من بين ما نص عليه الفصل السابع من دستور فاتح يوليوز 2011، أن الأحزاب السياسية تعمل على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية. ويضيف نفس الفصل بأن نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع، وبأن الأحزاب تُؤسس وتُمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون، ولا يجوز لها المس بعدد من الثوابت، من ضمنها الخيار الديمقراطي. استنادا إلى المقتضيات الدستورية الواردة في هذا الفصل، يحق للمواطن في ظل الممارسات السياسية الحزبية السائدة اليوم التساؤل، عن وظائف وأدوار الأحزاب السياسية في المغرب؟ هل تؤطر بالفعل المواطنين؟ هل تعكس إرادة الناخبين المعبر عنها في كل الاستحقاقات الانتخابية من داخل المؤسسات الدستورية، سواء أكانت في الأغلبية أو المعارضة؟ هل الأحزاب شريك في الحكم؟ أم أنها تكتفي فقط بتنفيذ السياسات العامة التي تحدد عناوينها الرئيسية وتوجهاتها الكبرى في المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك؟ هل يمكن الحديث عن التناوب في غياب التداول عن السلطة؟ واقع الممارسة الحزبية والسياسية في المغرب، لا يعكس طبيعة الوظائف الدستورية المشار إليها في الفصل السابع من الدستور الجديد، وطبيعة النخب السياسية التي تقود الأحزاب وتتولى مسؤولية تدبيرها تنظيميا وسياسيا، ليس لها القدر الكافي من الاستقلالية التي تسمح لها بأداء أدوارها كما ينبغي، بل هناك من النخب السياسية ،من لا يمتلك سلطة القرار السياسي والحزبي، ولا كيفية تصريفه في الزمان والمكان، وهذا النوع من الكائنات السياسية غالبا ما يرتبط بأحزاب سياسية إدارية المنشأ. قبل تجربة التناوب السياسي، التي قادها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كآلية دستورية وسياسية، تشكل أفقا للتحول والانتقال من وضعية اختناق النظام، إلى وضعية تمكنه من استرجاع قوته وأنفاسه، في إطار التوافق التاريخي بين المؤسسة الملكية ، التي كانت تنظر للتناوب بوصفه الأداة، التي سيمكن من خلالها إشراك المعارضة في الحكومة لتحمل جزء من مسؤولية التسيير خارج إطار التداول على السلطة، وبين المعارضة التي كانت تنظر إلى التناوب باعتباره خطوة دستورية وسياسية لا يمكن الإقدام عليها إلا بالاستناد على ما تفرزه صناديق الاقتراع في انتخابات حرة ونزيهة...قبل هذه التجربة، كانت الحياة السياسية المغربية قد مرت بظروف اقتصادية وسياسية عصيبة، دفعت الملك الراحل إلى الحديث عن وشك تعرض البلاد للسكتة القلبية، وهو الحديث، الذي اعتبره قبل يومين فقط، الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، محمد اليازغي، بمثابة نقد ذاتي من قبل الحسن الثاني. كما كان مستوى العرض السياسي والدستوري لأحزاب الكتلة السياسية آنذاك جد متقدم، ولا سيما، بعد فشل العرض الأول للتناوب سنة 1993 بسبب تشبث القصر بوزراء السيادة وخصوصا وزارة الداخلية. قبول الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بالدخول في لعبة التوافق مع القصر، كان محط تخوف العديد من الأصوات داخل اليسار المغربي عموما، وفي الداخل الاتحادي بالتحديد، وقد كانت تلك التخوفات، تنطلق من فكرة أن غياب الضمانات في التناوب، بين المؤسسة الملكية واليوسفي، والذي اقتصر على حسن النية والقسم في المصحف الكريم، سيجعل الحكومة عاجزة عن معالجة القضايا الكبرى " الفساد الإداري والمالي، الريع، انتهاكات حقوق الإنسان" وغير قادرة على مواجهة مراكز السلطة التقليدية التي تتمتع بقدرات هائلة للوقوف ضد التغيير الممكن. تخوفات اليسار والصف الديمقراطي داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من تجربة التناوب، ستظهر نتائجها بعد سنتين من دخول هذه التجربة، وكانت أولى تمظهراتها، عدم قدرة الوزير الأول السي عبد الرحمان اليوسفي ، على الاجتماع مع الولاة والعمال بسبب رفض وزارة الداخلية، التي كان يشرف عليها الرجل القوي في الدولة حينذاك، إدريس البصري، الذي سينتهى به المشوار بعد إعفائه من قلعته المنيعة " الداخلية" لاجئا في فرنسا من دون جواز سفر إلى حين وفاته. وكانت الضربة القوية التي أنهت حلم التناوب/ التوافق السياسي في المغرب، وقصمت ظهر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وزادت من تعميق جراحه، تعيين الملك محمد السادس، إدريس جطو، وزيرا أولا في سنة 2002، على الرغم من إن حزب عبد الرحمان اليوسفي، قد حاز أغلبية المقاعد النيابية في الانتخابات التشريعية. هذا التعيين، الذي سيعتبره عبد الرحمان اليوسفي، في تصريح له أدلى به في العاصمة البلجيكية "بروكسيل" بالخروج عن