يوميات قرية أسطورية فى غلالة الواقعية السحرية ! منذ رحيل صاحب رواية «مئة عام من العزلة» الكاتب الكولومبي الشّهير غابرييل غارسيا ماركيز بتاريخ 17ابريل من عام 2014 نشرت العديد من الكتب والمقالات والدّراسات التي لا حصر ولا عدّ لها حول هذا الرّوائي المثير دائماً للجدل قيد حياته، سواء في معايشاته الخاصّة، أو في رواياته أو تصريحاته أو مع أصدقائه، وخلاّنه وكبريائه وخيلائه، وعناده والمشاكل الصحيّة التي كانت تنتابه قبيل وفاته . مرت على رحيل ماركيز ستّ سنوات عن عالمنا ولم تتوقف الأوساط الثقافية، ودور النشر في إسبانيا، وفي بلده كولومبيا، وفي مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدةالأمريكية، ومختلف بلدان العالم عن تنظيم لقاءات وتظاهرات وملتقيات ومناظرات حول أدبه، وإبداعاته ورواياته وكتبه، وإعادة طبع بعضها، كما لم يتوقف الحديث عن خطاباته التي جمعت قبيل رحيله في كتاب مستقلّ تحت عنوان «لم آت لألقي خطاباً» وكان آخر كتاب نشر عنه يحمل عنوان «غابو..صحافياً» وقبله بقليل كان قد صدر عنه كذلك كتاب آخر تحت عنوان «غابو رسائل وذكريات» من تأليف صديقه الحميم بيلينيو أبوليّو ميندوسا (انظر مقالي في «القدس العربي» حول هذا الكتاب العدد 7356 بتاريخ 12 فبراير 2013)، أمّا كتاب «غابو صحافياً» فقد كان قد صدر قبل وفاته في كلٍّ من كولومبياوالمكسيك في آنٍ واحد عن دار النشر «صندوق الثقافة الاقتصادية»، كما كانت قد صدرت طبعات أخرى من هذا الكتاب في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وإسبانيا بعد ذلك. وكان الكاتب والناقد الإسباني خوان كروث قد اعتبر هذا الكتاب عند صدوره كنزاً ثميناً لا نظير له في عالم الخلق، والإبداع الصّحافي والأدبي على حدّ سواء، ولقد تمّ توزيع أو إهداء الطبعات الأولى منه في حياة الكاتب بالمجّان، ثم بيع بأثمنة متفاوتة بعد مماته، فالأمر كان يتعلق بواضع أشهر روايةٍ كتبت في القرن العشرين، وهي «مئة عام من العزلة» التي بيع منها منذ صدورها أوّل مرّة عام 1967 ملايين النّسخ حتى اليوم.وحريٌّ بنا بهذه المناسبة، والحالة هذه أن نلقي نظرة متأنّية على هذه الرّواية التي حقّقت من الشّهرة، والذيوع، والانتشار ما لم تحقّقه أيّ روايةٍ أخرى من رواياته، أو روايات زملائه، وخلاّنه، وأصدقائه من الكتّاب الآخرين سواء في موطنه كولومبيا، أو في أيّ بلدٍ من بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى رواية ملأت الدّنيا وشغلت النّاس ماذا إذن في هذه الرّواية التي ملأت الدّنيا وشغلت الناس؟ وما هي أهمّيتها، وقيمتها بالنسبة لباقي أعمال ماركيز الإبداعية الأخرى؟ وماذا تخبّئ بين صفحاتها أو تخفي بين دفّتيها؟ وماهو سرّ أو سحر نجاحها، وشهرتها، وذيوعها وانتشارها، ونقلها إلى مختلف لغات الأرض؟ (ترجمت إلى 37 لغة بما فيها اللغة العربية) . الواقع أنّ رواية «مئة عام من العزلة» تعتبر من أشهر، وأبهر روايات «غابو» الذي توّج بها رحلته الطويلة في عالم الخلق، والعطاء، والإبداع بجائزة نوبل في الآداب عام 1982، لقد كتب ماركيز هذه الرّواية في المكسيك ونشرها في بوينوس أيريس ولم يكن يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين. وكان أوّل نقدٍ كتب حول هذه الرّواية بقلم الناقد المكسيكي إيمانويل كاربايو عام 1967 عندما قرأها وهي بعد مطبوعة على الآلة الرّاقنة، ولم تكن قد صدرت بعد، لقد ذهب هذا الناقد في ذلك الوقت إلى القول: «إنّه وجد نفسه أمام واحدةٍ من أعظم الرّوايات في القرن العشرين» ولم يخطئ . ولد غابرييل غارسيا ماركيز في أراكاتاكا وهي إحدى القرى الكولومبية الصغيرة المغمورة عام 1927، وخرج من قريته عام 1930، ومن كولومبيا عام1954 إلاّ أنّه ظلّ وفيّاً لقريته، وللذكريات التي عاشها هناك. وعندما بدأ يكتب قصصه، ورواياته قفزت شهرة هذه القرية إلى مختلف أنحاء العالم، ونطقها الملايين بفضل إبنها البار. ونظراً للحرارة المرتفعة المعروفة عن هذه القرية، فإنّنا نجد هذا الحدث ينعكس على معظم قصص ماركيز، وهو يرمز إلى هذه القرية في العمل الأدبي الإبداعي الكبير باسم «ماكوندو». العرب والعربيّة في مئة عام من العزلة يتعرّض ماركيز في هذه الرّواية، التي تنتمي إلى مدرسة الواقعية السّحرية التي ميّزت الأدب الأمريكي اللاتيني خلال الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، للمهاجرين العرب الأوائل (مسلمين ومسيحيين) الذين وصلوا إلى أراكاتاكا (ماكوندو) في الرّواية، وعن مهن التجارة التي كانوا يزاولونها، وعن البّاعة المتجوّلين، وبائعي الحليّ والمجوهرات، وهو يستعمل في تسميتهم مصطلح «الأتراك» وهو مصطلح غير دقيق (سمّوا كذلك فقط لأنّهم عند هجرتهم كانوا يحملون جوازات سفر مسلّمة لهم من طرف الدّولة العليّة العثمانية التركية) وتبدو في الرّواية بعض العادات والتقاليد العربية، ف «شارع الأتراك» سيصبح في الرّواية فضاءً سيعرف تغييرات، وتحوّلات واضحة سيكون لها تأثير على معظم سكان ماكوندو التي يقول عنها ماركيز أنّها: «سرعان ما تحوّلت من ضيعة صغيرة إلى قرية نشيطة ذات دكاكين وأوراش للصّناعات التقليدية، وإلى طريق تجاري دائم من حيث وصل العرب الأوائل» الذين تعاطوا التجارة والمقايضة وأحدثوا في القرية تنظيماً إجتماعياً أساسياً، وحياة ثقافية، وحملوا معهم «ألف ليلة وليلة» وقصصها العجيبة وخيالها المجنّح (قرأ ماركيز هذا الكتاب في السّابعة من عمره). إنّ وصول هؤلاء المهاجرين إلى القرية وانتشار مفهوم التجارة فيها قد يكون تلميحاً، أو رمزاً لوصول الاسبان إلى ما سمّي في ما بعد العالم الجديد، أو اسبانياالجديدة، أو أمريكا. تجدر الإشارة الى أنّني بعد قراءةٍ متأنيّة لهذا العمل الإبداعي الرائع- خلال وجودي في كولومبيا- ( سفيراً للمغرب فى هذا البلد الجميل الذي يُنعت بأثينا أمريكا اللاّتينية) ( 2003- 2008) قمتُ بإجراء إحصاء دقيق للكلمات العربية أو التي