، مؤشر على استمرارية منظورنا السابق إلى أفضلية الوطن على الحزب، والذي أصبح الواقع الجديد للبلاد يفرضه بقوة، وهو ما يتطلب الدفاع عن «محورية الدولة». فالاتحاد الاشتراكي كيان تاريخي انبثق من ظروف سياسية اجتماعية اقتصادية، وتأقلم معها. ولذلك، انطلق من فكرة الحزب الدولة كمشروع تاريخي، مما يُثبت أن محورية الدولة كانت حاضرة منذ التأسيس وباستمرار، والفكر اليساري نفسه يعتبر أن الدولة تجسد ميزان القوى داخل المجتمع الطبقي وهي انعكاس لما يجري داخل المجتمع. إن دولة المغرب المستقل عاشت إشكالية عويصة تتمثل في كيفية تمثيل مختلف الحساسيات السياسية داخلها، فنتج عن ذلك صراعات قوية عاشها الاتحاد الاشتراكي بقوة خلال مسيرته النضالية. والآن نحن مُطالبين بالإجابة عما حدث خاصة بعد تجربة التناوب، وهل انصهر الكل داخل الدولة؟ إننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بقدر ما نعي أن هناك انصهار في حدود مُعينة، بقدر ما نعتبر أن هذا الانصهار ليس هو إقامة للدولة الشمولية، وهو الشيء الذي نرفضه كلية لأنه نفي للديموقراطية التي ننشدها ونناضل من أجلها. لكننا أصبحنا نُلاحظ أن عملية الانصهار بدأت تتعرض للتخريب بعد استحقاقات 2021. إن محورية الدولة مرتبطة بتدبير شؤون المجتمع، وهي محورية اقتصادية واجتماعية، تأكدت خاصة من خلال النقاش حول النموذج التنموي الجديد. إن الحزب مطالب، بعد الخروج من المعركة الانتخابية، من التمحيص فيما هو ظرفي وما هو بنيوي. فما الذي تركه الإتحاد للمغاربة منذ التناوب؟ إنه التفاوض حول توزيع السلط، وهذه المقاربة هي التي حكمت على مسار الإتحاد الاشتراكي منذ ذلك الحين، وساعدت على خلق الواقع الذي نعيشه، عنوانه الكبير: سيادة منطق التوافق. لذلك نعيش نوعا من التمزق الداخلي، حيث ظل حزبنا مسجونا في هذه الوضعية، مما أدى إلى تآكل داخلي لأننا ظللنا نحلل الظرفية فقط دون أي خيط ناظم. والحقيقة هي أننا أمام وضع جديد، يتميز بتقوية محورية الدولة، بما تفرضه من تمظهرات جديدة وما تؤدي إليه من نتائج. إن متطلبات تدبير العلاقات الاقتصادية على الصعيد العالمي، أصبحت من أهم شروط نجاح تموقع الدولة، مما يطرح أسئلة على الحزب، من قبيل، كيف يمكن أن يضع نفسه في وضع جيواسترتيجي، طبقا لمحورية الدولة، ومن الأجوبة التي يمكن تقديمها، هو مزيدا من الانخراط في النضال من أجل رفع قدرات الموارد البشرية، عبر التربية والبحث العلمي والثقافة، وهي القضايا التي كانت ومازالت من أهم ركائز الحزب منذ تأسيسه. نجاح الدولة المحورية في التحديات التي تواجهها على الصعيدين الإقليمي والعالمي، لا يمكن أن يتم إلا بتقوية المشاركة السياسية، إذا أرادت ألا تفقد مصداقيتها، وهذا ما يتطلب التخلي عن تشجيع نظام الولاءات التقليدي عبر توزيع المنافع الانتخابية، واستغلال بنيات التخلف لإغراق الحداثة السياسية والثقافية، قصد التحكم في الخرائط التمثيلية على الصعيدين المحلي والجهوي والوطني. إن صيرورة التشكل الديمقراطي، للدولة المغربية، معرضة اليوم لنوع من السطو السياسي على المكتسبات التي تحققت بفضل نضالات الحركة الديمقراطية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني، وذلك من خلال إعادة إنتاج أنماط تقليدية وتجديدها، باستمرار، وتغليفها بمظاهر الحداثة. وكلما