قبل 23 سنة، في ال 14 من مارس 1998، استقبل الراحل الحسن الثاني ( 1929- 1999) بالقصر الملكي بالرباط الحكومة رقم 25 برئاسة عبد الرحمان اليوسفي ( 1924- 2020 )، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي كان قد عين في الرابع من فبراير من السنة ذاتها وزيرا أول، مما دشن « التناوب التوافقي»، المصطلح الذي تواضعت على تسميته الأدبيات السياسية والإعلامية المغربية. وآنذاك وصف تعيين هذه الحكومة، التي كانت تضم ثلاثة أحزاب من المعارضة، و»وزراء سيادة»، ب» الحدث التاريخي» الذي وضع حدا لقطيعة مع قوى المعارضة الرئيسية دامت لعقود، خاصة منذ أول حكومة برئاسة عبد الله إبراهيم ( 1918-2005)، من القادة الذين كانوا يوصفون ب «يساريي الهوى» في السنوات الأولى للاستقلال. كما كان اتفاق الفاعلين السياسيين على أن يشكل تأسيس حكومة للتناوب مرحلة لتدشين إصلاحات عميقة بإمكانها أن تنقل البلاد من مرحلة إلى مرحلة أخرى تؤهلها لتحقيق انتقال ديمقراطي بناء على خريطة سياسية حقيقية، وواضحة المعالم، تفرزها صناديق اقتراع انتخابات نزيهة. بمناسبة ذكرى (20 غشت) 1995 كان الراحل الحسن الثاني، أعلن العزم على مراجعة الدستور الذي جرى سنة 1996 في أفق إحداث برلمان بغرفتين، وهي خطوة فسرت آنذاك بأنها « آلية للتحكم في المشهد السياسي»، تهدف إلى « تقزيم دور الكتلة الديمقراطية في حالة فوزها بأغلبية في مجلس النواب، لكن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، احتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية في رابع فبراير 1998، بدون أن تحصل « الكتلة الديمقراطية» المعارضة على الأغلبية، لكنها قبلت غالبيتها المشاركة في حكومة تضم سبعة أحزاب وعدد من» وزراء سيادة» وبدعم من حزبين ممثلين في البرلمان. ووصف تشكيل هذه الحكومة رقم 25 في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، بأنه «مؤشر على تقارب مكونات الحقل السياسي، وصفقة تفاهم سياسي، مبني على الثقة، أكثر منه تعاقد مسطر، كلف تحضيره أزيد من سبع سنوات، وأكثر من 2000 يوم عمل من التفكير والتخطيط والمفاوضات السرية والترتيبات المعقدة، وأيضا من التنازلات المتبادلة» كما جاء في كتاب « التناوب المجهض» للإعلامي محمد الطائع. كما أن هذه الحكومة كانت نتيجة جهود سياسية مشتركة، واعتبارا لأن بناء الديمقراطية كتعبيد الطريق، إذ أنك حين تفتح طريقا، ستتيح التواصل بين الناس، وكذلك الأمر حين توجد مؤسسات ديمقراطية مسلم بها، فإنها تكون أداة حوار وتبادل بل تضامن، حسب ما ذهب إليه في مؤلف « صباح الخير.. للديمقراطية، للغد» محمد العربي المساري ( 1936- 2015 ) وزير الاتصال في النسخة الأولى لحكومة التناوب. فعدم حصول «الكتلة الديمقراطية « في الانتخابات على الأغلبية التي ليست في الواقع « لعبة تجميع رقمي»، بل هي عملية يجب أن تسمح بانبثاق أساس مشترك، يتمثل في وحدة البرنامج وانسجام التركيبة والرؤية الإجمالية للأشياء، حسب ما يراه البعض، لكن يطرح بالمقابل تساؤل حول كيف تكون إحدى أسبقيات برنامج التناوب، هو التخليق مع وجود أطراف مشاركة في الحكومة تتهمها الأحزاب الديمقراطية، بالتهرب الضريبي والغش الانتخابي والفساد الإداري، كما كتب محمد الساسي في مؤلف « دفاتر سياسية». ومع ذلك فإن حكومة التناوب، كانت تدرك أنها مقبلة على» معركة نضالية كبرى»، وأن إرادتها في التغيير ستصطدم بقوى الجمود والتخلف التي هي دوما نفس القوى التي تشد إلى الوراء وتحن إلى الماضي، خاصة، كلما كان هنالك اندفاع نحو التجديد والتقدم. فهذه القوى – يوضح محمد اليازغي الكاتب الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي في حديث نشرته جريدة «العلم» في مارس 1998- ليست أشباحا أو كائنات غيبية، وإنما هي تلك الفئات التي استفادت من الأوضاع السابقة، وتتحصن الآن في العديد من الأجهزة الإدارية والقلاع المالية والاقتصادية. بيد أن هناك من ينحو إلى القول بأن ما ترتب عن واقع مشاركة أحزاب «الكتلة الديمقراطية» في حكومة