تنحدر من أصل عربي الموجودة في هذه الرواية ، فإذا هي كلمات عديدة جدّاً لا حصر لها مبثوثة هنا وهناك في هذه الرّواية منها على سبيل المثال: القطن، المسجد، السّوسن، الضّيعة، الجلباب، المخزن، العقرب، الكحول، الكافور، القطران، الزّيت، المسك، السّوط، الياسمين، الزّهر، الخزامى، البِرْكة، السّاقية، اللقّاط، الزعفران، الزّناتي (التي استقرّت في الاسبانية بمعنى الفارس المغوار نسبةً إلى القبيلة الأمازيغية بالمغرب «زناتة»)، الكيل، الثرثرة، الشّراب، القاضي، القائد، البابوش (عربية- فارسية) وسواها من الكلمات الأخرى، ولقد فوجئ العديد من المثقفين والكتّاب الكولومبيين بذلك عندما ألقيت محاضرةً حول هذه الرواية باللغة الاسبانية منذ بضع سنوات خلال أمسية أدبية «بنادي نوغال» الشهير ببوغوتا، إذ يصعب في كثير من الحالات ردّ بعض الكلمات العربيّة أو ذات الأصول العربية التي استقرّت في اللغة الاسبانية منذ قرون إلى أصلها أو أثلها العربي. قصصُه فصول مستقلّة ويشير الناقد إمانويل كاربايو إلى أنّ ماركيز بأعماله الرّوائية المبكّرة قد أقام إلى جانب روائيين آخرين أسس وقواعد الرواية الجديدة في هذه القارة، وقد نال إعجاب القرّاء، والنقّاد إلى جانب كتّاب مثل الراحل كارلوس فوينتيس وماريو برغاس يوسا الذين انطلقوا من التزامهم باللغة ثمّ عمدوا إلى التحليل العميق لواقع الإنسان الأمريكي اللاتيني، وعالجوا بذكاء أساطير وإرهاصات العالم الذي نعيش فيه، وتعكس أعمالهم حياة قارّة بأكملها. ويشير الكاتب أنّ الروائييّن الذين يعتبرون إخوة كبار لماركيز وهم كاربنتيير وكورتاثار ومارشال ورولفو أمكنهم كذلك خلق فنّ روائي جيّد على مستوى القارة. وأنّ أوّل قصّة كتبها ماركيز لم يكن عمره يتجاوز 19 سنة ونشرها بعد ثماني سنوات وهي «تساقط الأوراق» صدرت في بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه» وهي رواية قصيرة أو قصّة مطوّلة أنهى كتابتها في باريس عام 1957، ثم «السّاعة النحسة» التي حصل بها الكاتب على أوّل جائزة أدبية عام 1961، وفى عام 1967ظهرت له «مئة عام من العزلة»، التي تعدّ من أجود الرّوايات التي شهدتها اللغة الاسبانية في القرن المنصرم. لقد قدّم ماركيز «للرواية الاسبانوأمريكية» ما قدّمه وليم فولكنر» للرّواية الأمريكية». إن قصصه القصيرة هي بمثابة فصول مستقلة لم تجد مكانها في رواياته، أو ربما كتبت لتنير حياة بعض الشخصيات، أو تفسير بعض أحداث هذه الروايات الأكثر انتشاراً في العالم، وهي قصص مكتوبة بطريقة تقليدية تجعل بينها وبين الماضي حدّاً بواسطة الصّمت الذي يغدو في أعمال ماركيز صوتاً مدويّاً صاخباً مثل كلماته مئة عام من العزلة نفسها التي هي سرد لتاريخ شعب. تداخل التاريخ في الأدب والعكس إنّه أوّل ما يثير الانتباه بعد إغلاق كتاب «مئة عام من العزلة» هو عدم تسلسل أحداثها التاريخية، ولكنّ هذا النوع من عدم التسلسل بدلاً من أن يصبح عاملاً يلغي قيمة