تقلصت المشاركة السياسية، المبنية على القناعات والاختيار الحر، كلما استعاد نظام الولاءات التقليدي قوته. فالاستثمار العمومي في البنيات التحتية ليس له مردود قريب على الصعيد الاجتماعي، والدولة المحورية مطالبة بالعمل على التوزيع المتوازن للثروات لمحاربة الهشاشة التي تنتشر وسط فئات من المجتمع، إذ لا بد من مساءلة السياسات العمومية، بهذا الخصوص، فمن غير المقبول، أن تزداد حدة الفوارق الطبقية والمجالية، دون تدخل إرادوي للحد منها ومعالجتها. إن حزبنا الذي اعتمد شعار المغرب أولا، لا يعتبره توقيعا لشيك على بياض، فالوطن القوي، هو الذي يحترم كل قيم المواطنة الحرة والقادرة على الاختيار المعتمد على القناعات وعلى الكرامة، وهو ما يتطلب منا ربط أولوية المغرب كوطن، بسياسات عمومية ناجعة في الصحة والتعليم والتربية والثقافة والبيئة والجماعات الترابية وحماية المستهلكين واحترام حقوق الإنسان الجماعية والفردية… وغيرها من مقومات المواطنة الديمقراطية والحديثة. ثالثا: الوضع السياسي ببلادنا خلال عشرية ما بعد دستور 2011 لقد عاشت بلادنا بعد المصادقة على دستور 2011، مرحلة كان من الممكن أن تُشكل قفزة سياسية، اقتصادية واجتماعية جديدة، نتيجة الحماس الاجتماعي الذي تلا حركة 20 فبراير والمواكبة الواسعة للمراجعة الشاملة للدستور وتحضير القوانين التنظيمية ذات الصلة بالاستحقاقات الانتخابية، إلا أن استفادة أحد الأحزاب المحافظة من المنهجية الديمقراطية التي حرص الاتحاد الاشتراكي على دسترتها، كشفت عن عجز هذا الحزب على مسايرة الحمولة الديمقراطية للدستور الجديد. وقد تعددت مظاهر ذلك العجز في جوانب كثيرة تمثلت في البداية في التنازل عن عدد من الاختصاصات الدستورية، سواء من خلال النصوص التشريعية أو من خلال الممارسة، ثم تجسدت من خلال طريقة مُعالجة القضايا الكبرى للبلاد. فرغم رفع شعار محاربة الفساد، فإن أي شيء من ذلك لم يحدُث، ورغم رفع شعار الإصلاح، فإن الممارسة أبانت عن إصلاحات كلها كانت محل جدال، سواء تعلق الأمر بصندوق المقاصة، أو نظام التقاعد، أو التوظيف عن طريق التعاقد، ثم أنه رغم احتلاله مركز الصدارة في الانتخابات الجماعية وتحقيقه لفوز كاسح في جل المدن الكبيرة والمتوسطة، فإنه كشف بالملموس عن ضعف منتخَبيه على إدارة الشأن العام. لقد تم تبني نهج الليبيرالية المتوحشة بدون تحفظ خلال العشرية التي تلت دستور 2011، وتميز تدبير الحزب القائد للتجربة بالتراجع عن العديد من المكتسبات الاجتماعية، وظهر بشكل جلي أن نجاحاته الانتخابية تعود أساسا لتوظيفه للدين لأهداف سياسية دون التوفر على أي مشروع سياسي يقوم على مشروع مجتمعي واضح، ولا على أطر كفأة قادرة على تدبير القطاعات المُسنَدَة إليها، وهو ما عكسته نتائج استحقاقات 2021 المختلفة. ونظرا لهذا السياق بالضبط، فإن مشاركتنا في الحكومة الثانية، لم تحقق النتائج المرجوة منها رغم المجهودات التي قام بها الوزراء الاتحاديون الذين شاركوا في جو سياسي طغت عليه الصراعات داخل الأغلبية الحكومية آنذاك، والتي كانت تنتصر للحزبية الضيقة على حساب الوطن بحسابات حزبية ضيقة. وحتى عندما يقتضي الأمر التوافق على تسويات داخل الحكومة، فإنه تتم مهاجمة مخرجاتها في البرلمان من طرف الحزب الذي كان يقود الحكومة