أفترض أنه كان على رئيس الجمهورية الفرنسية، السيد إمانويل ماكرون، عدم «البوح» بما تقوله بالواضح وبالبرهان كتابات المتابعين لأوضاع الجزائر حول التملك العسكري للنظام السياسي الجزائري، في جزئيات ممارساته كما في كلياتها… أما عن انشداد الرئيس الجزائري لشرنقة التحكم العسكري، فذلك ما سارت به أحاديث العامة والخاصة وحتى تندرت به. عدا عن أن الرئيس، نفسه منضبط له ومبتهج به… إذ يكفيه من الغنيمة أنه رئيس، حتى ولو بدون مفعول رئاسي، بينما العديد من زملائه، حين كان وزيرا، هم الآن سجناء الغضب العسكري، سواء في السجن الفعلي أو منحشرون في النسيان. كما أرى «إفصاح» الرئيس ماكرون عن الحقيقة التاريخية، المثبتة في كل مصنفات التاريخ، والمتصلة بالمنشأ الفرنسي للدولة الجزائرية… ذلك الإفصاح لم يكن ضروريا… مرة واحدة أطلق الرئيس الفرنسي قذيفتين، أولاها سياسية حول أعطاب واختلالات النظام السياسي، والثانية تاريخية تبقر «النخوة» الجزائرية وتعيد الذاكرة الجزائرية إلى الحقائق التاريخية العارية من توابل التجميل. فحتما ستكون له مردودية ومكاسب انتخابية له. ولكن أتصور أن أخطر ما في تلك تصريحات، هي قابلية قرائتها بأنها إعلان عن سحب المظلة الفرنسية عن النظام الجزائري… تلك المظلة التي كانت لها في التدافعات والفاعلات الاستراتيجية، اعتبارها في المنطقة المتوسطية وفي شمال إفريقيا… حتى والجزائر فاقدة لجاذبيتها كهدف استراتيجي، في المنطقة، لا عسكريا ولا اقتصاديا، لا رئيسيا ولا رديفا. همني، أكثر، رد القيادة الجزائرية على تصريحات الرئيس ماكرون، حين «رفضت انحشار فرنسا في الشأن الداخلي الجزائري». إنه موقف قوي، وأنا معه. التدخل في الشؤون الداخلية للدول أمر مرفوض وتحرمه الأوفاق والاتفاقات والمواثيق الدولية. والجزائر محقة برفضها التدخل في شؤونها الداخلية. أتصور أن القيادة الجزائرية، وهي الحريصة على رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للجزائر، ستوافق، بل وينبغي أن تبارك أو أقلا أن تتفهم مطالبتها بالتوقف عن التدخل في الشأن الداخلي للمغرب. لو لم تنحشر الجزائر في الشأن الداخلي المغربي لما طال النزاع حول الصحراء المغربية لما يقارب خمسة عقود… في بداية سبعينيات القرن الماضي، انحشرت في الشأن الداخلي المغربي، آملة تحقيق حلمها بعزل المغرب قاريا وتوفير دويلة في جنوبه، توجهها، تؤمن لها العبور إلى المحيط الأطلسي. الشباب الصحراويين المؤسسين للبولساريو، مغاربة، أبناء قبائل وعائلات صحراوية مغربية. شباب عرفوا بحماسهم الوطني لتحرير المناطق الصحراوية من الاحتلال الاسباني… واسترجاعها للوحدة الوطنية المغربية. بل وأشاعوا حماسهم الوطني في الأواسط الحزبية المغربية، عبر انتماء بعضهم لفصائل يسارية أو عبر اتصالات رسمية مع قيادات حزبية وطنية. والشباب المغاربة الصحراويين… «يعبرون» الصحراء في تلك السبعينات وليس في محمولاتهم غير حماسهم الوطني، لمواصلة كفاح آبائهم في «جيش التحرير» من اجل التحام الأقاليم الصحراوية بأصلها وفضائها المغربي، الجغرافي والسياسي… وهم يعبرون… ألقت قيادة الجزائر، يومها برئاسة هواري بومدين، شباك اقتحامها للشأن الداخلي المغربي، لتحول مسارهم نحو المسعى الانفصالي الذي وإلى اليوم يتغذى ويتحرك