الرّواية يجعلها تتوفّر على بعض الخصائص التي أهّلتها لتحتل مكاناً خاصّاً بين الأعمال الروائية التي نشرت بعدها، فعلى خلاف الرّوائيين الآخرين المعاصرين لماركيز، إنه في هذه الرّواية يسعى ويحقق مبتغاه في البحث عن الأصالة بواسطة سبل قد تبدو للوهلة الأولى في الظاهر رجعية، وهذه السبل بدلاً من أن تتّجه نحو المستقبل فإنها تسير في اتجاه معاكس للتاريخ وللأدب بغية اكتشاف الماضي، هذا الماضي الذي أسهمت العزلة والوحدة في تنقيته، وتجليته، وتصفيته وأصبح يكاد يكون مجهولاً ولكنه في الوقت نفسه هو جديد بالنسبة للقارئ مثل صحيفة اليوم التي بين يديه، فهناك يعثر على ما كان يبحث عنه منذ 1955 عندما صدرت قصّته «تساقط الأوراق»، فكأنك تلتقي مع رجال يعيشون في الخيال، وهو هنا نوع من البناء انطلاقاً من الهدم ، الحبّ، القهر، والقسوة، والمعاناة. رجال وعالم يقفان في الرّصيف المقابل للمعتقدات الإجتماعية والأعراف الموضوعية والأفكار السياسية والمعتقدات الدينية. والمحسوبية والمنفعية، وأخيراً المخدّرات التي تجعل الحياة ممكنة ومستمرّة في مجتمع مّا، كما هو الشأن في قصّة «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه» وفي «الساعة النحسة» فقد كان من المستحيل الجمع بين التاريخ والشخصيات. إنّ غارسيا ماركيز أمكنه أن يجد في قرية ماكوندو وهو الإسم الذي يرمز إلى اسم قريته الحقيقية أراكاتاكا، رجالاً وطرائق عيش والصّلات التي تربطهم بعوالم سابقة لوجودهم. في الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الشخصيات إلى أناس أنانييّن، وأصدقاء وصوليين لا تهمّهم سوى المصالح المادية الآنية، فقرية ماكوندو هي (الفردوس الأرضي) والفرصة المناسبة الوحيدة المتاحة والممنوحة للإنسان ليحقق أحسن أمانيه. في الفردوس لا يمكن لأعداء الرجال استغلال الفرص لتحطيم وإفساد السعادة التي يوجدون فيها، إنّ (مؤسّسة ماكوندو) التي توازي فكرة أمريكا، حيث أمكن للأوربييّن منذ «الاكتشاف» تعزيز مواقفهم فيها، واستقدموا معهم في الوقت ذاته عنصر الاستمتاع بالحياة وكذا زرع بذور الشرّ والكراهية والتحطيم، التي ستترك القرية في ما بعد شبيهة بقرية متحجّرة أو مصنوعة من حجر، ومثلما ذهب الرّوائي المكسيكي كارلوس فوينتيس عندما قرأ مئة عام من العزلة فوصف هذه الرواية بأنها «كتاب أمريكا اللاتينية». يرى إمانويل كاربايو كذلك أنّ هذه الرّواية بالفعل هي بمثابة «كتاب مقدّس» في وصاياه أو عهوده القديمة والجديدة الذي يحكي فيها تماشّياً مع قواعد الفنّ تاريخ شعب مختار، في قرية ماكوندو منذ البداية إلى حلول الكارثة، منذ أن وطأ هذه الأرض الغرباء الوافدون، وجعلوا من هذه الضّيعة قرية أسطورية حتى اللحظة التي يهيمن فيها النمل على الأرض، ويلتهم آخر وليد من آخر رجال هذه الذريّة والسّلالة. روايةٌ شحذت خيالَ القرّاء الرواية تبدو للقارئ انطلاقاً من منظور آخر، وكأنّها رواية مغامرات، حيث تمتزج فيها البطولة بالأسطورة. كما تبدو بالنسبة للقارئ غير النّابه وكأنّها قصص ألف ليلة وليلة في صيغتها الأمريكية التي تلخص تاريخ أمريكا اللّاتينية منذ استقلالها إلى الوقت الحاضر.