إلى نعيمة المشرقي 1 - فقد التاريخ الثقافي السينمائي المصري العربي العميق، بوفاة ورحيل الممثلة المبدعة الراقية الوديعة السيدة فاتن حمامة (27 ماي 1931)، يوم الأربعاء 17 يناير 2015، علامة فنية بارزةً ورمزاً من رموز الفعل والأثر المتواصلين، منذ أكثر من ستة عقود، لمنح الثقافة السينمائية العربية حقّ الوجود في العالم بكل ما يعنيه الوجود من حضور وتراكم ومسؤولية للإقناع بالهوية وحضارة الإبداع. الفقيدة الراحلة، شأنها في ذلك شأن تحية كاريوكا وأمينة رزق وهند رستم ومريم فخر الدين ومحسنة توفيق ومديحة يُسرى وليلى فوزي وشادية وزبيدة ثروت ونادية لطفي، كانت نجمةً ساطعة بالفعل في سينما مصر العربية التي دشنت على مدى قرابة قرنٍ من الزمن، إلى جانب الكتابة الفكرية والإبداعية والمسرح والموسيقى والغناء والرّقص والتشكيل والنحّت، بعد النهضة، أفقاً متعدّد الأبعاد ساهم فيه الكثير من المفكرين والكتاب والمبدعين والفنانين وتمكن المصريون، بفضل مجهوداتهم الفردية والجماعية، من جعل مصر تقود العالم العربي، منفتحاً على ثقافة البحر الأبيض المتوسط وأوربا وأمريكا للتعبير، قبل الحربين الكونيتين وبعدهما، عن رغبة الانعتاق والخروج من دائرة الانطواء والفراغ والتخلّف وخلق مناخات التحرّر الثقافي والاجتماعي والسياسي. إن فقدان ورحيل فنانة كبيرة من عيار السيدة فاتن حمامة لا يمكن أن يكونا مجرّد غياب عادي في خضم ما يعيش العالم العربي على إيقاعه من خسارات لا تعدّ ولا تُحصى، بل لحظة من لحظات تأمل الواقع الثقافي والفني في هذا العالم الذي يسير حتماً إلى حتفه نتيجة ما يحدث في الدين والسياسة والاقتصاد، وفي الفن والإبداع نتيجة ذلك وتبعاً له بخطى سريعة تقود إلى الهاوية لا مِراء في ذلك بأدلة وبراهين كاشفة في مقدمتها تسويق الدين وتسليع الإيديولوجيا وقبر الحرية وتنشيط ثقافة العنف والتحريم والكبت والمراقبة، وكلها وسواها تقف حاجزاً دون إمكان التحرر من قيود الميتافزيقا المعلّبة التي تحاصر حق الوجود، ولعل هذا، كل هذا وغيره، هو ما يتحكّم في تراجع الثقافة العربية بالمعنى الوظيفي التداولي. أتحدث هنا عن »ثقافة التأسيس« التي أعقبت »ثقافة النهضة« في الشام (سوريا، لبنان، فلسطين) وفي مصر والعراق والمغرب، خاصة منها الثقافة الفنية الجمالية في المسرح والسينما والغناء والموسيقى والنحت والتشكيل. الثقافة التي خاطبت، على مدى عقود، الإحساس والذوق والأذن والعين والجسد بشفافية مُرْهَفَةٍ وبحرصٍ تربوي نفاذ، كما خاطبت الوجدان بمعناه الإنساني العاطفي البسيط والمركّب، ووفرت إمكانات الاغتراف من خزان المتخيل العربي الواسع باستدعاء الذاكرة التراثية المشتركة، كما خاطبت العقل، وهذا هو الأساس. 2 - كل هذا عاشتْه الفقيدة الراحلة المجيدة وحولها من حولها من أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وألفريد فرج ونعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد العظيم أنيس، ومحمود أمين العالم وسهير القلماوي ولطيفة الزيات وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ثم حولها من حولها من الممثلات والممثلين والمخرجين والمطربين والمغنين والملحنين والعازفين وكتاب الكلمات والشعراء ممن لا حد لهم عندما نتأمل، و لو قليلا، حياة فاتن حمامة، الفنانة المصرية العربية الأصيلة، مرتبطة بحياتنا الفنية الثقافية في المشاهدة والفرجة والإصغاء، لاننا باعتبار جيلي وجيل من سبق كنا نعيشه، ولو قليلا مرة أخرى، عاشته هي في القاهرة وعشناه نحن في بغداد ودمشق وبيروت والقدس ويافا وحيفا، وفي طرابلس الغرب، في تونس والجزائر، في الرباط وطنجة والدار البيضاء، في سلا وفاس ومكناس ووجدة عندما كان العالم العربي أكبر من خريطة وأوسع من تاريخ يحال الآن على المعاش في دار خربة دامسة يحرسها أمثال المغيرة بن شعبة. كان العالم العربي قبل عقود عالما آخري يموج برغبة الخروج من قمقم ما، كان يتوق إلى أبعد مما تهجاه (حي بن يقظان) واهتدى إليه معكوسا عما أراده وأصبح مجرد تابع للمغيرة، وكانت المجتمعات العربية تفور بالأسئلة وتحفل بدينامية التحول من الانغلاق إلى ضفة أمل في جعل الإنسان العربي، بلغته