لم تكن تلك التي قرأت فنجان عبد الحليم حافظ، ولم تكن قارئة غيب بل كانت فناجينها من ماء وماء ورد، توزعه على بعض المارين ببابها. كل صباح تستيقظ باكرا وتقف مبتسمة تنظر في عيون المارة. لم تكن فناجينها المعطرة متاحة للكل بل كانت تنتقي ضيوفها. الفنجان لم يكن صدقة او هبة بل كان فقط عربون ود ومحبة. أصبح لها من الرواد الكثيرون الذين أدمنوا ماءها وأصبحت لفناجينها حكايات وحكايات. هل السر في الماء؟ في العطر؟ في سكونها؟ أم في سحر نظرتها الهادئة .. سمعت بها ويا ليتني ما سمعت. كيف لي أنا الكافرة بالعرافات و المسكونة بالسؤال بحثا عن يقين ضل سبيله كلما أصابه الذهول. كيف لي أن أعدم الشك بشك آخر اختُزِل في فنجان ماء وعطر ورد . أغلقت باب الحيرة وسلكت دروبا لا أدرك لها مصيرا. مررت ببابها وبقلبي لهفة لقاء وسؤال. هل ستغريها هذه المرأة النافرة أم ستشيح بوجهها عني ؟ هل سيليق بي ماء الورد والفنجان ؟ والصبح ، هل سيترك عبوسه وأنا بحضرة عرافة الورد ؟ مدت يديها وعينيها تنظر خلفي تشير إليّ بالاقتراب. ذهلت فالنظرة لم تكن لي أما الإشارة فصوبي. التفت أبحث عن جواب لتساؤلي فجاء همسها خفيفا لطيفا انتِ يا من عبرت إلي قادمة من هناك . من أي هناك أنا قادمة لقد طُفت حولي كلي ولم أجد إلا اللاهناك يتقاذفني فراغها ويرددني صداها. هل كنت أنا أم ظلي؟. هل العرافات يخاطبن أطيافنا ؟هل يكفرن بأجسادنا المتشكلة ؟ أم نحن لا نرى منا إلا تلك الكومة التي تتحمل آلامنا وانزعاجنا وتفاهاتنا ومرات كثيرة تتحمل مسخنا .. اقتربتُ واقتربتْ.. ارتعشت يداي ارتعشت يداها ..همستْ همستُ .امتلأ المكان ،لم يعد مجرد زقاق ضيق بحي شعبي يرتاده مارون يبحثون عن أوهام معطَّرة تُصبُّ في فنجان ورد . تمنيت لو كان بالفنجان مرارة قهوة تخلع عن أحلامي ورديتها وتلوث زرقة سمائها . لم تعد الزرقة تغريني أنا الغارقة فيّ وفي أشيائي الصغيرة الدقيقة وأمكنتي الضيقة . لم أعد أدري أي لون ساقني إليها وأي ضياء أنشد شروقه بزاويتي المنغلقة جدا .. أخذت يدي بين كفيها الدافئتين وبقلبي سؤال، أي رؤيا لاحت لها هل كانت باردة ببرودة يدي أم كانت بردا وسلاما … أعادت الهمس «يا ولدي …» ولد ! أأبدو ذكرا بعينيها وأنا الأنثى التي أغوته بقضم تفاحة ملعونة ونزلنا معا إليها. نظرت إلى الفنجان ثم إلى قارئته كانت تخاطب الفراغ بداخله لم أكن هناك وكلامها لم يكن لي. بحثت في قاع الفنجان عن قرينها أو قريني ..لم أجد إلا الفراغ الذي صاحبني. لم تهتم بحيرتي أو برعشتي بل أكملت حديثها «يا ولدي لن تموت شهيدا . ..» يااه لماذا تنْحل المعنى والمعنى بقلب الكلمة أسير . هل اختلطت الصورة بالروح وأصبحنا شخصا واحدا في قلب الرؤيا؟ لماذا تفضحنا الفناجين. هل من أدمن العشق لن يموت إلا شهيدا . تذكرت أن بالقلب قلبا آخر وأن بالفكر فكرا آخر وأننا تعاهدنا على التحام أزلي أو أن الوقت مجرد عبث والحقيقة لا ندركها إلا نحن الاثنان . وما لاح بالفنجان لم نكن إلا نحن « الواحد» من منا سيموت شهيدا ومن منا سيظل على أثر الذكرى وتذكرت أن الولد أنت والشهادة لن تكون إلا لي أنا تلك الانثى التي أضاعت أحلامها حين نفختَ بكفيها فرحا يخشى كل صبح قادم بسر ملغوم . يا ترى أي سر بقعر الفنجان وأي مجهول ينتظرني هناك .