بعد محاولات دامت ما ينيف على خمسين عاماً، وافق ورثة الرّوائي الكولومبي المعروف غابرييل غارسيا ماركيز، الحاصل على جائزة نوبل عام 1982، نقل روايته الشهيرة "مائة عام من العزلة" إلى الشاشة الصغيرة. ومن المنتظر أن تتعاون شركة البثّ الأمريكية "نيتفليكس" مع ورثة المؤلف الكولومبي للعمل على إعداد مسلسل جديد حول وقائع وأحداث هذه الرواية ذائعة الصّيت التي كان قد نشرها صاحبها عام 1967. يوميّات قرية أسطورية مرّت حتى اليوم خمس سنوات على رحيل هذا الروائي الذي ملأ الدنيا وشعل الناس، إذ في ال17 من شهر أبريل الجاري 2019 حلّت ذكراه، فبعد احتفاله بعيد ميلاده السّابع والثمانين في نفس هذا التاريخ من عام (2014) غيّبه الحِمام، الذي أبدعَ وبرعَ في كتابة الفنّ الرّوائي الرّائع، وتألّقَ في السّرد الحكواتي الماتع. وُلد مركيز في قرية "أراكاتاكا" في 6 مارس 1927. كانت هذه القرية التي رأى فيها النور مغمورة بمنطقة الكرايب الكولومبي، وقد تحوّلت في روايته "مائة سنة من العزلة" المُضمّخة بخيالات واقعيتها السحرية إلى حاضرة مشهورة تحمل اسم "ماكوندو"، حيث تترعرع مركيز في هذا المكان الذي تتعايش وتتآخى وتتعانق فيه الحقيقة والخيال والأسطورة والخرافة والأحلام والآمال والرّغبة والتطلّع. وفتح "غابو" (كما يسمّيه أصدقاؤه) بهذه الرواية البابَ على مصراعيْها لإبداعاته الأدبية التي جاءت في قوالبَ جديدة وأساليبَ مبتكرة، حيث اعتُبِر من أبرز وأهمّ الكتّاب الذين شكّلوا ما أصبح يُعرف ب"البّوم" الأدبي الشّهير للرّواية الإسبانية- الأمريكية، كما أنه والحالة هذه اعتُبِر من أكبر أقطاب كتّاب موجة ما يُعرف ب"الواقعية السّحرية" التي حققت شهرة واسعة منذ الستيّنيات من القرن المنصرم في مختلف أنحاء المعمور للآداب الأمريكية اللاّتينية. لم ينقطع الحديث عن مركيز منذ رحيله، بل إنه في تجدّد مستمرّ، كانت قد نُشرت عدّة كتب حوله؛ فقد عرف بإثارته دائماً للجدل سواء في حياته الخاصّة أو في رواياته، أو تصريحاته، أو مع أصدقائه، ومعارفه، كما كان قد كثر الكلام قُبيْل رحيله عن صحّته، وكبريائه، وخيلائه، وعناده، وعن المشاكل التي كانت تنتابه بخصوص الوَهَن الذي كان يعاني منه في ذاكرته، فضلاً عن تسليط الأضواء على مهنته القديمة وهي الصّحافة. ناهيك عن تهافت دور النشر في إسبانيا، وفي مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدةالأمريكية على تكريمه، وإعادة طبع كتبه ورواياته وترجمتها، وكان آخر كتاب نُشر عنه يحمل عنوان "غابو.. صحافيّاً"، وقبله بقليل كان قد صدر كتاب آخر تحت عنوان "غابو رسائل وذكريات" لصديقه الحميم بيلينيو أبوليّو ميندوسا. يقول خوَان كرُوث، الناقد الإسباني بجريدة "البايس" الإسبانية، عن كتاب "غابو صحافيّاً": "اعتبُر هذا الكتاب عند صدوره في طبعة خاصة كنزاً ثميناً في عالم الخلق والإبداع الصّحافي والأدبي على حدّ سواء؛ فبعد أن تمّ توزيعه بالمجّان، أصبح يباع اليوم بثمن باهظ، لذا فإنّ الصّحافيين الذين أمكنهم الحصول على النسخ القديمة منه قد أخفوها في مكان مأمون لهذه الغاية، فالأمر يتعلق بصاحب رواية "مائة سنة من العزلة" التي بيع منها منذ صدورها عام 1967 إلى اليوم الملايين من النّسخ والتي تُرجمت