إن التعريف بالمدرسة اليهودية الفاسية حقيقة يحتاج إلى تأليف خاص يلقي الضوء على إسهامات وأدوار هذه المعلمة في تأطير وتطوير الفكر اليهودي في العصر الوسيط، وحسبنا هنا أن نقدم بعض الشذرات الموجزة عن هذا الصرح العلمي العتيق الذي لا يقل أهمية عن جامعة القرويين التي تعد من أقدم الجامعات العالمية على الإطلاق، فمدينة فاس شكلت عاصمة كبرى للثقافة العبرانية في عصرها الذهبي، فمنها «بدأت عملية إحياء اللغة بالموازنة، وساهم أحبارها في بناء الثقافة العبرانية في الأندلس بعد أن انتقلوا إليها، وكانت في النهاية وريثة التراث اليهودي السيفاردي»، بعد أن فتحت أحضانها لاستقبال اليهود المطرودين من الأندلس خلال نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. بدخول العرب إلى المغرب الأقصى لنشر الإسلام سيطبق على اليهود المحليين قانون أهل الذمة إسوة بباقي البلدان الإسلامية الأخرى، هذا الوضع لم يكون عائقا أمام اليهود المغاربة للانخراط، والاندماج في الحياة الاقتصادية، والسياسية، والفكرية، بل سيساهم في بروز أسماء لامعة في سماء الحضارة المغربية، ليعكس مدى التسامح، والتعايش بين المسلمين، واليهود الذين جمعهم رابط الوطن المشترك، ولقد ذكر حاييم الزعفراني في كتابه «يهود الأندلس والمغرب» نماذج من هذه الأعلام، أمثال: «سعدية كاؤون «، والربي إسحاق الفاسي صاحب الفتاوى، وأبراهام بن مردخاي أزولاي الفاسي المولد الذي استقر بالخليل في القرن السابع عشر من الميلاد، والذي اهتم بدراسة كتاب «الزهار»، وموسى بن ميمون الباز التطواني، وكتابه «هيخل هقودش» المطبوع بأمستردام سنة 1653م، وداود هلفي دفين تامكروت بجنوب المغرب، وكتابه «سفر هملخوت»(الكتاب الملوكي). هذا علما أن منطقة الغرب الإسلامي عموما أصبحت مركز إشعاع ونهضة فارعة عوض المشرق، موطن الثقافة اليهودية القديم ومركز الثقل فيها، فلقد أدى أسلوب المنافسة بين مدارس العراق ونظيرتها في القدس إلى أن فكر يهود المغرب في الاستقلال عن مدارس المشرق، وذلك بإيجاد بديل شرعي من المركز المحلية يجمع بين المغرب والأندلس، حيث أن الظروف المعيشية والحياتية متشابهة، وهو ما حدث عندما مات الجاؤون حاي HAY سنة 430ه/ 1038م، وتحولت القيادة الروحية من العراق إلى الأندلس. وقد كان ليهود الشمال الإفريقي والمغرب الأقصى على الخصوص دور بارز في الهجرة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية أولا، وفي نقل علوم الأكاديميات المشرقية والعراقية والفلسطينية ثانيا، ونقل تراثها المغربي الخالص ثالثا، وقد تربع نفر من يهود المغرب على كراسي الحبرانية والمشيخة في صدارة يهود الأندلس. ويورد محمد الحداوي شهادة أحد أقطاب التاريخ العربي الحديث بالقول:« أن العرب أنفسهم لم يحملوا إلى إسبانيا ثقافة عظيمة، وإن الفضل في الجلال العلمي والأدبي الذي اشتهرت به الجامعات الإسلامية خلال سلطان العرب في إسبانيا يرجع إلى جماعة من المغاربة واليهود، وإنه جاءت من اليهود طبقة مشهورة من الأطباء». فقد تمركز يهود المغرب في العهد الإدريسي بالعاصمة الفاسية التي حوت عددا كبيرا منهم، فأنشؤوا مدارسهم التربوية الخاصة وكنائسهم التعبدية وتمتعوا باستقلالية تامة في تدبير أمورهم الدينية والاقتصادية، وهكذا كانت فاس «كخلية للنحل يحج إليها اليهود من جميع أطراف المملكة، ومن كل الآفاق وخاصة عدوة الأندلس مما أضفى عليها طابعا أكاديميا وحاضرة ثقافية يهودية». ويميل الزعفراني انطلاقا من استقرائه لخزانة الوثائق اليهودية