للوقت مفعول السحر، يعطيك مساحة من أجل التحليل الهادئ من جهة، ومن أجل طرد شيطان الدهشة من مخيلتك، بفرك العينين وكثير من التأمل. عيب «ساستنا» أنهم لا يطبخون مواقفهم على نار هادئة، يندهشون بسرعة ويستنكرون بسرعة... ردودا انفعالية تنم عن الجهل أحيانا وعن الخبث أحايين كثيرة... عدم إعمال العقل وتغييب المنطق.. القفز عن الأسباب الحقيقية والقطع مع التاريخ.. قراءة النتائج بهواجس اللحظة وبإسقاطات الذات المريضة. مباشرة بعد الإعلان عن نتائج استحقاقات الرابع من شتنبر، بل وقبل ذلك بكثير، و»الكبوة» التي مست الاتحاد الاشتراكي، أصيب البعض بإسهال سياسي... صحف تدعي الحياد، وأخرى تزعم الاستقلالية.. مواقع تديرها جيوش الهدم والعدمية.. «خبراء» و»محللون».. «مناضلون» كانوا ذات يوم اتحاديين... تعددت الأسباب والخلفيات والهدف واحد، جلد الاتحاد الاشتراكي، إعلان موت حزب «تقليدي» و»شائخ».. المطالبة باستقالة المكتب السياسي، رحيل الكاتب الأول وعقد مؤتمر استثنائي! التهمة جاهزة «فشل» لشكر في تدبير المرحلة.. إنه المسؤول الأول والأخير عن «النكسة» التي تعكسها النتائج المحصل عليها. لنتفق مبدئيا، لا أحد من المناضلات والمناضلين الاتحاديين طبعا، سرته نتائج 4 شتنبر وما ترتب عنها في الجماعات والجهات ومجلس المستشارين... لا أحد تقبلها بارتياح.. الكل غاضب والكل محبط.. ولكن لنتفق أيضا، بالرغم من مشاعر الانزعاج والغضب والقلق... وبالرغم من الجروح والآلام التي أحدثتها فينا هذه النتائج البئيسة، فإنها مع ذلك لم تفاجئنا ولم تصدمنا.. إن ما حدث اليوم لم يكن صدفة ولم يكن وليد اللحظة.. نتائج اليوم لها امتدادات سببية في الأمس البعيد والقريب. والآن وقد اكتمل المسلسل الانتخابي، وكانت الحلقة البداية في الصيف والحلقة الأخيرة في الخريف.. وكان العنوان هو خريف الديمقراطية ببلادنا.. إذن، دعونا الآن لنفكر بهدوء وفي سلام، دعونا نقيم بعمق وبكثير من الموضوعية.. لنعلق، إذن، نوايانا وعواطفنا، بالرغم من أنها صادقة أحيانا.. ونبحث عن الأسباب الحقيقية، الخفية والظاهرة، السياسية والاجتماعية، الذاتية والموضوعية، الإرادية واللاإرادية، المباشرة وغير المباشرة... سنحاول أن نقدم قراءة مختلفة.. أن نقدم تقييما يقارب نسبيا الحقيقة، تقييما يقينا سادية أولئك الذين عذبوا ودمروا الحزب، من داخل الحزب في فترات مضت وحاليا من خارجه... وهم الآن يتلذذون بطريقة مرضية تستحق الإشفاق والعلاج، وإن كانت حالتهم مستعصية عن كل علاج وإن كان بديلا متهافتا. وسنقف عند بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف النتائج التي حصدها حزب الاتحاد الاشتراكي في الاستحقاقات الأخيرة: 1 – المشاركة في حكومتي جطو والفاسي 2- سلطة المال وقوى التحكم 3- قوى التشتيت والتدمير 4- غياب ثقافة انتخابية قطار التناوب حينما وضع عبد الرحمان اليوسفي يده في يد الراحل الحسن الثاني لقيادة أول تناوب سياسي، اعتقد الكثيرون أن حزب القوات الشعبية