إلى 37 لغة بما فيها لغة الضاد". من أراكاتاكا إلى ماكوندو تُعتبر رواية "مائة عام من العزلة" من أشهر روايات ماركيز على الإطلاق التي توّج بها رحلته الإبداعية بجائزة نوبل في الآداب عام 1982، كُتبت هذه الرواية في المكسيك ونُشرت في بوينوس أيريس، ولم يكن مركيز يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين من عمره. وكان المشرف عن دار النشر الأولى التي أُرْسِلتْ إليها هذه الرواية قد نصح مركيز بالتخلّي عن الكتابة وهجرها وليبحث له عن عمل آخر، إلاّ أنّ أوّلَ نقد بنّاء تفطن لأهمية هذه الرواية غداة صدورها كان بقلم الناقد المكسيكي إيمانويل كاربايو عام 1967، فقد ذهب هذا الناقد في ذلك الوقت إلى القول بانبهار : "إنّه ألفىَ نفسَه أمامَ واحدةٍ من أعظم الرّوايات في القرن العشرين". غادر مركيز قريته "أراكاتاكا" عام 1930، إلاّ أنّه ظلّ وفيّاً لها وللذكريات التي عاشها فيها في صباه وفي شرخ شبابه، وريعان عمره؛ فقد حمل معه مختلف العادات والتقاليد وحتى طريقة ارتداء الأقمصة المُزركشة ذات الألوان الزاهية التي يوثر سكان منطقة الكرايب على ارتدائها، لذا كان غابو يبدو غريباً عندما وصل إلى بوغوتا، وكان سكان العاصمة الكولومبية ينظرون إليه باستغراب، وذات مرّة سقط ثلج غزير على المدينة العملاقة، فصار يجري ويقفز وهو يغني ويدندن غيرَ آبهٍ بالناس الذين تجمهروا حوله وهم ينظرون إليه في شدوه، إذ لم يكن قد رأى الثلج من قبل في قريته الصغيرة المغمورة التي أصبح يعرفها الملايين من الناس في مختلف أرجاء المعمور باسم "ماكوندو". كلمات عربية في هذه الرواية هذه الرواية، التي تنتمي إلى موجة الواقعية السّحرية التي طبعت الأدب الأمريكي اللاتيني في النصف الثاني من القرن المنصرم، تتعرّض للمغتربين العرب الأوائل الذين استقروا واستوطنوا قرية "أراكاتاكا". كما يتعرّض مركيز للمهن التي كانوا يزاولونها، مثل التجارة كباعة متجوّلين، ويستعمل مركيز في تسميتهم اسم "الأتراك"، وهو مصطلح غير دقيق، إذ كان الناس يطلقون عليهم هذا الاسم لأنّهم عند وصولهم إلى كولومبيا كانوا يحملون جوازات سفر مسلّمة لهم من الدولة العليّة العثمانية التركية. ونجد في هذه الرّواية غير قليل من العادات والتقاليد العربية، فالشارع الذي يُشار إليه ب"شارع الأتراك" في الرواية سيصبح فضاء فسيحاً سرعان ما سيعرف تحوّلات كبرى سيكون لها تأثير بليغ على معظم سكان أراكاتاكا أو "ماكوندو" التي يقول عنها مركيز إنّها "سرعان ما تحوّلت من ضيعة صغيرة إلى قرية نشيطة ذات دكاكين، وأوراش للصّناعات التقليدية، كما أصبحت طريقاً تجارياً منذ وصول العرب الأوائل إليها الذين تعاطوا في البداية التجارة والمقايضة، وأحدثوا تنظيماً اجتماعياً، وحياة ثقافية، حيث حملوا معهم "ألف ليلة وليلة" وحكاياتها العجيبة وخيالها المجنّح. ويرى بعض النقاد أنّ وصول المهاجرين إلي هذه القرية وانتشار التجارة فيها قد يكون رمزاً واضحاً لوصول الإسبان إلى العالم الجديد. بعد قراءة متأنيّة لرواية "مائة سنة من العزلة"، قمتُ بإحصاء دقيق للكلمات التي تنحدر من أصل أو أثل عربي الموجودة فيها فإذا بي أعثر على كلمات عربية عديدة مبثوثة في هذه الرّواية أسوق منها على سبيل المثال وليس