المنهجية الديمقراطية، سيشكل بداية العودة القوية للتقنقراط إلى الحياة السياسية المغربية، والمفترق الحاسم في مسار أحزاب الكتلة، التي اختارت الابتعاد عن صوت الجماهير، والبقاء بين أحضان السلطة طيلة 14 سنة، بذريعة المصلحة العليا للوطن،الذي لم تعد معه تلك الأحزاب، قادرة على ممارسة وظائفها وأدوارها في الحياة السياسية بالشكل الذي كانت عليه ممارستها قبل سنة 1998. سياسة العودة بالمغرب إلى عهد التقنقراط، ومنطق اللامسؤولية الذي طبع الحياة السياسية المغربية مع حكومة عباس، الذي كان لا يمل من تكرار أنه جاء لكي ينفد سياسة الملك وتوجيهاته، في ظل وجود تصريح حكومي، وتعاقد انتخابي مع الناخبين الذين بوئوا حزبه المرتبة الأولى في انتخابات 2007، وبروز حزب الأصالة والمعاصرة مع رجل الدولة فؤاد عالي الهمة في سنة 2009، مع ما استتبع ذلك من ممارسات سياسية غير مسبوقة في التاريخ السياسي للمغرب " اكتساح الانتخابات الجماعية لسنة 2009، رئاسة الغرفة الثانية، التوفر على أضخم فريق، التموقع في الحكومة والمعارضة، تدبير عدد من عمادات المدن" عوامل أدت إلى قتل الأحزاب السياسية، ووسعت من هامش العزوف في الحياة السياسية في كل الاستحقاقات. كما أنعشت في مقابل ذلك، قيم الانتهازية والوصولية في المجتمع السياسي، حتى تحولت الأحزاب السياسية معارضة وأغلبية، إلى ما يشبه الدكاكين السياسية لتوزيع الريع الحزبي على المحيطين بها من الأتباع الجدد. وضع من هذا القبيل، سمح للبعض بالتحكم في كل شيء ، بل الأخطر من ذلك، وهذا ما سيتم الانتباه إليه بعد بروز الربيع العربي، وسقوط عدد من الأنظمة القمعية البوليسية الاستبدادية في المشرق وشمال إفريقيا، غرور التحكم أخد يدفع في اتجاه تبني النموذج التونسي، وهو النموذج الذي لا زال يسوق له البعض في المغرب إعلاميا، على الرغم من أن نظام بن علي انتهى به المشوار إلى مزبلة التاريخ. لقد أثبتت حركة 20 فبراير، التي ستخلد ذكرى ميلادها الثالث بعد أيام فقط ، أن المسار السياسي الذي كان يتجه فيه المغرب، مسار غير سليم، وأن الحياة السياسية المغربية كانت غير طبيعية، وأن منطق التحكم في النخب والأحزاب بالريع والسلطوية ، منطق مضر باستقرار هذا الوطن الذي نتقاسمه جميعا " يساريين، علمانيين، إسلاميين، أمازيغ ، يهود مغاربة، حسانيين". وقد لاحظ الجميع كيف سيتحول حزبا سياسيا، حصد الأخضر واليابس في انتخابات 2009، إلى رقم صغير في المعادلة الانتخابية، بعد انتخابات 25 نونبر، إذا نظرنا لترتيبه ولمجموع الأصوات التي حصل عليها ، ولعدد المقاعد التي نالها في الغرفة الأولى مقارنة بالحزب الذي يقود التحالف الحكومي اليوم ب 107 مقاعد. انتخابات 25 نونبر، كشفت بالواضح أن الحياة السياسية والمسار الديمقراطي في المغرب، تعترضهما عدة أعطاب، رغم التقدم الطفيف في نسبة المشاركة، وهي نسبة على كل حال فيها نقاش، إذا ما نظرنا إليها من خلال مجموع المغاربة، الذين يحق لهم التسجيل في اللوائح الانتخابية والتصويت فيها. كما أن تسمية عبد الإله ابن كيران رئيسا للحكومة في إطار التنزيل الديمقراطي للدستور، وتنصيب حكومته برلمانيا بعد ذلك ، مع ما رافق ذلك من نقاشات " سياسوية" ومن تشنجات حزبية، وممارسات لا أخلاقية داخل المؤسسات الدستورية " مجلس النواب ومجلس النواب"، أمور تدفع إلى التساؤل حول المعنى الدستوري للحزب السياسي اليوم في المغرب؟ مؤسف جدا أن يصل مستوى الممارسة السياسية في المغرب، والذي شكل سنة 1998 النموذج السياسي في الإصلاح بالعالم العربي والإسلامي، إلى هذا المستوى من الانحدار السياسي والأخلاقي والقيمي الذي وصل إليه. رئيس حكومة يتكلم لغة العفاريت والتماسيح، ونقابيين يصفون وزيرا سياسيا بالحقير، وحزبا سياسيا يصدر بيان يصف فيه حكومة منصبة من قبل البرلمان ومنتخبة من طرف المغاربة ورئيسها تمت تسميته من قبل ملك البلاد، بأنذل حكومة في العالم، وحزب سياسي يشتكي وزرائه من التحريض دوليا على حكومة يقودها، وأحزاب للمعارضة تجتمع بالهيئات الدبلوماسية الممثلة في المغرب في فنادق خمس نجوم لشرح الأوضاع في المغرب في ظل حكومة يقودها الإسلاميين واليساريين والمحافظين، وبرلماني يتعرى علينا داخل مؤسسة دستورية دون أي احترام ويخرج علينا في تصريح صحفي للقول بأن الأمر عادي. ما الذي يحدث في المغرب؟ هل وصل الانفلات السياسي إلى هذا الحد؟ الوضع غير مشرف، والحالة السياسية في البلاد طغى عليها السلوك الشعبوي القاتل، والمنطق الذي تشتغل به الأحزاب، لا ينسجم مع الأدوار المرسومة لها دستوريا ، ويسيء للخيار الديمقراطي في البلاد بوصفه أحد الثوابت الدستورية للمملكة.