رسم لنفسه طريقا آخر لن تخلو من حوادث سير واهتزازات لابد أن تؤثر على تنظيماته ومناضليه. في نهاية التسعينات، إذن، انخرط الاتحاد الاشتراكي في تدبير الشأن العام، وقبل اليوسفي مهام الوزارة الأولى، التي كانت تعني للملك الراحل انتقالا من عرش لعرش، كما كانت تعني له إشراك فعاليات سياسية جربت مقاعد المعارضة لأربعين سنة.. وعزا البعض سبب قبول اليوسفي الى وطنيته الصادقة التي تدفعه من أجل إنقاذ المغرب من «السكتة القلبية»، وكيف لا وهو الذي خاض صراعا مريرا مع الحكم المركزي في سبيل مغرب يؤطره الحق والقانون والعدالة الاجتماعية. ومن ثمة كان اليوسفي هو أول معارض سياسي كبير في تاريخ المغرب الحديث، يقود حكومة مشروطة بوضعية سياسية معقدة جعلت الاتحاد الاشتراكي كقطب يساري مهم يمارس الحكم والسلطة مع حلفائه إلى جانب الملك ضمن ميثاق مشترك غير مكتوب، ولأول مرة أيضا يتم النهوض بإصلاح أجهزة الدولة عبر إخراج ترسانة جديدة من النصوص القانونية والتنظيمية، ويتم التراضي حول الخطوط التي ينبغي أن تتحرك ضمنها الحريات والحقوق بما فيها حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وتأسيس الأحزاب والجمعيات، مع الدعوة في كل وقت وحين إلى تخليق الحياة العامة والتقليص من صلاحيات بعض الأجهزة الإدارية للدولة، مثل وزارة الداخلية وغيرها... ويحسب لليوسفي قدرته على التحكم والسيطرة على عالم المتناقضات، ولذلك استطاع أن يسير بحكومة تضم إلى جانب وزراء اتحاديين ويساريين ووزراء لهم انتماءات سياسية أخرى وآخرين يطلقون على أنفسهم وزراء السيادة ومن ضمنهم الراحل إدريس البصري. نجح الاتحاد الاشتراكي، إذن، في عدد كبير من الاختبارات بحسب الكثير من المتتبعين، وكان طبيعيا أن يفشل في أخرى، خصوصا وأن الوضع السياسي فرض عليه بعض التحالفات، التي سيطلق عليها مصطلح «التحالفات الهجينة». تنظيميا، كان لا بد لليوسفي أن يواجه إعصار رفاقه الغاضبين في الحزب سواء أولئك الذين لم يستفيدوا من كعكة الحكومة، أو الذين كانوا بالفعل غير مقتنعين ببعض الممارسات الاتحادية في تدبير الشأن العام، وبالكثير من الصبر والحكمة، نجح اليوسفي في جر حكومته إلى بر الأمان على عهد ملكين. الخطيئة الأولى وبداية النكسة في الوقت الذي اعتقد الكثيرون أن أول استحقاقات على عهد الملك الجديد، والتي جرت في 2002، ستقذف بالاتحاد الاشتراكي إلى المراتب المتأخرة بالنظر إلى أنه المسؤول عن نتائج التناوب، فهم الناخبون أن حزب القوات الشعبية يستحق أصواتهم، وأن الضرورة تفرض ألا تكون صناديق الاقتراع جاحدة في حقهم. وحملت هذه الصناديق في 2002 الاتحاد إلى المرتبة الأولى رغم كل الضربات التي تلقاها من الداخل والخارج وانتظر الكثيرون أن يكمل اليوسفي، أو من ينوب عنه، مشوار التناوب الذي كان شاقا. واعتقد الاتحاديون أن منطق «المنهجية الديمقراطية»، التي ستصبح بعد ذلك مرجعا دستوريا يؤكد عليه ملك البلاد في أكثر من خطاب هو الذي سيحسم في الأمر. غير