الحصر: المسجد، السّوسن، القطن، العقرب، الضّيعة، الجلباب، الكافور، المخزن، الكحول، الزيت، القطران، المِسك، السّوط، الزّهر، الياسمين، الخزامىَ، السّاقية، ألبِركة، اللقّاط، الزّعفران، الزناتي (وهي من القبيلة الأمازيغية المغربية (زناتة) التي كان أهلها مشهورين بركوب الخيل حيث استقرّت هذه الكلمة في الإسبانية بمعنى الفارس)، الكيل، الثرثرة، القاضي، الشراب، القائد، البابوش (وهي كلمة عربية- فارسية) وسواها من الكلمات الأخرى، إذ يصعب في كثير من الحالات ردّ بعض الكلمات التي تنحدر من أصل عربي والتي استقرّت في الإسبانية منذ بضعة قرون إلى أثلها العربي. واقع الإنسان الأمريكي اللاّتيني لم يكن عمر مركيز يتجاوز 19 سنة عندما كتب أوّلَ قصة له ونشرها بعد ثماني سنوات وهي "تساقط الأوراق" صدرت في بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية "الكولونيل ليس لديه من يكاتبه" التي أنهى كتابتها عندما انتقل إلى العمل كمراسل صحافي من باريس عام 1957، ثم نشر"ساعة النحس" التي حصل بها على أوّل جائزة أدبية عام 1961. وفي عام 1967، ظهرت روايته "مائة سنة من العزلة"، التي تعدّ من أعظم الرّوايات التي عرفتها اللغة الإسبانية في القرن الفارط . ويشير الناقد المكسيكي إمانويل كاربايو أنّ مركيز قدّم للرواية الإسبانوأمريكية ما قدّمه فولكنر للرّواية الأمريكية. ويغدو الصّمتُ في بعض أعماله أصواتاً مدويّة مثلما هو الشّأن في "مائة سنة من العزلة"، التي هي سرد لتاريخ شعب بأكمله. ويرى هذا الناقد أنّ مركيز أقام إلى جانب روائيين آخرين أسسَ وقواعدَ الرواية الجديدة في القارة الأمريكية، أمثال فوينتيس، وكورتاثار، وأستورياس، وكاربنتيير، ورولفو ويوسا وآخرين الذين برعوا في التحليل العميق لواقع الإنسان الأمريكي اللاّتيني، ووظفوا في آدابهم الأساطير القديمة للسكان الأصليّين من الهنود، وتعكس أعمالهم الإبداعية حياة وتاريخ قارّة بأكملها. ماكوندو.. الفردوس المأمول أهمّ ما يتبادر إلى ذهن القارئ في رواية "مائة عام من العزلة" هو عدم تتابع وتسلسل أحداثها التاريخية، إلاّ أنّ هذه الخاصيّة بدلاً من أن تصبح عنصراً سلبياً يُنقص من قيمة الرواية يجعلها تكتسب بعض المميّزات التي أهّلتها لتحتلّ مكانة خاصّة بين الأعمال الروائية الأخرى التي نشرت بعدها خلافاً لبعض الرّوائيين الآخرين المعاصرين لماركيز الذي سعى إلى تحقيق مبتغاه في البحث عن الأصالة بواسطة سبل قد تبدو للوهلة الأولى في الظاهر غير منطقية، إذ إن الرواية بدلاً من أن تتّجه نحو المستقبل فإنها تسير في اتجاه معاكس للتاريخ بهدف الغوْص في الماضي واكتشافه، الذي أسهمت العزلة في تنقيته وتجليته، بعد أن كاد يكون مجهولاً، إلاّ أن هذا الماضي يظلّ جديداً بالنسبة إلى القارئ كصحيفة اليوم التي بين يديه، إذ فيه يعثر مركيز على ما كان يبحث عنه منذ 1955 عندما أصدر قصّته "تساقط الأوراق"، فكأنه يلتقي مع رجال يعيشون في الخيال، وهو نوع من البناء انطلاقاً من الهدم والقهر والقسوة والمعاناة. رجال وعالم يقفان في الرّصيف المقابل للمعتقدات والعوائد الاجتماعية، والأعراف الموضوعة، والأفكار السياسية، والمعتقدات الدينية، فضلاً عن المحسوبية والمنفعية، وأخيراً عالم المخدّرات