وقتها. والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كان يعتبر أن أي تنازلات -بمعناها النبيل- في إطار التسويات، لم تكن تعني تنازلات للخصم السياسي بقدر ما تعني تنازلات من أجل الوطن، أخذا بعين الاعتبار أن الحكومة كانت خليطا من التوجهات المتباينة، وأننا كنا أمام مرحلة دقيقة خاصة مع جائحة كورونا التي كشفت مجموعة من الاختلالات الهيكلية، وأبانت عن أنه في لحظات الأزمات الكبرى، نكون محتاجين إلى دولة قوية وتضامن مجتمعي، أي جعل المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. رابعا: أية رهانات سياسية وأي تناوب أصلح لبلادنا؟ يعتبر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أن تحديد الرهانات السياسية، يتطلب استحضار الشروط الذاتية والموضوعية، حتى يكون لأي رهان مصداقيته اللازمة كهدف نعمل على تحقيقه، وكآليات توصلنا لتحقيق ذلك الهدف. وقد أبات العشرية الأخيرة صحة مواقفنا التي بنينا عليها موقعنا في المنظومة السياسية والحزبية. لقد كنا نُراهن على مؤسسات قوية بعد صدور دستور 2011 التي اعتبرناه دستورا مُتقدما، استجاب للكثير من تطلعاتنا. إلا أن الأحداث اللاحقة، أبانت على أنه لا يُمكن للحياة السياسية التي يقودها حزب محافظ بدستور مُتقدم إلا أن تُشكل انتكاصا نتيجة عدم القدرة على رفع الأداء السياسي لمستوى هذا الدستور. وكانت تلك مسألة طبيعية نتيجة تأثير الإطار الدولي العام المتميز بصعود القوى اليمينية والمحافظة. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام تعاقد دستوري متقدم تُشرف على تطبيقه حكومة محافظة، مدعمة بتحالف مختلط، فانتقلنا لصف المعارضة بعد أن شاركنا حوالي 13 سنة. ولم يكن خيار المعارضة إلا نتيجة تحليل عميق للظروف التي مرت بها بلادنا، والتي كانت من خلالها في حاجة لتوازن جديد. إن تلك الشروط الصعبة، الناتجة عن محاولة فرض استقطاب ثنائي يقود استغلال الدين أحدهما، ويقود استعمال المال الجهة الأخرى، وتكالبهما قصد تضييق الخناق على المشاريع الحزبية الجادة. ومن خلال عملنا من داخل المعارضة البرلمانية والميدانية، وتمكننا من تجديد تنظيمنا الحزبي، حصلنا على رئاسة مجلس النواب، وشاركنا في النسخة الثانية من حكومة ما بعد دستور 2011، بعد أن مرت البلاد بفترة اصطُلح على تسميتها ب «البلوكاج» الحكومي. أما على الصعيد الانتخابي، فقد كان رهاننا واضحا يتمثل في استرجاع مكانتنا، فأصبح رهاننا السياسي هو استرجاع حق المبادرة بإمكانياتنا الذاتية، وتحديد مواقفنا استنادا على ذلك. وإننا وقد حسمنا في العديد من المواقف، فإننا لم نتردد في الإعلان عن الاصطفاف في المعارضة ما دام أن ذلك، يُرسخ استقلالية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مع استعدادنا الكامل لتحمل المسؤولية في حالة المشاركة. إنها معادلة، تتطلب منا أن نكون في مستوى هذا الرهان المزدوج: ممارسة المعارضة والقدرة على المشاركة في أية لحظة. وإذا كانت شروط المعارضة البرلمانية غير مُتوفرة بشكل مناسب نتيجة ظاهرة «استقواء» الأغلبية العددية، فإن ذلك ينبغي أن يكون سببا كافيا لممارسة معارضة مجتمعية ميدانية. إن ما وقع بعد استحقاقات 2021، يُعتبر ضربا لمبدأ التعددية التي هي شرط لوجود الديموقراطية، حيث تمت محاولات للحد أو التقليص منها، وهي محاولات لا يُمكن إلا