أن الأمور سارت في اتجاه معاكس، وتم تعيين إدريس جطو وزيرا أولا بدلا من اليوسفي. غضب عبد الرحمان ونزل الحزن على الاتحاد الذي أحس أنه خذل بعد كل الذي قدمه من تاريخه ونضاله. تم التنديد بخرق المنهجية الديمقراطية على مستوى البلاغ الشهير للمكتب السياسي، وتوزع الإخوة بين متحمس للمشاركة في حكومة جطو بدعوى استكمال الأوراش التي انطلقت منذ 1998، وبين من يقف معارضا للمشاركة في حكومة يقودها تيكنوقراطي. وانتصر تيار المشاركة، وكان لابد أن يؤدي الاتحاد الثمن غاليا خصوصا وأنه أصبح مجرد مشارك، في الوقت الذي كان فيه من قبل صانعا للتناوب وقائدا له. وللتذكير فإن محمد الأشعري دافع بشراسة عن المشاركة في حكومة جطو بدعوى استكمال الأوراش. لقد كانت هذه المشاركة خطأ سياسيا جسيما، ولقد سجل المتتبعون أن الاتحاد الاشتراكي لما انتقد الخروج عن المنهجية الديمقراطية كان منسجما مع تاريخه، إلا أنه وقف في منتصف الطريق.. وشارك في الحكومة، ولن يغفر له المغاربة هذا الخطأ الذي اعتبر تهافتا على المناصب. حينما حل موعد الحساب في 2007، كان حزب الاتحاد الاشتراكي الخاسر الأكبر في الانتخابات التشريعية ليوم 7 شتنبر، حيث طغى التواضع على نتائج الحزب، وتأكد تراجع ثقل الحزب في الساحة البرلمانية، بعد حصوله على 38 مقعدا... كان لا بد أن يؤدي الاتحاد الثمن مرة أخرى، لقد انتظر منه المغاربة كل شيئ، بل كان بالنسبة للقوات الشعبية الملاذ الأخير بعد أن جربوا لأربعين سنة كل الأشكال المتأخرة أمام حزب الاستقلال الذي احتل الصف الأول، في ترتيب سياسي غريب بعد أن كانت نسبة المشاركة ضعيفة جدا، في حدث استحقاقات 2007، وفهم الكثيرون أن الغاضبين هم من صنعوا حدث هذا الموعد الانتخابي أكثر مما صنعه أولئك الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع. الخطيئة الثانية ومرة أخرى سيطرح السؤال لدى الاتحاد، حينما أصبح عباس الفاسي هو المرشح لمنصب الوزارة احتراما للمنهجية الديمقراطية عن جدوى المشاركة من عدمها، ومن المفارقات الغريبة أن الشخص الذي استفاد في 2007 من المنهجية الديمقراطية، هو الشخص نفسه الذي أفشلها سنة 2002 بعدما أطلق «حكمة» «مولا نوبة» آنذاك وقام بتشكيل تحالف غير متجانس وشاذ، معلنا طمعه في الوزارة الأولى خلفا لعبد الرحمان اليوسفي، رغم أن الأخير كان الرابح في الاقتراع... فهل كان عباس الفاسي آنذاك يعي دوره في إقصاء اليوسفي وتعطيل اتباع المنهجية الديمقراطية إلى ما بعد انتخابات 2002؟ انقسم الاتحاديون بين متحمس للمشاركة مرة أخرى في حكومة الفاسي، بدعوى أن زمن المعارضة ولى مع حكومة التناوب، وبين من ينادي بالعودة إلى المعارضة لبناء الذات وتصحيح الاختلالات. وبدا أن الأغلبية كانت مع مقاطعة حكومة لم تفرزها صناديق الاقتراع الحقيقية، ولكنها حكومة أضعف نسبة مشاركة، في الوقت الذي كان فيه الكاتب الأول محمد اليازغي من أشد المتحمسين والمدافعين عن المشاركة، وكانت مشاركة الحزب باهتة، وتبين أن