أو المهلوسات التي قد تجعل الحياة ممكنة ومستمرّة في مجتمع مّا، كما هو الحال في "الكولونيل ليس لديه من يكاتبه". وفي "الساعة النحسة"، فقد كان من المستحيل على الكاتب أن يجمع بين التاريخ والشخصيات؛ إلاّ أنه أمكنه أن يجد في قرية "ماكوندو" (أراكاتاكا) رجالاً وطرائقَ عيش تربطهم بعوالم سابقة لوجودهم، في الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الشخصيات إلى أناس أنانييّن ووصُوليين لا تهمّهم سوى المصالح المادية الآنية. فقرية ماكوندو، وهي (الفردوس الأرضي المأمول)، هي الفرصة المناسبة المتاحة للإنسان ليحقق أمانيه. في هذا الفردوس لا يمكن لخصوم الرجال استغلال الفرص لإفساد السعادة التي ينعمون فيها؛ ذلك أنّ (ماكوندو) التي توازي فكرة أمريكا، حيث أمكن للوافدين عليها من الأوروبييّن منذ 1492 تعزيز مواقعهم ومراكزهم فيها، حيث استقدموا معهم عنصر الاستمتاع بالحياة، وبالمقابل زرْع بذور الشرّ والكراهية والجشع والتدمير، كلّ ذلك سيترك القرية شبيهة بخلاء متحجّر، وذلك بالضبط ما أوحى للرّوائي المكسيكي كارلوس فوينتيس عندما قرأ "مائة سنة من العزلة" بأن يصفها بأنّها "كتاب أمريكا اللاتينية". وهو نفس ما كان قد ذهب إليه كذلك الناقد كاربايو عندما قال عنها إنها بمثابة "كتاب مقدّس" في وصاياه أو عهوده القديمة والجديدة الذي يحكي لنا فيها مركيز تماشياً مع قواعد "فنون القول والحكي" تاريخَ شعب مختار في قرية ماكوندو منذ البداية إلى حلول الكارثة، أي منذ أن وطئ هذه الأرض الغرباءُ الذين جعلوا من هذه الضّيعة قرية أسطورية حتى اللحظة التي يلتهم فيها النمل آخرَ وليدٍ من آخر رجال هذه السلالة. مكياديس ونوستراداموس تبدو هذه الرواية للقارئ كأنها تلخّص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ الاكتشاف إلى الوقت الرّاهن، مع إشارات إلى بعض عهودها الغابرة، فضلاً عن تكهّنات واستقراءات تلهب الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة أو عصر الأنوار، وهنا يجعلنا مركيز نلتقي بإحدى الشخصيات الغريبة الأطوار، وهي "مكياديس" العالم الكيماوي في العصر الوسيط، ويعترف لنا بأنه استوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ الفرنسي الشهير ميشيل دي نوسترداموس، وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر، ربما لذلك نجده يموت مرّتين، ويُحتمل أن يُولد من جديد ليدلنا ويرشدنا كيف ستجد "ماكوندو" (أي أمريكا اللاتينية) منفذاً أو مهرباً من الموت الذي يحكم به عليها ظاهرياً مركيز في نهاية الرّواية، إلاّ أنّ هذه النهاية تتصادف بشكل مثير للانتباه مع البداية، ف"مائة سنة من العزلة" تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرجال في المنطقة إلى استيطانها، وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون لأسباب عدّة من الجبال إلى استيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فساداً. كما أنّ "مكياديس" يمكن له أن يموت، وأن يولد لأنه يقطن في القارة الأمريكية، حتى وإن كانت تجرى في شرايينه الدماء الأجنبية، وهو لا يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، في هذه المنطقة، أي في أمريكا التي لا يموت شيء فيها موتاً تامّاً أو نهائيّاً، كما أنّه لا يولد أيُّ شيء فيها بالتمام أو الكمال. كتابات ذات نكهة خاصّة في مطبخ الأدب لقد قدّم مركيز بارتياح للقرّاء عملاً أمريكياً محضاً، وهو لا يمكن أن يغبط به تلك الأعمال التي كُتبت في أماكن أخرى من العالم. والحقّ أنّ "مائة سنة من العزلة" تُعتبر من أجود الرّوايات، إلاّ أنّه إلى أيّ حدّ يمكن الاطمئنان إلى هذا الوصف دون أن ينأى عن الحقيقة؟ إنّ البنية والتاريخ والشخصيات والأسلوب والجوّ العام الذي تدور في فلكه الرّواية كلّ ذلك يفي بدقّة متناهية بالغرض؛ فالرّواية استعراض في أرقى مظاهره لمنغّصات الحياة، ومرارة العيش، وفسحة الأمل، حيث يغدو الخيال، والعبث، واللاّمعقول، وكلّ ما يمكن أن يتخيّله القارئ أمامه حقيقة ماثلة. إنّ الأسلوب السّلس الذي كتب به مركيز هذه الرواية جعله ينام لسنوات طويلة هانئ البال، مطمئنّ الخاطر حتى وإن كان هناك احتمال مؤدّاه أن هذا العمل الأدبي قد أبعدَ عنه الكرى، كالأرق الذي كانت تعاني منه "ماكوندو" وستظلّ كذلك ما تبقىّ لها من الأيام. ويذكّرنا "كاربايو" أنّه، بعد أن أعاد قراءة ما كان قد كتبه في نقده الأوّل لهذه الرواية عند صدورها، كان عليه أن يتنبّه إلى أنّ التنبّؤات أو قراءة الغيب في الأدب يمكن أن ينأى بنا عن الصّواب"؛ فقد توقّع الناقد، في عرضه الأوّل البعيد زماناً ومكاناً، أنّ مركيز مثل رولفو وسواهما من الذين بعد كتابتهم لعملٍ جيّد قد يلوذون بالصّمت، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث مع مركيز فقد استمرّ في الكتابة إلى آخر أيام عمره. ويشير هذا الناقد إلى أنّه مع ذلك ليس متيقنّاً إذا ما كان مركيز قد كتب بالفعل أعمالاً جيّدة في مستوى "مائة سنة من العزلة"، وهو يرى أنّ أعماله التي جاءت بعد هذه الرواية تشكّل نوعاً من الحنين نحو عالم ضائع لا يمكن استرجاعه؛ فمركيز، الذي جاء بعد عزلة استمرّت (ملئة سنة)، ظلّ بالفعل صاحب أسلوب قويّ ومميّز، وذي طواعية فريدة، ونكهة لذيذة في مطبخ الأدب. هناك روايتان فقط بعد "مائة سنة من العزلة"، وهما: "يوميّات موت معلن" و"الحبّ في زمن الكوليرا"، يمكن وصفهما بأنّهما عملان رائعان، وأقلّ منهما "الكولونيل ليس له من يكاتبه"، وهذه الأعمال في سيرة أيّ روائي آخر أقلّ موهبة من مركيز تستحقّ الاهتمام والإعجاب، أمّا عند مركيز بالذات فهي أعمال يمكن قراءتهما بمتعة، ولكن ليس بنفس المتعة التي يجدها القارئ عند قراءته ل"مائة سنة من العزلة". ويشير كاربايو أن غارسيا مركيز كان يبدو لنا وكأنّه يكتب قبالة مرآة، مثل الرسّامة المكسيكية الشهيرة فريدا كاهلو التي كانت ترسم كذلك قبالة مرآة. ويوحي لنا ذلك بأنّه كان يتأمّل نفسَه مليّا فيها ليهنّئها كلما كتب فقرة أو استعارة، أو مجازاً، ولم يكن في مقدور أحد معاتبته على ذلك، بعد أن ترك التواضع يجرّ أذياله خلفه، إذ كان قيد حياته يمشي في خيلاء نظراً لما حققه من شهرةٍ واسعة. قال الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا عن روايته "مائة سنة من العزلة": (إنها من أعظم الرّوايات التي كُتبت في اللغة الإسبانية بعد "دون كيخوته" لسيرفانتيس). *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم -بوغوتا- كولومبيا.