يبدو أن التنوير يمثل تحديا حضاريا أمامنا اليوم، هل تعتقد ذلك ؟ بل يمثل تحديا حضاريا قبل اليوم، فلقد كان دائما حاضرا فينا أقصد في النخب الفكرية والسياسية، إلا أن الراهنية التي يمكن أن يتميز بها اليوم، هي إلى أي حد يمكن أن تتسع رقعته ويمتد مداه في المجتمع، بمختلف البنى والأنساق والعلائق والقيم ؟ ما هي المهام التي تندرج تحت مطلب التنوير اليوم ؟ هل هي رفع الوصاية على العقل البشري كما قال كانط والخروج بالإنسانية من حالة القصور ؟ أم إرساء علاقة نقدية بالذات ؟ أم بناء تصور تحرري للإنسان ؟ هي كل هذه المطالب، التي تبدو متشابكة ومتداخلة بل ومتكاملة، بل أكثر من هذه المطالب: النقد الذي لا يشمل الذات فقط، بل الغير أيضا وليس النقد فقط، لأن المعارضات قامت بهذا النقد، بل ينبغي البحث عن الميتا-نقد، وهو كنقد من درجة ثانية (2? degrés)، من أجل خلخلة الوعي الثقافي لدى الإنسان، خاصة الإنسان هنا والآن، الذي ما زال يعتبر كل عملية نقدية هي بمثابة شغب، سواء تجاه الدولة أو تجاه الجماعات والأحزاب التي تزعم التغيير، وتزعم التنوير أيضا، لأن التنوير بدوره (التنوير الدوغمائي) قد يصبح إيديولوجيا مفرملة للتطور والانعتاق... كيف يمكن أن نتصور اشتغالا سياسيا لمفعول التنوير ؟ هل بتحصين المجال السياسي من الالتباس بالحقل الديني ؟ أم بالفصل بين المجال العمومي والمجال الخاص ؟ أم بجعل الدولة راعيا رسميا للتنوير ؟ لعل هذه الطروحات، تشكل المبادئ الكبرى للحداثة السياسية والاجتماعية، باعتبار أن العقل هو سيد تفسير العالم دون سواه، وبعمليات الفصل بين الفضاء الخاص والفضاء العام إلى أن تصير الدولة تسهر على تطبيق هذه السياسة، وفق آليات وتدابير يرسيها المجتمع، وفي هذا الاتجاه، نريد أن ننوه بأن الثورات العربية أو الثورات الربيعية، عملت على تأسيس ومأسسة الدولة الديمقراطية في شقها السياسي (الانتخاب النزيه، احترام الاختلاف، الكرامة الحرية، العدالة... الخ) وأما الحداثة في شقها الفكري والفلسفي، باعتبارها رؤيا عقلية للإنسان تجاه العالم، أو أن الإنسان مركز العالم، فهذه الانعطافة ما زالت بعيدة، ما زالت مثار نقاش، إيديو- فكري، حول مفهوم الدولة الدينية والدولة المدنية، ما زال النقاش جاريا... في المجتمعات العربية، يمثل تقديس النص، وتحويله إلى مرجع للوجود، عقبة أساسية في وجه التنوير هل ترون اقتحام هذه العقبة شرط أساسي لتدشين مشروع التنوير ؟ أعتقد بأنه ليس تقديس النص في حد ذاته مشكلة، بل تقديس قراءة المقدس وتفسيره وتأويله، وفق منظور اللامقدس طبقا لرؤية جماعة تزعم امتلاك اليقين.. ومن هنا ينبغي التمييز بين المستويين : ما بين قراءة تقديسية للمقدس، وما بين تقديس النص، والفرق شاسع بينهما خاصة بالنسبة للإنسان، هنا والآن والذي لا ينبغي ولا يجوز أن نخدش أمنه الروحي، كما لا يجوز أن نخدش أمنه في هذا العالم، من حيث إشاعة الديمقراطية والعدالة والكرامة والحرية والتنمية... ولعل هذا هو أكبر درس للعلمانية، فهي لا تحرم الإنسان من المعتقد، بل فقط تميز بين المجال الديني والسياسي، ولهذا فبعض المجتمعات المسلمة كتركيا مثلا، التي استطاعت أن تفصل بين المجالين دون أن تكون عداوة بينهما، لأن العلماني (كمنهج) لا يعني أنه غير مسلم (كمعتقد)، حيث يمكن الحديث حقا عن علمانية مسلمة، علمانية على صعيد المنهج السياسي، لكنها مسلمة في الأغلب ويهودية أو مسيحية في الأقل، على صعيد المعتقد الديني في الشعائر والحياة الخاصة، ولعل المعتقد هو من أكبر مكونات الحقوق الفردية، إن لم نقل هو عنوانها. هل توافقون تودوروف في رأيه الذي عبر عنه في كتاب « روح الأنوار» والذي يقول أن التنوير مهمة لا نهاية لها ؟ نعم إن التنوير درس لا ينتهي، فالبشرية تجتهد دوما، من أجل رفاهيتها وتقدمها وسعادتها، لأني أعتقد بأن خطاب النهايات الذي ازدهر في الحياة الفكرية الإنسانية، كنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ونهاية المؤلف، ونهاية المثقف...، وغيرها من النهايات ليس إلا خطابا في تمرين العقل من أجل الإبداع والدينامية الفكرية المستمرة، ها هنا يمكن الحديث على لا نهائية ثقافة السؤال. هل تعتقد أن التنمية بدون تنوير إستراتيجية عمياء، أدت في المجتمعات العربية إلى نتائج كارثية ؟ لا شك أن ثمة علاقة مثمرة بين الخطابين التنموي والتنويري، وأن الجدل قائم بينهما حتى ولو بدت التنمية بأنها تنتمي إلى عالم الاقتصاد، لكن المؤكد بأن الحداثة خطاب كلي يصعب الفصل بين مفاصله ومكوناته... من أي مدخل يمكن تدشين أفق عربي للتنوير هل من الدين أم الفن أم الفلسفة ؟ من كل هذه الآفاق، فبالفلسفة نقدم دروسا في الفكر سواء كأداة (العقل) أو كمحتوى (التفكير) وبالفن نقدم أهم درس في الحرية والجمال باعتبارهما قيمتان جوهريتان في حياة الإنسان، وكذلك من الدين، باعتبار الدين من أولويات الأمن الروحي للإنسان، دون أن يكون فرملة نحو تطوره وتقدمه وازدهاره. إنه الأفق الإنساني الرحب، وليس حصرا على هذا التخصيص (العربي) الذي يجعل التفكير معاقا أمام إشراطات من قبيل العرق أو الاثنية أو اللغة أو الدين... فالحداثة درس كوني ولا شك، والخصوصيات خطابات في التفاصيل، بعيدا عن عداءات الشموليات، شموليات الحق الإنساني في الوجود والحياة.