أكد الدكتور محمد بولوز المشرف التربوي لحركة التوحيد والإصلاح وعضو اللجنة العلمية المركزية أن الندوة العلمية «فقه التدرج مجالاته ضوابطه ومحاذيره» المنظمة السبت الماضي بقاعة المحاضرات والندوات بمقر الحركة لجهة الوسط بالدار البيضاء ، تتوخى إطلاق حركية فكرية وعلمية داخل الصف الحركي ، وتأطير الصف الداخلي بإشاعة فقه التنزيل ، وإشراك الطاقات المحلية في هذه المواضيع، وترشيد الفهم. وتدخل هذه الندوة في إطار يتضمن أربع ندوات مبرمجة: فقه الولويات، وفقه الموازنات، وفقه التنزيل. واللجنة العلمية يضيف محمد بولوز تسعى لرصد أهم التحديات التي تواجه التجربة المغربية والتحولات، والوقوف على الانتظارات، والاختلالات، والسؤال المطروح ما هي معالم فقه التدرج؟ وما هي تجلياته في الخلق والتشريع والتاريخ العملي للإصلاح؟ وهل سنة التدرج انتهت مع كمال الشريعة أم يمكن البناء من جديد بتدرج مدروس؟ أو بصيغة أخرى هل يمكن الحديث عن التدرج مع قوله تعالى: }اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا{؟ وما هي صور التدرج الممكنة والمقبولة شرعا، وما هي القواعد الحاكمة لهذا الأمر؟ وهل للمعرفة والاقتناع والقبول، ومسألة القدرة والاستطاعة ومآلات التطبيق دخل في التدرج؟ وما هي سبل بث فقه التدرج وإحيائه؟.. وقد تناول د محمد بولوز بالتحليل مفهوم فقه التدرج: التدرج سنة كونية قال تعالى في خلق السماوات والأرض: }وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء{، وهو سبحانه يعلم خلقه الرفق والتدرج رغم قدرته على قوله للشيء كن فيكون. وكذلك الشأن في خلق آدم وذريته من بعده، قال تعالى: }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14){. التدرج سنة شرعية شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون التدرج والتطور سنة مطردة في مسيرة الشرائع السماوية، فمع وحدة الدين كان تدرج وتطور في الشرائع والأحكام بحسب ما يقتضيه تطور وتنوع حياة الإنسان واختلاف أحوالها. وفي الشريعة الخاتمة كان التدرج سنة مطردة ومرعية. وفي الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت»إنما نزل أول ما نزل منه سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدًا» وهذا التدرج شمل العبادات كما هو الشأن في مختلف الأحكام والمعاملات، فالصلاة بصورتها التامة والحالية اكتملت فريضتها ليلة الإسراء والمعراج في السنة الثانية قبل الهجرة، الحادية عشرة من البعثة. والصوم فرض بالمدينة وكذلك الزكاة والحج إلى بيت الله الحرام. وفي غير العبادات طبق نظام المواريث في السنة الثالثة للهجرة، أي بعد ستة عشر عاماً من بدء الوحي. والنظام الإسلامي للأسرة من الزواج والطلاق والنفقة وسائر أحكامها اكتمل تشريعه وتطبيقه في السنة السابعة للهجرة، أي عبر عشرين عاماً من بدء الوحي. والقوانين الجنائية تدرج تشريعها وتطبيقها مادة مادة، حتى اكتملت في السنة الثامنة للهجرة، أي عبر واحد وعشرين عاماً من عمر الوحي الخاتم. وتدرجت أحكام الخمر من الذم لها والتحذير منها إلى التحريم القاطع والنهائي لها في السنة الثامنة للهجرة، أي في العام الواحد والعشرين من بدء الوحي. وكان تحريم الربا في السنة التاسعة للهجرة، وذلك بعد أن تخلّق في الواقع الإسلامي للمجتمع الجديد والأمة الوليدة اقتصاد إسلامي بديل حلّ محل الاقتصاد الجاهلي القديم. وعند ذلك أصبح تطبيق الفلسفة الجديدة للنظام اللاربوي ومعاملاته أمراً ممكناً. التدرج سنة تاريخية فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم صبر ثلاثة عشر عامًا في مكة على الأصنام وعبادها، فكان يصلي بالمسجد الحرام، ويطوف بالكعبة وفيها وحولها ثلاثمائة وستون صنمًا، بل وطاف في السنة السابعة من الهجرة مع أصحابه في عمرة القضاء، وهو يراها ولا يَمَسها، حتى حان الأجل وأتى الوقت المناسب يوم الفتح حيث تيقن من سقوط شأنها من قلوب الناس فحطَّمها وخلص بيت الله من رجسها. وهناك أمور لم يفعلها بالمرة لعدم توفر ظروفها المناسبة مثل ما صح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة». وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي جاء بعد تغير الأوضاع عما كان في حقبة النبوة وعهد الخلفاء الراشدين فسلك بالناس سبيل التدرج ودافع عن هذا المنهاج في التغيير في حواره مع ابنه عبد الملك الذي كان يتعجل التغيير والإصلاح فقال لأبيه: «يا أبت، ما لك لا تنفذ في الأمور؟! فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور!»