ومتيخله وتراثه ونصوصه وكتابته، كائنا حضاريا مبدعا ينعم بالتحديث والتجديد دون ارتداد عن أصالته وعما يملكه من زخم تاريخي في الفن والإبداع والفكر والثقافة، لكن السياسة، بالمعنى الشقي، قتلت كل شيء، السياسة العقيمة الجوفاء المتحجرة وأشياء أخرى ليس هنا، في سياق مثل هذا، مجال للتفضيل فيه وإن كان واردا وملزما قتلت ماكان يحرك الرغبة في الوجود، قتلت حق الحياة المشرعة على الحب والأمان والمعرفة وحولت كل شيء الى رماد. 3 - مثل هذا الرماد هو الذي يحاصرني (نا) الآن، وأنا أعني جيلي وأجيال سبقت (ني، نا) أتأمل (نتأمل) حياة فقيدتنا الراحلة السيدة فاتن حمامة، سيدة الشاشة العربية بامتياز دون أن نتغاضى عن حق فنانات عربيات أخريات حقهن في جعل الفن العربي، في السينما والمسرح والكتابة، فنا عربيا أصيلا، فنذكر هنا الفنانات فيروز، منى واصف، نضال الأشقر، جليلة بكار، صونيا، ثريا جبران، نعيمة المشرقي، وفاطمة الرجراجي، دون أن ننسى الكاتبات مي زيادة، غادة السمان، ليلى بعلبكي، رضوى عاشور، التي رحلت أخيرا وتركت غصة في حلق مريد البرغوثي وتميم، هدى بركات، فاطمة الراوي، زينب فهمي، خناثة بنونة، مليكة العاصمي.. لن أشبهك "يافاتن" غائبة عنا الآن - حاضرة فينا إلى الأبد، ب"مارلين، ديتريش" ولا ب "ميشيل مورغان" أو "أنوك إيمي" أو "سيمون سينوري" أو "ميلينا ميركوري" و"إيرين باباس" و"كلوديا كاردينالي" و"ميريل ستريب" و" إيما توميسون" و"سوزان ساراندون"، سأشبهك فقط بما كنت عليه، أنت كما كنت وكما أنت، جميلة، أنيقة، في مسحة من الحزن الشفاف، في عينيك، في بسمتك الوضاءة، في ضحكاتك الخافتة، في خطوك الرشيق وفي هشاشتك المتوارية خلف جديتك الموحية بألف غموض ثم بنرفزتك التي تجعل من يقف أمامك وأنت تقدمين عصارة ما فيك، في هدوء تام، يتوارى ليجعلك بالفعل أيقونة من أيقونات زمن جميل كالذي يرثيه - رثاه أحمد عبد المعطي حجازي غير مرة وفي ذص »"مسافر« أبدأّ" »بالذات. زمنك يا فاتن هو زمن جمال عبد الناصر وزمن يحيى شاهين وعماد حمدي وأحمد مظهر ورشدي أباظة، وكذك زمن حسن يوسف وأحمد رمزي وعبد الوارث عسر، ثم زمن عبد الله غيث وحمدي غيث، زمن عبد المنعم إبراهيم وعبد المنعم مذبولي، زمن سميحة أيوب ومديحة كامل، وكذلك زمن فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد وماهر العطار، زمن محمود المليجي، زمن محمود مرسي، زمن عمر الشريف الذي أحدث انفصالكما عن بعضهكما صدمة لنا. رحل هو إلى مصيره وبقيت أنت حاضرة فينا، لكن طارقا، ابنكما، ظل في وجداننا رمزا لحب بعيد الغور جعلنا نعتبرك، هنا في المغرب، منا، من أسرتنا الفنية التي شيدناها بفضل ما قدمته لنا من روائع سينمائية لن يجود بها الزمن الثقافي الإبداعي الغني الجمالي إلا في حدود تمثل ما كان عليه العالم العربي وما هو عليه الآن من خرابات وصلت العظم بفعل السيف والدم والذبح وإتلاف العمران والوجدان. هل تعلمين، سيدتي، أنك في المغرب كنت أكثر من رمز ومن علامة؟ الفتيات - النساء المغربيات، في المدن، بعد الاستقلال، كن يقلدنك في تسريحة شعرك ولباسك وحركاتك وخطواتك وحتى صوتك أحيانا. "كنت فين يا وحيد؟". «مالك يا وحيد؟" كن يقلدنك ويقلدن لبنى عبد العزيز، أما الشقراوات فيملن إلى نادية لطفي، ثم دخلت ميرفت أمين حلبة السباق، كما دخلت شادية ومها صبري، بفضل الصوت، بعد السيدة أم كلثوم واسمهان، حلبة أخرى وصلت، مع عزيزة جلال وسمية قيصر، إلى التماهي مع كوكب الشرق واسمهان نفسها. صوتك، يا سيدي، أكبر من أن يقلص العلاقة بين مصر والمغرب إلى ما تسعى أطراف إلى نفسها بكل بساطة، وعندما ترحلين الآن ونستحضر حضورك العميق، فإننا نؤكد مدى ما تمثله مصر الثقافية والفكرية والفنية لدينا، نحن المغاربة أقصد من وزن لا يعرفه إلا الذين خبروا الحياة المصرية من داخلها ومن خلال مفكريها وكتابها ومبدعيها وفنانيها ممن ذكرتهم وممن لا يمكن حصر مآثرتهم وإنجازاتهم في لحظة حزينة مكللة بالسواد، وأنت سيدي تودعين وترحلين عن عالمنا العربي المنهار على وقع الدمار والخراب وثقافة العنف والمحو، والانغلاق والإتلاف. رحمك الله، سيدتي، رحمك الله، وعزاؤنا إلى مصر، إلى كل المصريين..