بسم الله الرحمن الرحيم تطبيق الشريعة الإسلامية وتنزيلها في مختلف مجالات الحياة حلم كل مسلم وأمنية كل مؤمن، وهو حلم كبير تردده الألسن في إطار الأمنيات، وأمل من الآمال التي نرقبها وننتظرها دون أن تأخذ طريقها إلى التطبيق بحسن توظيف الإمكانات والتحقق بالآليات والأدوات التي تمكن من ذلك، وفي غياب هذا التفعيل يظل الجميع ينتظر ويرتقب ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ (الأحزاب: 23). وهذا التطبيق لا يتأتى من الرؤى الحسيرة، والأمنيات الحالمة، والانفعالات التي تطغى عليها ردود الفعل، أو محاولات التباهي والافتخار، أو اختزال الشريعة في الحدود والقصاص، بعيدا عن فقه قانون التطبيق، الذي لا تؤثر فيه التجاذبات والانفعالات؛ بل لابد من تنزيله على وعي وبصيرة. والأحزاب والحركات الإسلامية في مختلف الأمصار منوط بها -اليوم أكثر من أي وقت مضى- تنزيل الأمنيات إلى إمكانات؛ بتحديد مواطن الخلل وأسبابها، وإزالة العوائق التي تحول دون التطبيق وتقعد أصحاب المسؤولية عن ممارسة تنزيل شرع الله والشهادة على الناس؛ سيما وقد مكنوا مما لم يمكنوا منه من قبل في مختلف البلدان. ولعل أولى الخطوات المطلوبة فقه الحاضر، واستشراف المستقبل، وإدراك الثابت والمتغير من الشريعة، وفقه تنزيلها في حياة الناس، وتقويم واقعهم بها، والتخطيط لمستقبلهم على هديها، والاعتقاد بأن تطبيقها فيه السلامة والنجاة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 179). الخطأ في التنزيل ينبغي أن لا يؤدي إلى الاعتراض عن الحكم: وعملية التنزيل قد تصحبها بعض الزلات في بعض المراحل؛ فإذا وقع شيء من ذلك وجب التفريق بين الحكم الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(فصلت: 42)، وبين الفهم البشري في بعض التنزيلات لأن التنزيل لا يمتلك العصمة والقدسية؛ فعملية التنزيل تدخلها عملية الاجتهاد البشري الذي يجري عليها الخطأ والصواب، وبذلك تبقى تلك التنزيلات خاضعة دائما للنقد والمشاورة والتقويم والمراجعة. وأي محاولة؛ لادعاء العصمة والصواب المطلق الذي يتأبى على النقد والمراجعة، في الفهم أو التطبيق؛ فإن ذلك خللا في الفهم ويناقض طبيعة التنزيل القابلة للمراجعة والتعديل والتبديل والإضافة والإلغاء.. مع الإشارة إلى أن صوابية الحكم وعصمته لا تعني بالضرورة صوابية التنزيل؛ سيما إذا لم تراع المتغيرات الزمانية والمكانية والإمكانية. والبديل عن الاجتهاد الفردي في التنزيل اعتماد التنزيل الجماعي من مجتهدي الأمة؛ ذلك: أن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها صلى الله عليه و سلم معصوم وما اجتمعت عليه الأمة له العصمة كذلك؛ كما قد تقرر. التدرج في التطبيق: ولعل أول ما يمكن أخذه بعين الاعتبار في التطبيق مرحلة التدرج، وأمثلة ذلك في التشريع الإسلامي كثيرة، يتجلى ذلك في مواصفات خطاب وتكاليف الشريعة بين المكي والمدني، وبين النصر والهزيمة، مراعيا ظروف كل مرحلة، وغير ذلك من التدرجات التي يفهم من خلالها أن الحكم الشرعي والتكليف كان دائما منوطا