إلى الاعتقاد بأن أحبار المغرب كانوا أساتذة اليهودية الأندلسية، فمن المغرب الأقصى، انطلق في القرن العاشر، أوائل النحويين واللغويين والشعراء، وأصحاب المؤلفات الفقهية التشريعية الذين يعدون بحق مؤسسي المدرسة الأندلسية. وبعد تتبعنا لمسار التحولات التي شهدتها المدارس اليهودية بمختلف المدن المغربية يظهر أنها عرفت نشاطا كبيرا في القرون الأولى خاصة في عهد الأدارسة والمرابطين، وتخرج منها أجيال كثيرة، استطاع بعضها أن يصل إلى شهرة عالمية وهاجر بعضهم إلى بلاد الأندلس الزاهرة حينها، حيث علا كعبهم وغزر إنتاجهم، لكن الموقف السلبي التي تبناه اليهود من الموحدين واجتثاثهم للتراث اليهودي وتضييق الخناق عليهم وتدمير مدارسهم، كلها أسباب أدت إلى تراجع مهول في الإنتاج الفكري اليهودي في هذا العهد، وبقيت الأمور على هذا الوضع إلى غاية القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي حيث عرفت بلاد المغرب نهضة فكرية بعد هجرة يهود إسبانيا. إن وحدة الأندلس والمغرب الأقصى، طوال قرون عديدة، كونت ثقافة ومنهجا فكريا يتميزان عن ثقافة المشرق العربي، وربطت التقاليد العريقة بين ورثة فاس وأسلاف قرطبة العظام، وشكلت التوأمة الثقافية والتلاحم الاجتماعي خيطا رابطا بين فاس وقرطبة وسبتة ولوسيانة وتطوان وغرناطة وغيرها، وكلها تتساوى عطاء فكريا وتحضرا. ومن المعلوم المشهور أن علماء يهود أرض المغرب كانوا في الغالب هم الشيوخ العمدة الذين اعتمدهم يهود الأندلس، بينما نلفي غالبية الدارسين المشارقة والأجانب حينما يتحدثون أو يؤلفون كتبا عن تاريخ الأندلس، يغفلون سهوا أو يتغافلون قصدا الدور الطلائعي الذي أرساه يهود المغرب في الضفة الشمالية، هذا علما أن أوج ازهار الأندلس كان تحت إمرة حكام المرابطين والموحدين، هذا بالإضافة إلى أن المغرب الأقصى شكل دوما ممرا ثقافيا ومعبرا اجتماعيا بين المشرق والأندلس، وبين هذا الأخير والمشرق. ولا يسع الحيز هنا للتتبع أسماء وإسهامات هؤلاء المثقفين المغاربة، الذين يحتاج الإلمام بهم إلى تأليف خاص، وإن كنا سنقتصر على تقديم نماذج لا غير عن هؤلاء الزعماء. ومن بين أشهر خريجي المدرسة الفاسية دوناش بن لبراط ( 308ه- 380ه/ 920م-990م) الذي ولد بفاس وقضى بها شبابه، والراجح أنه من أصل بربري، لأن اسمه واسم والده من الأسماء البربرية، ذهب دوناش إلى العراق ودرس بها اللغة العربية على يد سعديا الفيومي، كما درس العلوم الدينية اليهودية، ثم عاد إلى فاس، ولكنه لم يمكث بها طويلا، إذ سرعان ما غادرها إلى قرطبة، التي فيها تفتقت موهبته وانجلت عبقريته فأنتج الكثير من الأعمال التي صنعت شهرته المحلية والعالمية متأثرا بالأدب العربي وفنونه. فلم يكن للشعر العبري اسما في سماء الشعر قبله، وألف كتابا أسماه « جذور القواعد»، ولم يغفل في شعره مجال الشعر الديني (البيوط)، فترك بعض القصائد التي تتعلق بالطقوس والشعائر الدينية، من كتبه «إجابات « ألفه هو الآخر بأسلوب شعري، ويشبه ألفية بن مالك، وهو أول من أدخل البحور العربية في الشعر العبري. كما ألف أيضا في النحو العبري ووسم كتابه ب» أصول النحو». ومن بين العلماء الوازنين اليهود أيضا الذين كان لهم إشعاع ثقافي في المغرب يهودا بن قريش، الذي اختلف الدارسون في تاريخ نشأته، ويفترض أنه عاش في أواخر القرن التاسع وأوائل العاشر، وكان من السباقين إلى علم اللغة المقارن، فطور النحو العبري مستفيدا من اطلاعه الواسع على اللغة العربية، فتوج في الأعراف العبرية بلقب « أبو النحو