إنَّ مشاريع الترشيد لهذه الأمة بدون شك عديدة ومتنوعة، والحاجة إليها قائمة في كل ميدان وفي كل أوان. ونحن اليوم نحاول أن نقدم أحدها بسبيل من سبل الاجتهاد، غير مستبعد سواه عن ساحة الاعتضاد والاستشهاد. أيها السادة: إن الأمة الإسلامية -وهي في منسلخ ثلث قرنها الخامس عشر للهجرة وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين للميلاد- تحمل مسئولية القيم والرحمة إلى الأمم، وهي أمة شهدت وتشهد على أرضها أحداثاً جسيمة ليست باعتبار تأثيرها عليها بل على العالم أجمعه. فهي من الناحية الجغرافية تمثل المنطقة الوسطى في الكرة الأرضية؛ مما منحها فرصة التواصل مع الثلث الغربي والثلث الشرقي، ولكنه فرض عليها أن تصطدم وأن تمتص الصدمات تاريخياً وحاضرا؛ وهي صدمات وهزات عنيفة مباشرة أو ارتدادية، ولكنها تصمد ثقافياً وخصوصية إذا قسنا الوجود بالمعيار الثقافي. وهي خزان مخزون الطاقة الأثرى في العالم. وبالإضافة إلى البعدين الجغرافي والاقتصادي، فهي مهد الرسالات السماوية الثلاث، ومهاد البقاع المقدسة. كل ذلك أغرى أتباع الديانات وغيرها بخوض نزاع مرير في أرضها على مر التاريخ الذي لا يزال ماثلا، وحرك موجات الاستعمار القديم والحديث. لكنها في نفس الوقت تعيش أزمة حضارية وفكرية جعلتها في خصومة مع التاريخ ومع العصر على حساب التنمية الروحية والنفسية والإنسانية والاقتصادية؛ مما أفقدها الانسجام الضروري بين الضمير الديني والأخلاقي والواقع الإنساني المعاصر، فلم تستطع المواءمة بين كلي الزمان وكلي الشرائع والإيمان. إن كلي الزمان يتمثل في الحريات بأنواعها وأصنافها –حرية اللسان وحرية الأركان والمساواة بين الإناث والذكران ومتطلبات حقوق الإنسان.. أما كلي الشرائع والإيمان، فإنه يلتزم بالمحافظة على الأديان والأبدان والمال والنسل والعقل؛ بتفاريع وترتيبات. إنَّ هذه الأمة بحاجة ماسة بل في ضرورة حاقة لمراجعة مضامين شريعتها في كليها وجزئيها؛ لتعيش زمانها في يسر من أمرها، وسلاسة في سيرها، في مزاوجة بين مراعاة المصالح الحقة ونصوص الوحي الأزلية. إنَّ المراجعة ليست مرادفة للتراجع، وإن التسهيل ليس مرادفاً للتساهل، وإن التنزيل ليس مرادفاً للتنازل. إنه ترتيب للأحكام على أحوال المحكوم عليهم؛ وهم المكلفون الذين خاطبهم الشارع خطاباً كلياً مبشرا وميسرا ومنبها ومنوهاً بأن الشريعة الخاتمة لا تريد إعناتهم، وأن تلك إحدى ميزاتها البارزة، وصفاتها الباهرة (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين) (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فبنص الوحي رفع الحرج، وبنص الوحي يتوقف التكليف عند حدود الضرورات، وبنص الوحي من لا يتمتع بحرية الإرادة لا تكليف عليه. لكن كيف توزن الضرورات؟ إنها أحوال، وموازين الأحوال ليست كموازين الأشياء المادية والأثقال. كيف نقيس الحرج؟ لتعطيل وليس لتبديل حكم، لتنزيل على واقعة وليس لتنازل عن قيمة، بتأويل وليس بتحويل ولا تحايل، وبتعليل وليس بتعلل ولا تعالل .