، فرد عليه عمر بن عبد العزيز، بحكمة رجل الدولة وخبير الإصلاح والفقيه في سنة التغيير التدريجي قائلاً: «لا تعجل يا بني! فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدَعوه وتكونَ فتنة» وروي عنه قوله «لو أقمت فيكم خمسين عامًا ما استكملت فيكم العدل، إني لأريد الأمر وأخاف أن لا تحمله قلوبكم، فأخرج معه طمعًا من الدنيا، فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا». وروي عنه قوله: «ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئًا». وسئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقيق العجم، يُشترون في شهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون؟ فقال: أرى أن يُطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه». يقول ابن تيمية رحمه الله:»فالواجب على المسلم أن يجتهد وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار». فقه التدرج شرط لازم لاجتهاد التطبيق والتنزيل قرر العلماء جملة من القواعد كان من وراء تقريرها واعتمادها فقه التدرج من ذلك: أن إزالة المنكر إذا ترتب عليه منكر أكبر منه وجب السكوت عنه حتى تتغير الأحوال. وقولهم :لا يدفع فساد بأفسد منه. والضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه بل يزال بالمعروف والضرر الأخف.وقال القرافي رحمه الله»يشترط في خطاب التكليف علم المكلف وقدرته على ذلك الفعل»، وقال ابن حزم: «فأما ما عجز عنه فساقط، وأما ما لم يعجز عنه فباقٍ على وجوب الطاعة له». وقد صاغ القرافي قاعدة على ذلك فقال «والقاعدة أن المتعذِّر يسقط اعتباره، والممكن يستصحب فيه التكليف». ووقف الدكتور أحمد كافي في مداخلته على مجالات التدرج، واعتبر التدرج أصلا من أصول الشريعة الإسلامية في الخلق والأمر قال تعالى « ألا له الخلق والأمر « وأمر الله صار على نفس السنة الشرعية ، والتدرج في الدين جاء خلاف كل الملل التي سبقت الأديان، وبين مضمون قاعدة «لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة». وأبرز أن الإشكال هو هل المجتمع مستعد لقبول الاختيارات ، والمفروض على المصلح أن يحارب الفساد في حدود المستطاع، وقد يكون بإمكانه في زمن معين توقيف الفساد ولا يتعداه لغيره، يوقفه وهذا حصل مع النجاشي وغيره، وأبرز أن الفساد نوعان فساد معمر له تاريخ وجذور، وفساد حادث، ووجب استحضار نوعية الفساد وتاريخيته، وبين أن أصل التدرج دليل على الذكاء، ووسيلة للبحث عن الإمكانات المتاحة ، وسبب لتحصيل منافع، وختم بأن فقه التدرج فيه جواب نفسية. الدكتور عبد الرحمان العمراني عضو اللجنة العلمية المركزية تحدث عن قواعد فقه التدرج وضابطه ومحاذيره، وبين أن فقه التدرج يدخل في فقه إنجاز المشروع الإسلامي، وأبرز أن فقه الإنجاز له مراحل، مرحلة الفهم، فهم الأحكام الشرعية في حقيقتها، وصياغة هذه الأحكام، وفي مرحلة ثالثة: التتنزيل، ومن أهم شروطه الوعي والإقناع، والقواعد والضوابط والمحاذير كلها تستخرج من السيرة النبوية، كما دعا إلى ضرورة تحرير المصطلح، فالتدرج لا يعني التباطؤ كي لا تضيع الأحكام والفرص تحت ذريعة فقه التدرج . وفقه التدرج مرتبط بالعمل ، ومسايرة الحوادث ، وفقه التدرج منهج يطبقه الفرد كما تطبقه الجماعة، ووقف الدكتور العمراني على قاعدة واحدة «ما لايدرك كله لا يترك جله، وبالنسبة للمحاذير وقف عند: البدء بالأدنى عوض التفكير في البدء بالأعلى، وعدم الاستعجال في قطف الثمرة، وعدم السقوط في الغرور إما لكثرة الأعضاء أو للحماسة الجماهيرية. وتلت هذه الأرضية مناقشة علمية من طرف المشاركين طورت النقاش ودعت إلى تعميقه كي ترقى الندوة إلى مشروع علمي متكامل . وحضر الندوة بعض أعضاء مكتب جهة الوسط لحركة التوحيد والإصلاح، وبعض مسؤولي المناطق وفاعلون جمعويون ، وبعض مسؤولي التخصصات. رئيس القسم الثقافي لحركة التوحيد والإصلاح جهة الوسط