«دنيا داي» حزينة هذا المساء، شارع محمد الخامس كئيب ومثير للقرَف، المقعد الذي ألفناه يعجّ بالحياة مصاب بحالة ذهول وحزن شديد، رصيف الشارع فراغ في فراغ، الدراجة النارية التي كانت تركن قرب الشجرة غير موجودة، جسد محمد نجيب الحجام لم يستلق كعادته على سارية مقهى «دنيا داي»( DOUNIA DAY ) وجهه الصادح إصرارا وعقيدة طوحه الغياب صباح الإثنين الرابع والعشرين من فبراير ألفين وعشرين، سافر الجسد إلى هناك حيث يرقد في سكينة وهدوء، فلا شيء سيثير حفيظته، ولا عالم سيعنيه منذ اليوم، ولا قضايا إنسانية آمن وناضل من أجلها ، الهباء هو الذي ينتظرنا جميعا، حيث لا قيمة لحياة نتصارع فيها من أجل العدم، كل الأشياء الجميلة والنبيلة ستدفن معك يا صاحبي، ومع ذلك ستظل مواقفك الشهمة، ومبادؤك الإنسانية، ومقاومته للابتذال والإسفاف، والظلم والجَوْر مقيمة في ذاكرة الأعداء قبل الأصدقاء، كرسيك الذي ألفك يعلن حالة حداد، ورود الأصدقاء التي وضعوها عليك لا عطر فيها ولا حياة. كل شيء لا طعم له، المدينة غارقة في جرائرها وجرائمها، الناس هائمون في حياة فانية، الأصدقاء فقط يندبون حظهم من موت لا يختار إلا الأصفياء، والرجال الأفذاذ. مازال صوتك الصادح النابض بالأمل في غد مغربي أفضل، في شقوق جدران وساحات ظهر المهراز بفاس في ثمانينيات القرن المأسوف على رحيله، مقيما وأبديا، مداخلاتك التي ترعب العدو الأول للشعب المغربي وتزلزل أركانه هي الأخرى مؤرخة بمداد من نضال ومواقف شريفة. كنت صوت الناس وصوتنا نحن يتامى الألفية الثالثة، وكانت ضريبة نضالك الاعتقال والتنكيل من لدن أعداء شمس الحرية والديمقراطية والعدالة، والجميل في كل هذا أنك ما تزحزحت قيد أنملة عن ثوابتك وقيمك ومبادئك، بل كنت تعلنها صرخة مدوية في وجه الكل غير مبال بالعواقب التي كانت تخيف الخونة وأدعياء النضال في زمن الجمر والرصاص، وهذه العقيدة لا يملكها إلا الرجال النادرون والاستثنائيون في عالم تحولت فيه القيم إلى سلعة تباع وتشترى، وفقدت الإنسانية جوهرها الإنساني. مازلت أذكر في تسعينيات القرن الماضي، وأنا طالب بجامعة القاضي عياض سابقا ( جامعة السلطان المولى سليمان حاليا) كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، المنزل الذي اكتريته بزنقة لهْرية، تلهفي ورغبتي الجموح لارتياد مقر جريدة ملفات تادلة آنذاك، حيث ظلت منبرا لكل المناضلين الشرفاء ومجالا للمناقشة والتداول في الشأن المحلي والوطني والعربي، كان المقر عبارة عن خلية نحل، الكل يسهر ويقرأ ويكتب من أجل أن تخرج الجريدة في حلة بهية، وكنتَ صديقي من بين الأسماء التي تعتبر الجريدة بيتها الثاني، وتمنيت النشر فيها، لكن تمّة شيء ما كان يمنعني من الإفصاح عنه، وأنا في بداياتي الأولى، وما سمعته عنك الكثير حول ما قمتَ به من أجل مغرب حداثي مؤمن بالإنسان، ومرّت مياه كثيرة تحت جسر الحياة، والتقينا في لقاءات سياسية وفكرية وجمعوية وجامعية، فيأتي صوتك الجهوري غيمة من سماء قلبك المترع بالمحبة والرغبة في النقاش والجدال المثري والمناكفة الطيّبة البعيدة كل البعد عن الصراعات المجانية. ومازلت أذكر افتتاحياتك ذات العمق، والتبصّر التي تبرز مكانة يراعك الجسور والمؤمن بأهمية الثقافة والفكر في بناء الإنسان والمجتمع، كنتَ منخرطا فعليا، وفاعلا ومتفاعلا مع مجريات الأحداث، لا تهادن أحدا، صوتك شامخا في سماء بني ملال وصورتك ستظل ترافق رفاقك القدامى الذين يعرفونك حق المعرفة. ليت الحياة أمهلتك حتى نتزود بفضل تجربتكم التي يشهد بها البعيد قبل القريب، ولعلّ الصيت الذي نلته ونالته الجريدة عربونا على صدقيتك ونبل أخلاقك. تبّا للموت الذي يقطف أرواح مَنْ نحبَّ والذين لايمكن للتاريخ نسيانهم أبدا لسبب بسيط يتمثل في كونك الرجل الذي نذر وجوده لخدمة مدينة