بالاستطاعة، لكنها استطاعة تعني بذل كل ما في الوسع للتطبيق وليس الاحتجاج بها للهروب من المسؤولية، والظروف والحيثيات هي التي تحدد طبيعة التنزيل وقد تستدعي حكما من أواخر ما نزل في القرآن، وأن حالة من الاستطاعة أخرى قد تستدعي حكما من أوائل ما نزل. فنقد عملية التنزيل ومراجعتها لا يعني نقد الحكم، سواء كان النقد ذاتيا أو من (الآخر) الذي يؤمن بالشريعة، باعتبارها روح الحياة المتدفقة ودليل امتداد وصلاحية التنزيل، وسبيل التسديد والرشد. ولا بد من التأكيد أن عمليات النقد والتقويم والمراجعة للتنزيل والتطبيق لا تعني الرجوع والنقض من أجل الإلغاء، وليست سهاما طائشة تصدر من غير الرماة، ولا هي نوع من العبث والتشهي، وإنما هي مجهودات ذهنية واجتهادات شرعية محكومة بمناهج وضوابط وآداب تصدر ممن له أهلية النقد والمراجعة من علماء الشرعة والملة، وفق ما أقره العلماء في شروط الاجتهاد. فقه التنزيل... لا فقه التنازل: والحركات الإسلامية بتعاملها مع تطبيق الشريعة وتنزيلها لابد أن تثبت على ما يميزها من أحكام في سائر الظروف والأحوال وبعض التنازلات التي قد تعتبر تنزيلات تعد نكسة للوراء وتفقد لهذه الحركات رصيدها المعنوي، لذلك نقول: إن الذين يحولون دون تطبيق أحكام الإسلام على المجتمع بحجة ضرورة تأهيل المجتمع ليصبح محلا لتنزيل الشريعة، وأنه بواقعه الحالي لا يمكن تنزيل أحكام الإسلام عليه، يقعون في مزالق وأخطاء؛ منها: أن الإسلام لا يفترض شكلا اجتماعيا مسبقا ليكون محل خطابه وتنزيل أحكامه، بل يبدأ مع المجتمع والإنسان من حيث هو، فينزل عليه الأحكام المناسبة لاستطاعته. وبهذا إذا توازت الاستطاعات مع الأحكام، وتنزلت على قدرها، يكون تطبيق الشريعة قد طبق في هذه المرحلة حسب الاستطاعة، وهكذا يترقى ويتدرج التنزيل والتطبيق في ضوء التدرج والارتقاء حسب الاستطاعات والقدرات والإمكانات؛ لأن الأحكام الخارجة عن الاستطاعة لا يقع التكليف بها. والأحكام الإسلامية في الفترات الأولى من حياة المجتمع المسلم لم تغب لحظة واحدة من مسيرة الدعوة، وإنما كانت حاضرة منسجمة مع الإمكانات والاستطاعات المتوفرة في كل المراحل.. وقد مر المجتمع المسلم في مراحله الأولى بمراحل متعددة، وكان لكل حالة أو مرحلة أحكامها، واستطاعتها وحكمها وتكليفها. لذلك فالانتظار لتحضير المجتمع لتطبيق الشريعة جهل بسبل التغيير الاجتماعي في المجتمع، وجهل بأحكام الشريعة، وفي آليات التنزيل، وأبعاد التكليف، وفقه الحالة والمرحلة. ومن تلك الأخطاء أيضا: الادعاء بضرورة تأهيل المجتمع لتنزيل أحكام الشرع عليه، إذ كيف يمكن أن تؤهل المجتمعات بقوانين ومبادئ وثقافات ودعوات ومناهج ليست إسلامية ابتداء لتكون محلا لتنزيل أحكام الإسلام ؟، فالمجتمعات التي تؤهل بغير القيم والمبادئ الإسلامية لا يمكن بحال أن تقبل تنزيل أحكام الدين، لأنها تربت على قيم أخرى مناقضة ومستوردة من تربة غير تربيتها. وجدير بالتنبيه أن تطبيق الشريعة يقع ضمن الوسع والإمكان البشري، إذ لا يمكن عقلا ولا واقعا تكليف الإنسان بما لا يطيق...