العبري». كما وضع إسحاق بن يعقوب الفاسي (1013-1103م) مؤلفا في التشريع اليهودي يعرف باسم هلاخوت، استخرج فيه معظم الأحكام الفقهية التلمودية وأصبح مؤلفه عبارة عن تلمود مختصر، وهو تحديث الشريعة اليهودية بما يتلاءم مع الحياة، ويشتمل كتابه هذا على عشرين مجلدا باللغة العربية. عاش الربي إسحاق جل حياته في المغرب، وبه علم وألف جل فتاويه، وفيه كتب عمله الضخم «تلمود قطن»، تقلد رئاسة الدراسات التلمودية في مدرسة القيروان، ثم ما لبت أن تركها عائدا إلى فاس. وعندما بلغ من الكبر عتيا وصل إلى 75 سنىة نزل إلى الأندلس، وأصبح رئيسا لأشهر مدرسة تلمودية هناك في لوسينا، حيث كتب خلاصة وافية للتلمود، درست اعماله في كل أنحاء الأندلس وفي البروفانس ووسط أروربا وبولندا وما زالت تدرس في المدارس الربانية في انحاء العالم. كما ترك الفاسي المائات من رسائل الرسبونسة، وهي تضم حوالي 500 سؤال كتب باللغة العربية وجمعت في كتابه أجوبة التوابع، وطريقته في استنباط الأحكام شبيهة باستنباط علماء المسلمين أحكامهم من القرآن والسنة. وينضاف إلى هؤلاء العلماء الأجلاء كبيرهم وزعيمهم الذي تناثرت شهرته في كل الآفاق وفاض علمه بجواهر الكتب وبدائع الأفكار، كما كان له الفضل في تهذيب الديانة اليهودية وتفسير مغلقها وشرح مبهمها، ألا وهو موسى بن ميمون، الذي ولد بقرطبة سنة 1138م في عائلة يهودية ربية، وعاش ما بين المغرب والأندلس، وكان تلميذا لإسحاق بن يعقوب الفاسي، من أشهر كتبه الدينية « مشناة توراة»، واستغرق في تأليفه حوالي عشر سنوات(1170م- 1180م)، إذ قام فيه بن ميمون بتهذيب التلمود، وأضاف إليه قوانين وأحكام جديدة، وألفه باللغة العبرية. وبلغت شهرة موسى بن ميمون الآفاق حتى قيل في حقه:»من موسى (النبي) إلى موسى (ابن ميمون) لم يخلق مثل موسى». ويطالعنا كتاب يحاس فاس بخبر قدوم موسى بن ميمون (ت 600ه/ 1204م) إلى فاس ونزوله في الجزء الغربي من المدينة بالطالعة الكبيرة، وتحديدا بدار المگانة الكائنة قبالة المدرسة البوعنانية، ومن المعلوم أن لهذه الدار مكانتها الخاصة في قلوب اليهود المغاربة، إذ تحولت مع مرور الوقت إلى مزار يحجون إليه تيمنا بنواقيس من نحاس متصلة بالساعة المائية التي يُنسب فضل صناعتها بل وتأمين اشتغالها إلى ابن ميمون. وفي تاريخ قدومه سنة 1160 م كان ابن ميمون لا زال شابا، أقبل على تعلم العلوم التلمودية من القائد الروحي للجالية الفاسية الربي يحيى ياكوهين بن سوسن، كما تلقى دروسه الفلسفية والطبية وعلم الفلك من العلماء المسلمين، وانطلاقا من هذا التكوين يذهب عزيز الحبابي إلى اعتباره من الفلاسفة الإسلاميين، لأنه تاريخيا ومنهجا منهم وإليهم، ولفلسفته نفس الخصائص، والاتجاهات واحدة في خطوطها العامة.ويشير بنهاس كوهين أن علم اللاهوت والفلسفة اليهودية وصلت إلى ذروتها في عهده، وأنه كذلك لم يستطع أي واحد من العلماء اليهود المغاربة أن يتقن ويبدع في اللغة العربية الكلاسيكية مثلما أبدع ابن ميمون. استقر في نهاية المطاف في القاهرة، حيث أصبح الطبيب الشخصي للسلطان وعائلته، كما شغل منصب رئيس الجالية اليهودية في القاهرة وتوفي بها سنة 1204. ونضيف جوهرة مضيئة أخرى من جواهر الكتاب اليهود المحدثين، وهو موسى بن إسحاق الدرعي الذي ازداد بآكادير مطلع سنة 1774، واضطر مع سكانها إلى تركها بعد تهجير السلطان محمد بن عبدالله العلوي ليهود آكادير تجاه مدينته الاطلنتية الجديدة«الصويرة» ليصرف إليها تجارة جنوب المغرب، حيث نشأ موسى وتعلم بمدارسها، ثم