هذه اللعبة التي تتطلب بعد التراجع والتقهقر غير المعلن عنهما في النصّ تشير إلى هذه القارّة في بعض عهودها الغابرة، وهكذا نجد تكهّنات تشحذ الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة، وقرن، أو عصر الأضواء ويشطح ماركيز بخياله، ف «مكياديس» هو العالم الكيميائي في العصر الوسيط، ولقد اعترف ماركيز أنّه قد استوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ الفرنسي المعروف ميشيل دي نوسترداموس وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر ربّما لذلك يموت مرّتين، ويحتمل أن يولد من جديد ليدلنا ويرشدنا كيف ستجد ماكوندو منفذاً أو مخرجاً (أيّ أمريكا اللاتينية) من الموت الذي يحكم به عليها ظاهرياً ماركيز في نهاية الرّواية. وهذه الخلاصة تتصادف بشكل يثير الانتباه في البداية، ف»مئة عام من العزلة» تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرّجال في المنطقة لاستيطانها، وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون لأسباب عدّة من الجبال مثل المرّات السابقة لاستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فساداً. من جهة أخرى مكياديس يمكن أن يموت ويولد لأنه يقطن ويسكن أوّلاً وأخيراً في القارّة الأمريكية، حتى وإن كان يجري في عروقه الدم الأجنبي، إنه لا يفرق أو يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت في هذه المنطقة، أيّ في أمريكا التي لا يموت شيء فيها موتاً تامّاً أو كاملاً أو نهائياً (فلنفكّر في النظام الإقطاعي والمذاهب الليبرالية) كما أنّه لا يولد أيّ شيء فيها بالتمام أو في شكله النهائي. رواية «مئة عام من العزلة» تطرح معضلة وهي: إلى أيّ حدّ ينبغي للرّواية وباقي الأغراض الأدبية الأخرى أن تعكس الظروف الواقعية وفي هذه الحالة للبلدان السّائرة في طريق النموّ؟ أو إلى أيّ حدّ يجوز لنا إذا وضعنا في اعتبارنا أنّ الرواية هي في يد الرّجال المتدرّبين مثل الأوروبيّين والأمريكيّين بأن نذهب ونقدّم للقرّاء صورة بنيوية وجمالية حسب ما يحدث في المختبرات الأدبية الأكثر تقدّماً في البلدان التي تعيش وتستمتع بالامتيازات التي يوفّرها لها العصر الحاضر؟ إنّ إجابة ماركيز تبدو مقنعة، فإنّ «مئة عام» تقول: «إن التطوّر والنموّ الاقتصادي لا ينبغي لهما أن يصبّا بالضرورة في رواية طيّعة أو في رواية تتجاهل الواقع والإطار التاريخي والأدبي لتاريخ القارّة» الأمريكية ". تطوير وتطويع الأسلوب إنّ وجهة نظر ماركيز لا يمكن أن يعاتب عليها، لأنّه لا ينكر فضل هذه الرّواية الجديدة، ولا الاكتشافات القائمة في التقليد الأدبي الأمريكي اللاتيني، وهكذا يمكن أن يقدّم بارتياح للقرّاء عملاّ أمريكياّ، وهو عمل لا يمكن أن يغبط تلك الأعمال