أن تعود سلبا على التطور الديمقراطي نفسه. فبلادنا عرفت محاولات عديدة «للاستقواء» تجاه المعارضة، بدأت مع مطلع الستينات من خلال تأسيس جبهة لمواجهة القوى الديمقراطية الوطنية (فديك)، واستمرت من خلال استعمال «المحايدين» ضد المتحزبين، ثم عبر خلق أحزاب بقرارات إدارية تمتلك بمجرد إحداثها من القوة ما يجعلها تقود الحكومة، وصولا إلى تشكيل ائتلاف مصطنع لا يُراعي التطورات السياسية الطبيعية لبلادنا. إن الهدف الأمثل الذي ينبغي أن يتعبأ كل الاتحاديات والاتحاديين لتحقيقه، يتمثل في مناهضة ما أطلق عليه مجازا، «التغول» الحكومي الذي ليس إلا شكلا لهيمنة السلطة والمال، والتشبث بالتناوب الديمقراطي النابع من صناديق الاقتراع، وفق ما عبر عنه الخطاب الملكي ل 9 أكتوبر 2021 ب «التداول الطبيعي على تدبير الشأن العام»، وهو التداول الذي طالما اعتبرناه المحرك الأساسي للديمقراطية، والمحفز للعمل السياسي والمجتمعي. وإذا كان «هذا التناوب» قد نتج عنه لحد الآن حكومتيْنِ محافظتيْنِ تستقويان بأغلبية عددية ذاتية، وحكومة ذات أغلية عددية جاءت نتيجة انتخابات أعادت، في جل أطوارها، إنتاج ممارسات سابقة، تعتمد على لوبيات نفعية وعلاقات الولاء والزبونية، فإن الرهان الآن هو على تناوب يقوده حزبنا يكون بديلا عن التيار المحافظ، والتيار الليبرالي، وتنظيف المسلسل الانتخابي بما شابه من خروقات وانتهاكات. وهو ما يتطلب منا تكثيف عملنا لتحقيق التناوب الديمقراطي الذي ننشده. إن تحقيق هذا الهدف مرتبط برهان سياسي من طبيعة أخرى، يتمثل في توسيع مجال المشاركة السياسية. فتدبير الشأن العام، لا ينبغي أن يجعل تفكيرنا منحصرا في المؤسسات المنتَخَبَة الوطنية، بل أيضا وأساسا أن ينصب على توسيع وعاء المشاركة على المستوى الترابي. إن الجماعات الترابية بمخالف مستوياتها، تُشكل قاعدة للديمقراطية المحلية، القادرة على إنتاج النُخب الجديدة، وإعادة الثقة للعمل المؤسساتي، وسياسة القرب، وبالتالي فإن أي تقليص للمساهمة فيها يُشكل في نفس الوقت تقليصا للمشاركة السياسة الوطنية وعدم إبداء أي حماس للمشاركة فيها. إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يُثير الانتباه لمسألة رهان توسيع المشاركة السياسية، ويعتبر أن ما تم بعد مسلسل استحقاقات 2021 من تحالفات هيمنت على الجماعات الترابية والغرف المعنية ومجلسي البرلمان، مؤشر على انزلاق خطير، يضع الأسس لتحويل محورية الدولة إلى دولة شمولية تقضي على آمال وتطلعات المغربيات والمغاربة في دولة ديمقراطية قائمة على التعددية السياسية. خامسا: أي تدبير للبلاد في ظل جائحة كورونا؟ تابع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ما يعيشه المجتمع الدولي من تداعيات جراء انتشار جائحة «كورونا كوفيد-19»، وما تقوم به بلادنا من مجهودات قل نظيرها عالميا، في سبيل محاصرة هذا الوباء والتخفيف من حدة انتشاره، ورغم الخلافات السياسية الناتجة عن اختلاف تقدير الأوضاع في مرحلة ما قبل بداية ظهور هذه الجائحة، فإن الأوضاع سرعان ما اتخذت منحى آخر نتيجة استحضار المغاربة والمغربيات قاطبة لقيم التآزر والتعاون التي تُعد الأساس الصلب لتعاقدهم على إرساء دعائم المجتمع المتضامن. لقد أبان الشعب المغربي، مرة أخرى عن قدرته على الالتحام كلما واجه ظروفا صعبة، مُتشبثا