انتقل إلى الرباط وسلا، وفي سن اليفعان (16 سنة) انتقل من المغرب إلى لندن، وهناك التحق بمدارسها اليهودية وعاش متنقلا بين دول أوربا حتى علا كعبه وتفتقت معارفه وأثمرت أقلامه كتبا عدة منها « معَسي نشيم» (مغامرات نسائية) و « يد موشه» ( يد موسى)، ثم كتاب « معَس نسيم» ( صنع المعجزات). ومن نوابغ يهود فاس أيضا سلمون بن يهودا (ت 443ه/ 1051م) الذي رحل إلى المشرق طلبا للعلم، ولما تم له ذلك وصل إلى منصب رئيس جاؤونية القدس سنة 416ه، وظل في هذا المنصب حتى وفاته. ثم هناك أيضا العالم اليهودي الفذ صمويل بن حنفي الفاسي التي رحل منها إلى الشرق ودرس في مدارس العراق، إلى أن وصل إلى رئاسة مدرسة سورا. زد على ذلك العالم اليهودي اللغوي الأندلسي يهودا حيوج المعروف بأبي زكرياء يحيى بن داود الفاسي، وكان رأس النحاة اليهود في قرطبة، عاش في نهاية القرن الرابع الهجري/ الحادي عشر الميلادي، كتب باللغة العربية، وبدا تأثير النحو العربي على المصطلحات التي وضعها، وأشهر كتبه كتاب عن الحروف اللينة، والحروف الضعيفة والصامتة، وكتاب الأفعال ذوات المثلين، وكتاب التنقيط. ونضيف عالمين آخرين من أهل القرن الخامس عشر الميلادي بفاس، وهما الفيلسوف اليهودي المغربي جودا بن نسيم بن مالكا الذي كتب بالعربية شروحا على سفر الخلق، وهو نص يندرج بشكل عام في علم القبالا، كما نجد الفيلسوف والنحوي والشاعر سعديا بن دانون الذي ألف من فاس في نهاية هذا القرن مقدمة باللغة العربية الأدبية تحت عنوان «الضروري في اللغة العبرية». ونجد من الشخصيات المعاصرة أيضا أفرادا كان لهم إسهام كبير في هذه الحركية الثقافية مثل الحاخام شمعون حاييم عباديا الذي تولى القضاء في سن مبكرة واضطلع بدور فاعل في الحفاظ على تماسك الساكنة اليهودية بصفرو، وفي سنة 1961 عين رئيسا للمحكمة الحاخامية بفاس ثم بمراكش، وهاجر بعد ذلك إلى القدسالمحتلة، حيث أسندت له عدة مهام قضائية وتربوبة، ألف العديد من الكتب باللغة العبرية منها « طائفة صفرو» في ثلاثة أجزاء سنة 1975، و»تاريخ طائفة فاس وحاخاماتها» في جزئين، وكان يعتبر قيدوم حاخامات المغرب توفي بالقدس سنة 2010. وقد ترك هؤلاء العلماء اليهود الذين ينحدرون من أصول مغربية أثرا بالغا في مختلف المجالات المعرفية والدينية الأندلسية والمشرقية، بل على يهود العالم، حيث ما زالت نصوصهم خالدة في الثقافة الدينية على الخصوص في عصرنا الحديث، مثل «قصيدة العقيدة» ليهودا بن شموئل بن عباس المغربي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، إذ بسط فيها قصة إسحاق الذبيح حسب المعتقد اليهودي، وهي قصيدة أصبحت تتلى ضمن طقوس السفرديين في مناسبتي رأس السنة ويوم الغفران، كما تنشد بتلهف لحظة فتح الهيكل (الركن الذي توضع فيه لفائف التوراة) في كل بيع الشرق والغرب. ثم كتاب التلمود «الأصغر» للعالم اليهودي المغربي الربي اسحاق بن يعقوب الفاسي الذي عاش في القرن التاسع ويعتبر أكبر تلموديي هذا العصر، وقد لقي كتابه استحسانا كبيرا من لدن ابن ميمون ويذكر سلوش أن هذا الكتاب ظل قويا في الأوساط اليهودية العالمية إلى حدود القرن العشرين. كما حظيت فاس باهتمام بالغ من يهود الشرق وخاصة من العراق، كما كانت قبلة اليهود في المغرب الأقصى والأندلس، وخرج من أبنائها علماء يهود إلى الأندلس والمشرق، كالرابي سلمون بن يهودا الذي عين سنة 416ه/ 1052 م رئيسا لأكاديمية القدس، واستمر في منصبه 25 عاما، وهو من أبناء مدينة فاس. * باحث في التراث اليهودي المغربي