التي تكتب في أماكن أخرى من العالم. أنّ «مئة عام من العزلة» تعتبر من أدقّ وأعمق وأجود الروايات، إلاّ أنّه إلى أيّ حدّ يمكن استعمال هذا الوصف دون أن ينأى عن الحقيقة أو يدنو منها ؟! إنّ البنية، والتاريخ والشخصيات والأسلوب والجوّ الذي تدور فيه الرّواية كلّ ذلك يفي بدقّة متناهية بالغرض، فالرّواية استعراض في أرقى مظهره للحياة، والألم، والمعاناة، والموت، والأمل، حيث الخيال والعبث وكلّ ما يمكن أن يتخيّله المرء يغدو أمامه حقيقة ماثلة. ماركيز بعد كتابته لهذه الرّواية يمكن أن ينام هانئ البال مطمئنّ الخاطر حتى وإن كان هناك احتمال مؤدّاه أنّ هذا العمل الأدبي قد يقصي الكرى عنه كالأرق الذي كانت تعاني منه ماكوندو وستظلّ كذلك ما تبقىّ لها من الأيام. ويشير كاربايو إلى أنّه بعد أن أعاد قراءة نقده الأوّل لهذه الرّواية الذي نشره عام 1967، ينبغي له أن يتنبّه إلى «أنّ التنبّؤات، أو قراءة الغيب في الأدب يمكن أن يبتعد وأن ينأى عن الصّواب». ففي هذا العرض توقّع الناقد أنّ ماركيز مثل رولفو وغيره من الذين بعد كتابتهم لعمل جيّد وممتاز قد يلوذون بالصّمت، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث مع ماركيز، فقد استمرّ في الكتابة والإبداع، فمن سنة 1967 إلى اليوم نشر كتباً كثيرة جديدة. ويشير الناقد أنّه مع ذلك ليس متيقنّاً من أنّ ماركيز قد كتب بالفعل أعمالاً جيّدة كما هو الشأن في حينه بالنسبة لمئة عام من العزلة، وأقلّ منها مرتبة «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه» وهو يرى في أعماله بعد سنة 1967 نوعاً من الحنين نحو عالم ضائع لا يمكن استرجاعه. إنّ ماركيز الذي جاء بعد «مئة عام» ليس مكتشف أقطار، ومناطق ومواطن أدبية جديدة في عصرنا، إنه كاتب وصاحب أسلوب قويّ ومميّز ذو مقدرة وطواعية رائعة، ونكهة لذيذة في مطبخ الأدب ممّا يفضي بالقارئ المبتدئ إلى الوقوع في الخطأ وعدم التمييز بين «اللقطة» وبين المعاودة والاستمرارية. هناك فقط روايتان بعد مئة عام من العزلة وهما «يوميّات موت معلن» و»الحبّ في زمن الكوليرا» يمكن وصفهما بأنّهما عملان رائعان، إلاّ أنهما ليستا روايتين ممتازتين، وهذان العملان في سيرة أيّ روائي آخر أقلّ موهبة من ماركيز يستحقّان الاهتمام والإعجاب، أمّا عند ماركيز بالذات فهما عملان يمكن قراءتهما بمتعة، ولكن ليس بالمتعة التي يجدها القارئ عند قراءته لأعمال أخرى رائعة للكاتب وفى مقدمتها «مئة عام من العزلة». إنّ غارسيا ماركيز كان يبدو للنقاد وكأنّه يكتب قبالة مرآة، ويوحي لنا بأنّه يتوقف بعد كلّ برهة لينظر إليها ويتأمّل نفسه مليّاً وليهنّئها كلما كتب جملة أو فقرة أو استعارة أو مجازاً، لا يعاتبه ولا يحاسبه أحد على ذلك، إنّه قد ترك وراءه التواضع وقد مشى قيد حياته مرحاً، وصبباً في خيلاء وشموخ، نظراً لما حقّقه، وأدركه من نجاح وانتشار وشهرة واسعة. كِتَاب أمريكا اللاّتينية قال الكاتب المكسيكي