اليازغي كان ضعيفا إبان المفاوضات، ضعف فضحه حرصه على منصبه هو أولا ولو وزير بدون حقيبة، وثانيا قبوله حقائب لا تعكس وزن الحزب كما وكيفما، وثالثا اقتراحه لأسماء من العيار الخفيف.. ولا أحد استطاع استيعاب ما يحدث في الاتحاد الاشتراكي. إن الثمن الذي سيؤديه محمد اليازغي، كان منصبه كاتبا أول للاتحاد حينما أجمع المكتب السياسي على تجميد عضويته، فيما يشبه الإقالة التي عجلت بعقد المؤتمر الوطني الثامن الذي احتاج معه الاتحاديون إلى شوطين لانتخاب كاتب أول بديل هو الراضي، الذي ملأ الفراغ أكثر مما حمل معه مشروعا سياسيا يعيد بناء الاتحاد من جديد. ودخل الاتحاد الاشتراكي تجربة أول استحقاقات بعد الدستور الجديد بالأدوات القديمة نفسها التي دخل بها معاركه السابقة، ولم يكن يملك ما يقدمه للناخبين من حصيلة، فقد كان مجرد رقم غير وازن في حكومة عباس الفاسي، وكانت نتائج استحقاقات 2011 تأكيدا للتراجع الذي بدأ يعرفه الحزب مع انتخابات 2007 التشريعية وانتخابات 2009 المحلية... وما وقع في 4 شتنبر 20015 هو من باب تحصيل حاصل. القمع المجتمعي إذا كان الحزب أداة تعبيرية عن الإرادة السياسية لمناضليه، وبالتالي أداة تعبيرية عن إرادة الشعب في المجال السياسي، فقد أكدت محطة 4 شتنبر وما تلاها، أن هذا لا يمكن تحقيقه في بلادنا باعتبار أن مجتمعنا تلجمه الأمراض المرتبطة بالجهل والفقر، من هنا فإن الممارسة الديموقراطية عندنا مغيبة في كثير من جوانبها، وفي هذا الإطار نستحضر معاناتنا مع شراء أصوات الناخبين الكبار فضلا عن الصغار، مما يحول دون ولوج النخبة إلى المؤسسات التمثيلية، والنتيجة انتصار التذمر واليأس وابتعاد النخبة عن ممارسة العمل الحزبي. لقد وجد الاتحاد الاشتراكي نفسه بعد الاستقلال ضحية قمع سلطوي من طرف الدولة، وخلال أربعين سنة وزيادة عملت الحكومات المتعاقبة على إفقار المجتمع فسلبت الإنسان المغربي كرامته ونزعت منه أي تطلع نحو المستقبل وجعلته رهينا للحياة البئيسة، مما جعل حزب الاتحاد الاشتراكي خصوصا، والأحزاب الديموقراطية عموما، يواجه نوعا آخرا من القمع هو القمع المجتمعي، إذ أصبح من الصعب أن نقنع قوى المجتمع بخطاب عقلاني ديموقراطي حداثي في الوقت الذي نجد فيه من السهل على تيار يدعو إلى الأصولية استقطاب أكبر عدد بسهولة. ولقد أثبتت الاستحقاقات الأخيرة أن الفئات الفقيرة والمهمشة لا تملك ثقافة انتخابية سليمة. إن الديموقراطية ليست مطلبا ملحا بالنسبة لهذه الفئات التي لاتزال تتخبط في مشاكل أخرى، ومنشغلة أساسا بما له علاقة بالجوانب الاجتماعية وتوفير المستلزمات الأولية للعيش، مما يجعل هذه الفئات تسقط فريسة لسماسرة الانتخابات الذين يشترون أصوات الناخبين بأبخس الأثمان ويبيعونها بالجملة لمن يدفع أكثر. إن الذي يتحكم في حياتنا السياسية هو المال والشبكات العلائقية، علاقات المصلحة والزبونية.. من هنا تغيب البرامج، تغيب الأفكار والكفاءات ويهمش المناضل والمثقف فتحضر السمسرة والرداءة.