بالرغبة في العيش المشترك، التي لن يتخلى عنها تحت أي ظرف كان، كما أبان بنفس الحدة، عن تشبته الراسخ بالنظام الملكي باعتباره الركيزة المحورية التي تضمن للأمة عدم تفكك أو اضمحلال الثوابت الدستورية الجامعة الأخرى، والتي ستضل مرتبطة ببعضها البعض بفضل الملكية الدستورية التي يُجمع الشعب المغربي عليها. فمع البدايات الأولى لانتشار جائحة «كورونا»، جسدت الملكية بالمغرب طابعها الاجتماعي أكثر من أي وقت مضى، فكان للمبادرات الملكية عظيم الأثر في تجنيب بلادنا مآس غير محسوبة العواقب، من خلال التعليمات والإشراف المباشر على مبادرات ترددت دول عديدة في اتخاذها. وقد نالت هذه المبادرات الالتفاف الشعبي حولها بالشكل الذي جعل منها نموذجا عالميا يحق لبلدنا الافتخار به. وفي ظل هذه الأوضاع التي فرضتها حالة الطوارئ الصحية، عرفا بلادنا نقاشا مؤسساتيا ونقاشا عموميا موازيا، حول موضوعين أساسيين، يهم الأول منهما طريقة تدبير سياسة الحد من انتشار جائحة «كورونا» في أفق القضاء عليها، ويهم الثاني محاولة استشراف آفاق ما بعد هذه المرحلة. وخلال هذا النقاش بشقيه، برزت العديد من الأفكار التي طالما دافع عنها حزبنا، بل والتي لا زالت تمثل جوهر تميزه. ونخص بالذكر من ذلك معالجة الآثار الاجتماعية التي مست الفئات الهشة والضعيفة وذات الدخل المحدود. لقد انطلقنا فيي مختلف مواقفنا من أن جائحة كورونا ليست بظاهرة مؤقتة يسهل الإحاطة بها، وبالتالي ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن مآل هذه الجائحة غير مرتبط بنا لوحدنا كدولة، بل بكل المجتمع الدولي، وأنه لا يُمكننا التكهن بما ستؤول إليه الأوضاع، ولا المدة التي ستستغرقها، وأن ما نحن متأكدين منه، هو أن الآثار ستكون سلبية ووخيمة على الاقتصاد الدولي، وأن تداعيات هذه الآثار، ستزيد من حدة الآثار الداخلية. وعلى هذا الأساس، فإن الطبقة السياسية بمختلف أطيافها مدعوة للإجابة عن الكثير من التساؤلات حول مرحلة ما بعد جائحة «كورونا» -في حالة تحقق ذلك-، فالمجتمع الدولي ستطاله الكثير من التغيرات نتيجة التعديلات التي ستقوم بها مختلف الدول على صعيد سياساتها الداخلية. وفي هذه الحالة، فإن بلادنا بدورها ستكون ملزمة بملائمة مختلف طرق التدبير بما يخدم المصالح الوطنية. لقد قام الكاتب الأول لحزبنا بمبادرة مُتميزة خلال المراحل الأولى لانتشار جائحة كورونا، حيث قدم أرضية توجيهية لتأطير النقاش الاتحادي حول تدبير الوضعية خلال هذه الجائحة، وهي أرضية لاستشراف المستقبل وربط ذلك بالنموذج التنموي الجديد الذي كان قيد الإعداد، وقد بينت الأحداث اللاحقة صحة الكثير من محتواها الذي لا يزال يقبل المناقشة، حيث أصبح ثابتا سوء تقدير الذين راهنوا على أن انتشار الجائحة مسألة مؤقتة سرعان ما ستعود الحياة الطبيعية بعدها. لكل ذلك، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سيبقى دائما حذرا ومُنبها لما يُمكن أن يترتب عن أي تراخ في مواجهة الجائحة أو في الحد من تداعياتها على مختلف الفئات الاجتماعية، كما أنه سيعتبر أن المجهود الوطني الذي يتم بذله بهذا الخصوص ما كان له أن يتحقق لولا التوجيه والإشراف الملكي المباشر. سادسا: أي رهانات اقتصادية أمام «النموذج التنموي الجديد»؟ لقد كان للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية دائما، وجهة نظره الاقتصادية المتميزة، والمبنية على تحليل دقيق للأوضاع ببلادنا، أوصلنا لخلاصات اعتمدناها خلال المؤتمر الوطني العاشر. وقد كان رأينا مستندا على أن نجاح نظام الحماية الاجتماعية، رهين بنجاح النموذج الاقتصادي الذي ينبغي اعتماده. وقد نبهنا في العديد من المحطات، إلى أن هذا النموذج التنموي يلزمه إصلاحات هيكلية، باعتباره نموذجا غير ناجع، بل وطرحنا تساؤلا عريضا عن مكمن الخلل بخصوصه، وهل يرجع ذلك إلى النموذج نفسه، أم إلى سوء تدبيره؟ كما دعونا في مقررنا التوجيهي خلال المؤتمر العاشر إلى خلق نموذج متكامل ومندمج قائم على التضامن الاجتماعي والعدالة الترابية والهيكلة العقلانية والجاذبية الاستثمارية. وقد أثبتت الوقائع لاحقا صحة وجهة نظرنا، حيث دعا الملك إلى البحث عن «نموذج تنموي جديد». وهو الأمر الذي ساهمنا فيه، مُستندين على أطرنا ووثائقنا وأدبياتنا الحزبية. ويكفي هنا أن نُحيل إلى برامجنا الانتخابية لكل من استحقاقات 2016 و2021، والتي تتضمن ما يكفي من التفاصيل، لكل القطاعات الاقتصادية والمالية، كما نُحيل إلى مساهمتنا أمام لجنة النموذج التنموي الجديد. إن الاتحاد الاشتراكي سيبقى مُتشبثا بالنموذج الذي يُعالج الاختلالات الكبرى، ويستمد من المبادئ الكبرى الاشتراكية الديمقراطية، القائمة على تشجيع الوتيرة التنافسية الاقتصادية، وتحسين القدرة الشرائية للمواطنات وللمواطنين، وتقوية البعد الجهوي. وهي أهداف لن يتأتى تحقيقها إلا من خلال تعاقد اقتصادي ذي بعد اجتماعي بجيل جديد من الإصلاحات لكل السياسات العمومية القائمة. سابعا: أية معارضة سيُمارسها الاتحاد الاشتراكي؟ إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بتجربته الغنية في قيادة المعارضة، وقيادة الحكومة، والمشاركة في الائتلافات الحكومية، حيث ترأس حكومتين وشارك في ثلاث حكومات وعارض 14 حكومة، أصبح -على غرار جميع الأحزاب الديمقراطية- يعتبر أن طبيعته ورسالته ومهمته هي المعارضة أساسا والمشاركة استثناء. إن الأصل في تأسيس الأحزاب وفي علة وجودها يكمن في رئاسة الحكومة، أو المشاركة في الحكومات على أساس التزامات واضحة وبرامج مشتركة، وإن لم يتيسر له ذلك من صناديق الاقتراع، فإنه يتموقع في المعارضة ويشتغل من أجل كسب ثقة الناخبات والناخبين في المحطات الموالية. وقد مارس حزبنا جميع أنواع المعارضة التي لا ينبغي التعامل معها على أنها وصفة جاهزة يُمكن اعتمادها في أي فترة زمنية، بل هي سلسلة مواقف تتغير حسب الظروف السياسية. وقد كان للمعارضة الاتحادية خارج البرلمان النصب الأكبر، وكان لها تأثير قوي جدا على الساحة السياسية، إلا أن تجربتنا قصيرة في مجال معارضة العمل الحكومي المحض. ويظهر الاختلاف بين نوعي المعارضة في كون الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كان يستند على رؤيته الخاصة لبناء مغرب جديد بعد الاستقلال، في مواجهة تصورات أخرى كانت تُساند استمرار الإرث الاستعماري. وقد راهن حزبنا على الخيار الديمقراطي الذي لم يكن من أولويات اهتمام الدولة، ولذلك فطبيعة المعارضة طيلة هذه الفترة كانت مختلفة بشكل كبير لأننا لمن نعُد نعارض نظام الحكم بل نعارض السياسات المتبعة، خاصة على إثر المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975. وقد