بالتدخل الجزائري الفضولي، المتعسف والمغرض، في الشأن الداخلي المغربي… لفائدة منافع جزائرية، متوهمة أو متمناة وليس فيها أدنى مراعاة لمصالح المغاربة الصحراويين، سواء أكثرهم في الأقاليم الصحراوية المغربية أو قليلهم «المقيمين» في مخيمات تندوف… المبادرة الملكية باقتراح «الحكم الذاتي» في الأقاليم الصحراوية موضوع النزاع، نابعة من حس سياسي نبيل وواقعي في الآن نفسه، يروم فتح مخرج مشرف للجزائر من «تورطها» في الشأن الداخلي المغربي الصحراوي، وإطلاق مسار تجاوز مخلفات وجروح أزيد من أربعة عقود من حركية انفصالية ضد مغربية الصحراء… تلك المبادرة، تعرقل تفعليها القيادة الجزائرية… لأنها ستبطل كل ذرائعها للاستمرار في «التدخل في الشأن الداخلي المغربي»… ولأن بنية النظام الجزائري وآلياته وشخصياته، كل ذلك مصمم وموجه وعقيدته الأساس هي التدخل في «الشأن الداخلي» المغربي. الخلية المركزية، غير الرسمية، العسكرية، الموجهة للسياسة الجزائرية مكونة أساسا من جنرالات كل «مجدهم» أنهم متمرسون في العداء للمغرب…… «الكفاءة»، الأساس لأعضاء تلك الخلية، هي تمرسهم في معاداة المغرب واعتبار شأنه الداخلي مشغلة أولى لهم. والقيادة الجزائرية، عامة الظاهر منها والمستتر، ذاهلة عن الاهتمام بالشأن الداخلي الجزائري… والمحصلة هو الخصاص الفظيع لدولة بترولية في تأمين الضرورات اليومية للحياة للشعب الجزائري… إنها منشغلة بشؤون داخلية لبلدان تجاورها، مباشرة أو عن بعد… فعدا عن عدائها البنوي والدائم للمغرب… فهي متوجسة من صلاتها، السياسية والجغرافية، مع ليبيا… وهي متوترة في تعاطيها مع تونس، حدودا وسياسة… وهي على تماس في حدودها الجنوبية مع لفيف من الحركات الانفصالية، الإرهابية والإجرامية، منفلة عن التحكم، وذات أهواء ومرامي متباينة… وإن لم تجد ما تقتات به… ستقتات بالجزائر نفسها. في تقريره أمام مجلس الأمن سيعود الأمين العام للأمم المتحدة إلى تأكيد القرارات الأممية الأخيرة التي سجلت أن الجزائر طرف في النزاع… ودعاها إلى تحمل مسؤولياتها كطرف في المسلسل السياسي للحل السلمي الذي تشرف عليه الأممالمتحدة… ذلك التدخل في الشأن المغربي عبر تبني الحركة الانفصالية لم يعد بإمكان الجزائر التنصل منه… هي اليوم طرف رسمته الأممالمتحدة… وستكون ملزمة بالمساهمة في إيجاد حل سلمي عادل، دائم ومتوافق عليه للنزاع حول الصحراء المغربية. الصورة التي قدمها الأمين العام للأمم المتحدة السيد غونيريس، أمام مجلس الأمن، التنمية في الأقاليم الجنوبية، الصحراوية المغربية، هي ثمرة انشغال المغرب بشأنه الداخلي… وانصرافه إلى التنمية، في كل المغرب وضمنه الأقاليم الصحراوية: التنمية تلك التي تبقى على الأرض…. أما الزبد، أي مالا ينتجه التاريخ… فيذهب جفاءا… اللهم لا شماتة… هم حريصون على مصالحهم ومنشغلون بالعداء ضد المغرب… مورد رزقهم، والقيادة المفروض أن تنشغل بتنمية كل الجزائر. مدنا وقرى، منصرفة، للاهتمام بالشأن الداخلي المغربي… وهي تراه يتطور… وهي تراه يتحكم في توجيه مستقبله… بصنعه… يغيضها ذلك ويزيد من حنقها… ولا يزعجها ما تقترفه في حق الجزائر… لقد أهملت شأنها الداخلي تلك القيادة، إلى درجة استباحة التدخل فيه من جهة، كل معني أو مهتم أو مجرد مشفق على حالها.