داي، المدينة التي ستحفظ عبورك اليومي على دراجتك النارية المثقلة بأعداد الجريدة، بخطواتك التي تحفل بها الأرض الملالية، بأنفاسك المتقدة بحرائق الماضي وبؤس الحاضر والخوف على الغد. حين أعبر من أمامك وألقي عليك التحية أو عندما تسنح لنا الحياة بالجلوس ألمح فيك الإنسان المؤمن بالحياة. المهم صديقي أعرف أنك نمت إلى الأبد مرتاح الخاطر، مفرغا من تفاهة الحياة التي ترشقنا يوميا بالرتابة في كل شيء، الحياة ستغدو بعدك عدما، ووجهك سيغيب عنا لكن روحك تسكن المقام الذي اعتادك يوميا، سيذكرك الرفاق وسيعودون محملين بأناشيد الثورة والحلم العربي المؤود، مثقلين بسنين العذاب والسجن وبصور العظماء الذين تركوا بَصْمَتهم في تاريخ الإنسانية. ورغم كل الخسارات والارتكاسات بقيتَ مؤمنا بالأمل، وبواقع مُشرِق بالحياة، مكانك كرسيك مازال فارغا يندب حظه عن فراقك، والمدينة تسرد حكاية رجل طيّب مرّ من هنا، لا يبتغي من الحياة إلا محبة الإنسان، والدفاع عنه بالكلمة الصادقة، الطيّبة والمواقف الثابتة، ولم تغْرك تفاهات المناصب والكراسي التي جعلت الكثير يتخلى عن عقائده السياسية، والفكرية. طوبى لك أيها الشّهْم هناك حيث أنت مقيمٌ، لك هدنة القبر وسكينته، ولهم جلبة العالم الذي يتقاتل من أجل الهباء. فأنتَ كتاب مفتوح على روايات مدينة تستيقظ كئيبة وتنام على سرير النسيان، المدينة التي أحببتها، وعشقتها وتشبثت بها في زمن كان للإيمان بالمقام ضريبة الاعتقال .هي الآن ترتّل سِفْر ألمها الناطح بنزيف الفراق، تلوي على طيفك العابر سهوا في مجاهل ذاكرتها، ولا تقبض إلا على أنفاس تركتها قرب كرسي مضرب عن الجلوس وطاولة مكللة بورد الحياة، وبجريدة حكمت عليها الموت أن تبقى يتيمة،ومع ذلك ستبقى منارة الإعلام الجهوي الذي تعدّ من أبرز الوجوه التي أسهمت في بنائه في مدينة بني ملال في تسعينيات القرن العشرين. دمت في قبرك شامخ الروح، بهيّ الطلعة التي غابت عنها فجأة، طيبا إنسانا، مناضلا ومثقفا بارزا في عصر نحتاج فيه لأمثالك. «وأنت هناك تذكر أنّك كنتَ هنا قرب سارية الحياة تنشد الأمل تغني لشمس بعيدة الشروق لوطن ينام في جلباب الماضي ويخاف الحاضر وتكتب سيرة الذين عادوا من مداشر القهر من وجع الأرض من بعيد الحياة أغنيات جريحة الإيقاع فالشجر الذي تركته نابضا بالخضرة علته صفرة الرحيل» كم أحتاج من الوقت لأزف للموتى خبر رحيلك كي يهيئوا لك مائدة السمر، ويزينوا قبرك بعطور قادمة من سودان الجنوب، ويوقظوا الشموع وينصبوا خيمة الفرح، فقد خرجت من باب الموت ودخلت باب الحياة. وتلك سيرة القلائل من رجالات المغرب، سيرة تروي تاريخ الخلود لأسماء بصمتْ وجودها بالعطاء والبذل والإيثار، وأنت صديقي من هؤلاء، ونحن إذ نكتب هذه الرسالة التي جاءت بعفوية ومحبة لنقول لك إن عظمة الإنسان في ما تركه من إرث معنوي يكون طاقة لحضارة الأمم،وسبيلا للسير قدُما نحو المستقبل بعين بصيرة وقلب بصير وحلم أكثر أملا في الوجود. فَنَمْ خلّي قرير الحياة، ودعنا، نحن الموتى، نرتق وجودنا بخيط عودتك القادمة، العودة التي ننتظرها بفارغ الصبر علّنا نلتقي هناك مدجّجين بذكرياتنا التي أودعناها أمكنة مازالت تنضح بالحياة، وتذكر عبورك الذي غاب هذا المساء عن مدينة تقودها «كتيبة الخراب». كيف سأغلق باب هذه الشهادة المتواضعة منّي أنا الخجول من فراغ الكرسي وحزن الشجرة، وإضراب دراجته النارية التي ركنت زاوية من زوايا بيتك، عن القدوم إلى مواساة شارع محمد الخامس الذي افتقد رجلا نادرا في النضال والحياة. لك كل المحبة والحياة هناك صاحبي محمد نجيب الحجام، واعلم أني سأرافقك إلى هناك فانتظرني سآتيك مثقلا بوجع الوطن وبانكسار الأحلام على ناصية الخبث السياسي، الذي خبِرته منذ عقود، وبأمل مطوقّ بألم مغرب لم يستطع الخروج من ماضيه ليعانق المستقبل.