أن يقف المرء أمام العوالم والأكوان الحالمة التي يبدعها الفنان التشكيلي الكبير عبد الكريم الغطاس، فذلك يكون بمثابة الوقوف عند عتبات الدهشة المفتوحة على هذا السحر الشفاف الذي تشكله الألوان وتخلقه الأشكال، لدرجة تجعل المرء يشعر وكأنه أمام سفر تكوين أكوان جديدة، تطلع ناصعة من غيوم سديمها الأول، أو تشعل حرائق تُلهب الرغبات والأخيلة، عوالم وأكوان تكاد تنطق بالملاحم والأساطير، بل إن الرائي نفسه يكون قاب قوسين أو أدنى، من رؤية الملائكة وهي ترفرف بأجنحتها الطفولية من خَلَلِ هذه الغيوم، ذلك أن الغيوم التي تؤثث فضاء وسماوات لوحات الغطاس، هي غيوم أشبه ما تكون من حيث الجمالية والإبداعية من تلك التي تؤثث سقوف وجدران الكنائس التي أبدعها فنانو عصر النهضة وتابعو تابعيهم بعد ذلك، إنها غيوم تتراكم من طبقات لونية يُكوَّم بعضها فوق بعض، قد تشبه الغيم أو أكوام الصوف أو الأدخنة، أو جُحَمَ النيران الملتهبة المتكَوِّم بعضها فوق بعض، لكنها غيوم، رغم تلبدها وتكومها، وتراكبها وتراكمها، لا يراها الرائي إلاّ وهي في كامل صفائها وبهائها، مهما كان اللون أو الألوان التي تلونت بها، إذ كل الألوان مباحة ومتاحة، وصالحة وسانحة عند الفنان الغطاس الذي وصفه عن حق الناقد التشكيلي المبدع إبراهيم الحَيْسن بأنه »ملون كبير »un grand coloriste«. والحقيقة أن للفنان الغطاس تلاوين مبهرة تجعل من خلفيات لوحاته عملاً قائم الذات لوحده، حتى وإن عزلناه عن كل الأشكال، وهو عمل يكاد لا يُضاهي في كل الفن الحديث على الإطلاق. ثمة ميزة أخرى يتمتع بها الفنان الغطاس وهي قدرته الفائقة على تسكين لوحاته حتى تبدو وكأنها نائمة في وداعة، أو زوبعة اللوحات عبر تفجير اللون وإلهابه والتدرج في خفته أو تكتله أو تحريك هذه اللوحات عبر الإيقاعات التي تخلقها تلك الحركات المائلة الخاطفة والسريعة التي تشطر اللوحة وتمنحها توازناً وإيقاعاً وتناغماً يكاد يكون شبقياً، على اعتبار أن كل حركة مائلة هي حركة جنسية، كما يقول الخطيبي. ولأن الهندسة منذ أو قليدس وإلى اليوم ما لبثَتْ تُعلمنا أن الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية على الإطلاق، فإن لوحات الفنان الغطاس تأبى أن تكتمل دون وجود دائرة أو أكثر داخلها قد تكون شمساً أو قمراً، أماً أو أباً أو هما معاً، - مثل حلم الطفل في فيلم علي زاوا - أو مجرد شكل يزين التطريزات والزخارف. وعلى ذكر الزخرف، فإن اللوحات التي يوظف فيها الفنان الغطاس مثل هذه الزخارف، تأتي غاية في الجمالية، نظراً لدقة ولرقة التزويقات والتطريزات والأشكال التي تؤطرها والإيقاعات التي تصاحبها، مما يجعل منها سمفونية لونية وموسيقية متكاملة وأحياناً يذهب الفنان عبد الكريم الغطاس إلى خيوط »الخيش« وينسل أطرافها أو أواسطها، ويلصقها في أماكن معينة من اللوحة بدل الزخارف الرقيقة والدقيقة. إن أعمال الفنان الكبير عبد الكريم الغطاس، تكشف بحق أن القابع خلفها والمنكب على إبداعها، هو »مهَّارة« وقدرة وكفاءة وفعالية إبداعية، حين تقف في محراب الإبداع وتعكف على فنها، فإنها تخلص لها حياتها ودنياها، وتزهد فيما عداه، فكفاها بهذا الفن شرفاً وألقاً ومفخرة. ملحوظة: كتبت هذه الكلمة بمناسبة معرض الفنان الغطاس القائم حاليا وإلى غاية 15 مارس الجاري ب »بوبلز كاليري - أكدال بالرباط«