؛ فالتكليف لا يمكن أن يتجاوز حدود الطاقة البشرية بظروفها وحيثياتها المختلفة، من أدنى الواجبات إلى أعلاها. وأثناء التنزيل والتطبيق حتى لو بدت لنا صعوبة ومشقة بعض الأحكام أحيانا في النتائج العاجلة فلا نلبث أن ندرك آثارها الحميدة في العواقب، والعبرة بالعواقب والمآلات دائما؛ فلابد من الصبر والتدرج؛ ولذلك لما استعجل الصحابة رضوان الله عليهم بعض الأمور، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «...والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» (صحيح البخاري، حديث: 6943). والتنزيل في ظل الظروف الحالية لا يعني تنزيل كل الأحكام ابتداء وإن كان ذلك الكل مطلوبا، وإنما يعني في الظروف الحالية استكمال تنزيل ما بقي من الأحكام ضمن نطاق الاستطاعة، شريطة توفر تصور كامل لتنزيلها كلها والعزيمة على بلوغها، وهذا لا يعني انتقاء الأحكام، ولا ممارسة التجزيء والإيمان ببعض والكفر بالبعض الآخر، وإنما يعني التصور الكامل لأبعاد التكليف ومن ثم تحديد الممكن وصولا إلى الغرض المقصود الذي هو التطبيق الكلي. وتطبيق الشريعة اليوم شبيه بالمسيرة الإسلامية منذ بدء الوحي، التي مرت بحالات متعددة ومتدرجة، فإذا استنفدت الحركات والأحزاب الإسلامية استطاعتها فقد أبرأت ذمتها، وطبقت المقدور عليه بالنسبة لها في هذه الحالة وهذه الاستطاعة. ويبقى ما وراء ذلك ميدانا للارتقاء والنمو والصعود وتطوير الإمكانات ورؤية المقاصد والأهداف النهائية. أما الفوضى في التطبيق وغياب تقدير الاستطاعات، واختلاط الإمكانات بالأمنيات، فقد كلف العمل الإسلامي -ولا يزال- الأثمان الباهظة، نتيجة للحسابات الخاطئة والمجازفات غير المبصرة. فالحركات والأحزاب الإسلامية مسؤولة عن إنقاذ المجتمع، ومعالجة أمراضه وعلله، والتحول والنهوض به إلى الصلاح ولن يتحقق ذلك إلا يتنزيل شرع الله الذي فيه صلاح العباد في العاجل والآجل، والاكتفاء بإدانة وشجب الحالة لا تقدم حلا منقذا، وسبيل الخلاص هو مباشرة التطبيق، والتبصر بكيفية التنزيل، في كل مرحلة، ليشكل ذلك أسسا ولبنات للارتقاء بها إلى لبنات أخرى ليكتمل البناء. ولن يتم ذلك كله ويتحقق إلا إذا تولاه أهله من المتفقهين في شريعة رب العالمين، ذلك أن أي تنزيل يتولاه غير القادرين فمآله الفشل والخبط العشواء، فنظن بذلك أننا نصلح ونحن نفسد «فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء طالبين للشفاء؛ كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي إكبابا على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم» (الموافقات، ج:1، ص: 171). فحينما نعتقد أن شريعة الإسلام واقعية، معنى ذلك أنها قابلة للتطبيق والتنزيل في واقع الناس، وليست مثالية خيالية بعيدة عن إمكانية التطبيق، ذلك أن تطبيقها في مختلف مراحل التاريخ تحققت من خلال العزم على الفكر والفعل، والنظريات المقترنة بالتطبيق، كما أن كلمة واقعية تعني البدء والانطلاق من الواقع وأخذه بعين الاعتبار في عملية الإصلاح، وعدم تجاهله والقفز عليه. [email protected]