الرّاحل كارلوس فوينتيس إنّه تعرّف على غابرييل غارسيا ماركيز لأوّل مرّة عن طريق الكاتب الكولومبي الراحل الفارو موتيس الذي أهداه في الخمسينيات من القرن الماضي إحدى رواياته الأخيرة منبّها إيّاه بولادة كاتب كبير. ويشير فوينتيس أنه في ذلك الوقت كان يشرف على مجلة «المكسيك الأدبية» التي نشر فيها نصوصاً مطوّلة عبّر فيها عن إعجابه بأعمال ماركيز الأولى التي وقعت بين يديه. وعاد فوينتيس عام 1963 من جولة في أوروبّا وكان ماركيز في المكسيك، ومنذ اللحظة الأولى كان إعجاب فوينتيس بماركيز كبيراً «لخفّة روحه ومعارفه الواسعة» ثمّ توالت لقاءاتهما، واكتشاف مصالح متبادلة بينهما. وهكذا دامت صداقتهما سنين طويلة ممّا شكّل سيرة ذاتية مشتركة. ويشير فوينتيس في هذا القبيل الى أن فصولاً كثيرة ممّا كتبه ماركيز وفوينتيس يمكن خلطها وتبادلها واستعمال بعضها الآخر تحت عناوين متباينة مثل «ضائعون في سوروسكو» و»ربيع براغ» و»شهادات سيّدات عصور مضت» و»ألف آحاد في سان أنخيل» و»ارتباك صوتين» و»شخصيّات ونصوص» و»العقيد غابلات» الذي تاه عنه في «موت أرتيميو كروث» ثم عاد فوجده من جديد في «مئة عام من العزلة»، وفي فصل آخر موثوق بخيوط ملوّنة وهو «الجنرال في متاهته». ويشير فوينتيس إلى أنّه في عام 1965عندما وصلته نسخة من الصّفحات الأولى من «مئة عام من العزلة» وهو في باريس جلس دون تفكير وكتب: «لقد قرأت كتاب أمريكا اللاتينية «. واسترجع فوينتيس ذكريات عاشها إلى جانب الكاتب المبدع الذي يفضّل أن يسمّيه «غابو» فقط والذي قال له ذات مرّة «إنّنا نكتب الرّواية الأمريكية اللاّتينية نفسها، فصل كولومبي كتبته أنت، وفصل مكسيكي كتبته أنا، وتولّى خوليو كورتاثار كتابة الفصل المتعلق بالأرجنتين، وكتب الفصل التشيلي خوسّيه دونوسو وأمّا الفصل الكوبي فكتبه أليخو كاربنتيير. ويشير فوينتيس إلى أنّ ماركيز رافقه على امتداد حياته إعجاب وحبّ أصدقائه وخلاّنه وهم جميعاً وعلى رأسهم فوينتيس نفسه احتفلوا بنجاحاته، وصفّقوا له بصدق وحرارة، وعلّق ماركيز على هذه التصفيقات ذات مرّة قائلاً: «ليتها كانت أصواتاً في صناديق الاقتراع «..! وقال فوينتيس ذات يوم: «إنّه يتمنّى له مئة عام ومئة أخرى»، وعن الأوّل الذي سيرحل منّا نقول كما قال هو نفسه عن كورتاثار: «ليس صحيحاً.. إنّه لم يمت، فهناك دوماً أصدقاء يذكرونه وهم لا ينتهون». وبعد رحيل فوينتيس المفاجئ لابدّ أنّ ماركيز كرّر متحسّراً الكلمة نفسها التي سبق أن قالها هو نفسه عن كورتاثار. وبعد موت ماركيز بعدهما لا جَرَم أنّنا نكرّر اليوم ما قالاه هما الإثنان معاً…! (انظر مقالي حول هذا الموضوع في «القدس العربي» بعنوان «وداعاً كارلوس فوينتيس..غابت شمس المكسيك السادسة» العدد7129 بتاريخ 17أيار/مايو2012). *كاتب، وباحث ومترجم،وقاصّ من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية الامريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.