لعب الفريق البرلماني دورا مركزيا في ممارسة هذه المعارضة. إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يعتبر أن طبيعة المعارضة التي سيقوم بها، ينبغي أن تنطلق من أنه لا توجد نظريات ومرجعيات جادة يمكن استلهامها في توصيف أنماط وأساليب المعارضة، وأن كل التعابير بخصوص معارضة شرسة وأخرى لينة، خشنة أو ناعمة، أو بشأن معارضة مساندة، نصوحة، نقدية، لا معنى لها. وبهذا الخصوص، فإنه خلال معارضتنا للحكومة، والمتمثلة أساسا في معارضة الحكومة الأولى لما بعد دستور 2011، فقد كان تركيزنا مُنصبا على الدفاع عن مكتسبات حكومة التناوب التوافقي، والاعتراض على أي مبادرة قد تُرجع البلاد إلى الوراء. أما المعارضة البرلمانية التي يتعين أن ينخرط فيها فريقنا الاشتراكي بالبرلمان هي نفسها المعارضة في مختلف الأنظمة الديمقراطية، أي تلك التي تقوم بعدد من الوظائف المستمدة من حقوقها الدستورية ومرجعيتها السياسية، والتي يمكن إجمالها كالتالي: – لا بُد أن تمثل المعارضة سلطة مضادة، تحرص على منع الأغلبية التي تمسك بزمام السلطة من نهج سياسة تنتهك الحقوق والحريات عن طريق الآليات المتاحة في المؤسسة البرلمانية؛ – إيجاد بدائل للسياسات العمومية التي تنهجها الحكومة، بما يعزز مبدأ التعددية السياسية الذي يتيح للمواطنات والمواطنين اختيار البرامج والمشاريع المعروضة عليه؛ – الدفاع مصالح ناخبيها والمطالب المشروعة للمواطنات والمواطنين؛ – المساهمة في تجويد النصوص التشريعية، وفي مراقبة عمل الحكومة وأداء الإدارة؛ – المساهمة في الرفع من جودة النقاش البرلماني والدفاع عن المشروعية وتعزيز الشفافية؛ – المساهمة في الدبلوماسية البرلمانية والدفاع عن المصالح العليا للوطن. وفي كل ذلك يتعين على المعارضة أن تتمسك بحقوقها البرلمانية التي تشمل الحقوق المسطرية بشأن المعلومة والتمثيل والمشاركة، وحق التعبير والتصويت واقتراح القوانين، وحق مراقبة السلطة التنفيذية بما يتطلبه ذلك من تمكين المعارضة لجعلها قادرة على القيام بأدوارها الدستورية وفق مبدأ الإنصاف وليس وفق المقاربة العددية. إن تحقيق هذه الأهداف، سيُمكن من إعادة الوهج للمعارضة داخل مجلسي البرلمان، التي تُمثل مهمة جسيمة، أمام المخيال الشعبي الذي لا زالت عالقة بذهنه تلك المعارضة الاتحادية القوية، المُدعمة بامتداد جماهيري كأرقى نموذج للمعارضة البرلمانية، وأصبح لزاما علينا، نتيجة تغير الأوضاع، الاستناد على المعرفة والخبرة والتكوين في الشؤون البرلمانية، وفي نفس الوقت إبقاء ارتباط نوابنا بدوائرهم الانتخابية. أما خارج المؤسسة البرلمانية، فإن جوهر المعارضة الاتحادية في الوقت الحالي، ينبغي أن يعمل على تحويل حقل «الخصومة» إلى حقل مناهضة التوجهات الليبرالية المتوحشة، وهو ما يتطلب تقوية تظافر محاور عمل عديدة، تستهدف تأطير المجتمع، وبالتالي تقوية الارتباط بمنظمتنا النقابية، وجمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، خاصة تلك التي لنا فيها مواقف مُتميزة (حقوق الإنسان، النساء)، وأن نجتهد في خلق تحالفات جديدة. لكل ذلك، يُمكننا القول، أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، منح للشعب المغرب حزبا معارضا يساريا ديمقراطيا وطنيا، ونموذجا متميزا وفريدا في العالم العربي، ساهم من موقع المعارضة المسؤولة في تثبيت الاستقرار ودعم الوحدة الترابية. ثامنا: أية تحالفات حزبية/برلمانية مُمكنة؟ لقد مارس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كل أشكال التحالفات الممكنة. ويتعلق الأمر في البداية بالتحالفات التي تحكم فيها موقعنا في المعارضة قبل نهاية تسعينات القرن الماضي، حيث كنا نتحالف أساسا مع من هم في نفس وضعيتنا. وقد تم ذلك لفترة طويلة مع حزب الاستقلال إلى غاية تأسيس الكتلة الوطنية. إلا أن تغير موقع الطرف الآخر، من فترة لأخرى، جعلنا نعتمد على ذاتنا للقيام بدور المعارضة وضمن التوجهات اليسارية بالبلاد. ثم كانت مرحلة تشكيل الكتلة الديمقراطية كإطار جماعي للعمل والتي رغم استمرار العمل في إطارها لمدة طويلة، فإننا كنا دائما مُستمرين في الدعوة لوحدة اليسار. وقد نتج عن ذلك، أننا بدأنا نفقد «هويتنا الذاتية» التي لا تظهر إلا ضمن إطار أوسع من التحالفات، وهو ما فوت علينا فرصة إثبات ذاتنا وترسيخها ضمن المشهد الحزبي، في استقلالية تامة عن أي تحالف أو تكتل أوسع، فعملنا على استعادة ذاتيتنا وبلورة مواقفنا بشكل مُتميز عن أي تحالف. لكن مع الحكومة المحافظة لما بعد دستور 2011، وجدنا أنفسنا من جديد في المعارضة، إلى جانب تنظيمات حزبية تجمع خليطا من الليبراليين والحداثيين والمحافظين في مشهد «ضبابي»، أصبح فيه التحالف مبنيا فقط على التموقع في الحكومة أو المعارضة، وعشنا مرحلة لم تُخفف منها حتى مشاركتنا اللاحقة في الحكومة. ومع نتائج استحقاقات 2021 وما ترتب عنها من تشكيل لأغلبية جديدة، أًصبح لزاما علينا إعادة النظر جذريا في دوائر تحالفاتنا وفق ما إذا تعلق الأمر بالمعارضة البرلمانية، أو المعارضة الميدانية. وهي عملية يتحكم الحزب في بعضها دون أن يتحكم في أجزاء أخرى. إن التحالف داخل مجلسي البرلمان ينبغي أن يُراعي أن المعارضة بأكملها لا يمكنها حتى ممارسة صلاحيات دستورية عادية نتيجة كونها تتوفر فقط على أقل من ثلث الأعضاء، وأن اختلاف المرجعيات بين الفرق والمجموعات النيابية بالمجلسين قد يعوق أي تحالف فعال. ومن جهة أخرى، فإن تميز الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ينبغي أن يجد موقعه أساس في التحالفات الميدانية. إن التحالفات الميدانية التي ينبغي أن نعتمدها، يجب أن تكون مرتكزة على المواقف من السياسة الحكومية التي يُمكن أن تمس سلبا بالفئات الهشة والمعوزة والفقيرة من جهة، وبمكتسبات الطبقات الصغيرة والوسطى التي اكتوت بنار تراكم التدخلات الحكومية السلبية منذ سنة 2011 من جهة أخرى. كما ان هذه التحالفات، ينبغي أن تكون يقظة في متايعة الحركات الاحتجاجية بالمجتمع والمواضيع التي تحتج حولها، وأن يكون لها رأي واضح بخصوصها. إن التحالف الميداني ينبغي أن يكون مرادفا للمعارضة الميدانية، في كل المجالات الحقوقية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية والبيئة. حقيقة أننا قد نجد صعوبات في بلورة هذه التحالفات على الصعيد الحزبي، أمام تشتت وضعف اليسار، ونتيجة طبيعة الهيئات السياسية التي تصطف معنا في المعارضة، لكن التنظيمات المجتمعية أوسع من التنظيمات الحزبية، ولنا في التنظيمات النقابية، وجمعيات المجتمع المدني والمنظمات الغير حكومية المجال الرحب لإقامة تحالفات من طبيعة أخرى.