التناوب، وبفعل ما أحدثه ذلك من رجة في المشهد السياسي المغربي، من نتائج عديدة، ساهم في تطوير نظرة الفاعلين لمشروع الإصلاح وبرنامجه، حسب الأستاذ كمال عبد اللطيف في كتابه « الإصلاح السياسي في المغرب، التحديث الممكن، التحديث الصعب «، إذ ليس المرء هنا بصدد تناوب طبيعي على الحكم، وإنما إزاء جملة من الشروط الاستثنائية لممارسة الحكم، بشروط لم يسبق لها أن توفرت في الحياة السياسية من قبل، تتولى فيه حكومة مهمة سياسية مزدوجة هي إنقاذ البلاد من مخاطر السكتة القلبية، وتدشين مسار الانتقال الديمقراطي، ضمن شروط انتقالية صعبة. إلا أن التجربة السياسية المغربية، تفرز عناصر تغيير أكيدة، هي بطيئة ولاشك، والتفاوض حولها صعب وقاس أحيانا، لكن النظام السياسي بكل مكوناته، تمكن من التكيف مع ضغوط الزمن، والانصات إلى الاختلافات، وإلى مصادر الاعتراض، بل واضطر أغلب الفاعلين في الحقل السياسي إلى تغليب الرؤية السياسية على القناعات الأيديولوجية، كما جاء في محاضرة لصاحب المؤلف الشهير « أمير المؤمنين .. الملكية والنخبة السياسية المغربية» للباحث الأمريكي جون واتربوري في ندوة بالرباط في ربيع 1997 بعنوان « تجارب الانتقال الديمقراطي بالعالم «. بيد أن مشروع التناوب الذى يحمل الكثير من خصوصيات المغرب السياسي بمختلف معاركه، وصراعات قواه الحية مع ما هو سائد، « لم يذهب بعيدا في عملية تأسيس القواعد المانعة لإمكانية التراجع عن الإصلاحات المحتملة ومكاسبها، الأمر الذي لا يمنع من أن يظل المجال السياسي المغربي فضاء لحصول ممكنات متناقضة»، كما يؤكد كمال عبد اللطيف في مؤلف « العدالة الانتقالية والتحولات السياسية « . غير أن هناك من يرى أن تعيين إدريس جطو وزيرا أول سنة 2002، «بمثابة المسمار الأخير في نعش الكتلة، والخروج عن المنهجية الديمقراطية في تعيين الوزير الأول، من الأغلبية البرلمانية «. وفي المقابل، لم تكن هناك بدائل سياسية، تستطيع أن تعيد للمجال السياسي التوازن الضروري فيه، وهو ما استغلته صحف فتية – خلال تلك المرحلة- وحولت الفعل الصحفي بعد سنة 1998، إلى فعل سياسي في حد ذاته، وأصبح التدخل الصحفي تارة يأخذ طابعا أكاديميا، ومرات أخرى يصبح الصحفي منظرا استراتيجيا أو منشطا ثقافيا، فمناضلا متعدد الأبعاد، ووسيطا في النزاعات ذات الطبيعة المختلفة، حسب عبد الله ساعف في كتاب «الإعلام ، السياسة والخطوط الحمراء». وفي كتاب « سيرة وطن ومسيرة حزب»، يعتبر محمد اليازغي، أحد وزراء حكومة التناوب»، بأن ما سيسجل لليوسفي خلال قيادته لحكومة التناوب «هو دوره المتميز في سفر المغرب نحو المستقبل، والدفع بالوطن إلى رحلة انتقال ديمقراطي، سيعرف مدا وجزرا، لكنه انتقال ديمقراطي، انطلق في مارس 1998، وهي فترة تؤسس لكل ما بعدها، وتمهد الطريق لكل ما سيعرفه المغرب، لما ستهب رياح الحرية والديمقراطية للربيع العربي، في حين اعترف عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي السابق، أن « التناوب لم يحدث» بعد مرور 23 سنة عن تأسيس حكومة اليوسفي، على الرغم من إقرار الراضي أول شخصية من حزب معارض ينتخب رئيسا لمجلس النواب في كتاب «المغرب الذي عشته.. سيرة حياة»، بأن « بناء الديمقراطية» يتطلب « أفعالا بنيوية عميقة واستراتيجية، لكنها تتأخر عن إظهار نتائجها..». فالقبول بقيادة تجربة التناوب هي مخاطرة أخذ فيها بالحسبان المصلحة الوطنية وليس المصلحة الحزبية، واليوم وقد انتهت هذه التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها، بمعنى التوجه نحو الديموقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام، .. فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام متطلب وطني، يلزمنا بالانتظار سنتين، على أمل أن نرى إمكانية تحقق الحلم في انتقال هادئ وسلس نحو الديموقراطية، كما جاء في محاضرة عبد الرحمان اليوسفي، عميد الاشتراكيين المغاربة التي ألقاها سنة 2003 في بروكسيل، أعلن فيها بالخصوص فشل المغرب في الانتقال من التناوب التوافقي إلى التناوب…