للحديث، هُنا والآن، عن شِعْر الزّجل المغربي وراهنيتّه، يتعيّن العوْدةُ إلى مسارٍ طويل. قد تكونُ بدايتُه الأوُلى تلك اللحظةُ التي تقدّم فيها طالبٌ مغربي، لم يبلغ آنئِذٍ العِقد الثّالث من عُمره، واسمُه عباس الجِراري لمناقشةِ أطروحتِه الجامعية بِكلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة، حيثُ اختار أنْ يجعل لها عُنوانا رئيسيّا هو «الزجل في المغرب» ثم عنوانا فرعيًا هو « القْصيدة»، على اعتبار أنّ الملحُون ليس إلاّ أحد تجليّات الزّجل بعد أن تمّ توطينُه في مُناخٍ وتربةٍ ثقافية مغربية، ستجعلُ منه ديوانَ المغاربة وسِجّلهم المدنيّ الذي يعكسُ حضارتهم ويكْشفُ ذِهنيتَهم ويُفصِحُ عن وجْدانهم. والواقع أنه لم يكن من الهيّن، أواخر ستّينيات القرن المنصرِم ( 1969)، على طالبٍ قادمٍ من خارج المركز الثقافي، وهو حينئِذ القاهرة، أنْ يُرافعَ على متنٍ شعريٍّ مكتوبٍ بالعاميّة، ويؤكّدَ شِعريته وجدارتَه الأدبية، ويُبرهنَ، أمام لجنةٍ علمية رفيعة، على انتمائِه للحقل الأدبي حتّى وإن كانت اللغة التي كُتِب بها عامية ودارجة. في سنة 1970، ستظهرُ الأطروحةُ المذكُورة ضِمن منشوراتِ مكتبة الأمنية بالرباط، لتشكّل مُناقشتُها وطباعتُها لحظة مفصليّة في تاريخ القصيدة الزجلية المسماة الملحون. سنواتٌ قليلةٌ بعد ذلك، سيظهرُ أوّلُ ديوانٍ زجلي، وهو «رياح… التي ستأتي» للشاعر أحمد لمسيّح، الذي، يمْكنُ اعتبارُه أحدَ التجليّات الشّعرية الأصِيلة لعقد السبعينيّات الموسومِ بأحداثٍ سياسية واجتماعية وثقافية غنيّة، مازال تأثيرُها ممتدّا إلى يومِنا هذا. ففي هذا العِقد ستظهرُ مجموعاتٌ فنيّة شبابية، كناس الغيوان وجيل جيلالة…، حيث سيكونُ بمقدور أشعارٍ مغربية صِرفة أنْ تصافح جمهورا شغُوفا بمُعانقةِ كلّ ما يصِلُه بمخزونِه وتراثه الشّعبي وما يحفلُ به من أنماطِ القوْل والغناء والفُرجة. سيكونُ من ثمرة هذه المرحلة بروزُ مجموعةٍ من شعراء الزجل من مثل العربي باطما، محمد شهرمان، محمد الدرهم ومولاي عبد العزيز الطاهري، الذين كتبوا أزجالا انتصروا فيها لعمُوم القضايا ذات الصّلة بالحُرية والعدل والمساواة بين بني الإنسان. غير بعيدٍ عن هذه الجماعة الأولى، كانت هناك جماعةٌ أخرى من الشعراء، تشكّلت خِلال السّنوات الأولى لاستقلال المغرب،رأت أنّ المغرب الجديد يسْتحِقّ أغنية مغربية تعبّر عن همُومه وأحْلامه وتطلّعاته، وأنّ الاستقلال الذي تمّ عن فرنسا (الغرب) يلزمُه استقلالٌ آخر عن المشرق الذي كان يصنَعُ الذوْق بما يُصدّره من أغانٍّ وفنونٍ مختلفة، تبوأت فيها العاميّة المصرية المكانة المعتبرة. من شُعراء هذه التّجربة، أحمد الطيب لعلج، علي الحداني وحسن المفتي، الذين سيرتبطُ اسمُهم بتاريخ الأغنية المغربية أكثر من ارتباطِه بتاريخ الشّعر المغربي، حيث سيمنحُ كلّ واحد منهم السّعادة والبهجة للإنسان المغربي، الذي تنسّم في أزجال هؤلاء الشعراء تجاربَ حياتيةٍ مسكونةٍ بنبْضِ زمنه وخلجات أفراحه وأتْراحه. أثرى هذا الثلاثيُّ الشعري الزّجل الموجَّه للأغنية، فقد منحَه قصائدَ تحوّلت، من خلال أوتار مُلحنين مُقتدرين، إلى أغانٍ تتردّد على ألسِنة وشفاهِ الناس في المناسبات والأفراح والأعراس، من مثل: «علاش ياغزالي»، و»ما أنا إلا بشر» للشاعر أحمد الطيب لعلج و»مسك الليل»، «ياك أجرحي»، «بارد وسخون» و»قطار الحياة» للشاعر علي الحداني و»مرسول الحب»، و»الثلث الخالي» للشاعر حسن المفتي. والواقع أنّ سبب النجاح الذي حظِيَ به كل من لعلج و الحداني و المفتي يعود لكونهم كتبُوا قصائدَهم من داخِل تجربتهم الإنسانية وفي أفق الرؤية التي امتلكُوها تجاه اللغة والمجتمع والكون، وليس تحت الطلب أو إرغامات سُوق الغناء، وذلك على الرّغم من أنّ هذه الأزجال اقتصرت، في الغالب، مضامينُها على تِيمة العاطفة والحبّ على وجه الخصوص. لنعُد إلى أحمد لمسيّح الذي لم يكنْ،في سبْعينيّات القرن الماضِي، وحيدًا خِلال معرْكته من أجْل إقْرار الحقّ في التّعبير الشّعري بالدّارجة المغربية ضمن ساحة الأدب لا الأغنية، فقد كان هُناك ثلّةٌ من الشّعراء، إلى جانبه، الذين رسمُوا بدورهم للزّجل مسارًا آخر، أفقُه الكِتابة لا الغِناء. أذكرُ مِنهم عبد اللطيف بنيحيى، عبد الله الودّان، ورضوان أفندي، الذين، ولظروفٍ مُرتبطة بالسّياق الاجتماعي والسّياسي لهذه الفترة،كتبُوا أزجالا محكُومة بنفَسٍ شفويّ، وتبنوْا رؤيةً تجعلُ من الزّجل سلاحًا للتّحريض والتّبْشير والإصلاح، وانتصرُوا للشّعار بدل الشّعر. و كيفما كان موقفُنا وموقفُ النقد المغربي من هذه التجربة، فإنها تظل هامة وجديرة بالتأمل والقراءة في سياق شروطها الاجتماعية و السياسية و الثقافية آنئذ. من رحِم السبعينيّات، انطلقَ، إذن، مسارُ الزجل المغربي، حيث تطبّع بروحِ الوطن وقلقِ المواطن. فكانت أزجالُ هذه المرحلة بياناتٍ سياسية، تعِد المظلومَ بالحقّ والحرية، وتتنبّأ للظالم بالبوار و الزّوال. اليوم، يبدُو مشهدُ الزجل المغربي مختلِفا. لقد خفّت تلك الشّفوية والمنبرية التي هيْمنت خلال فترة طويلة على الزّجل، حيث قادتِ الإبدالاتُ المتتالية غالبيةَ الشّعراء الذين واصلُوا مُغامرةَ الكِتابة إلى انْتهاج طرائق في الكتابة تستجيبُ لما يحدثُ في قارة الشّعر المغربي الفصيح، حيث يبدُو شعراءُ الزجل منْشغلين، بما يهجسُ به هذا الشّعر في عمُومه، إنما من داخل زاويةٍ تحفظُ لشِعر العاميّة فرادتَه وخصوصيته. هكذا لاحظنا كيف انصرف بعضُ الزّجالين إلى كِتابة الشّذرة، في سعْيٍ نحو استِثْمار الإمكانات الكتابية التي يُتيحُها هذا الشّكل من إشارةٍ وتكْثيفٍ واعْتمادِ البياض القصيدة الزجلية التي عُرفت بعنايتِها البلاغية ونفَسها الغنائي الطويل. وكأنهم بذلك يستعِيرون العُنوان الأخير للشّاعر أحمد لمسيّح ولسان حالهم يقول: سْطرْ واحدْ يَكْفي. لم يعُدْ شاعِر الزجل اليوم،كما كان الشّاعر التقليدي الذي كتب قصيدة الملحون، أيْ الزجل التقليدي، مَعنيّا بالغرض الشعري ونُدرة الإشارة، بل صار مُنشغلا بالرؤية التي معها تضيقُ العِبارة. لذا، تتجاورُ شذراتُ ريم نجمي مثلا مع ما تكتبُه نهاد بنعكيدا، و تتقاربُ إلماحات عبد الجواد العوفير الشّعرية مع ما يشذّره عادل لطفي من أزجال. من ملامح مشهد الزّجل الحديث، الكتابةُ بصيغة الجمع، كما يتكشّف، ذلك مثلا، في ديوان «دردبة على محلات الكتبة»، حيث نرى كيف دَوْزَن سبعةُ زجالين إيقاعاتهم واستعاراتهم ومجازاتهم من أجل التعبير عن حالٍ كناوي بلغةٍ شعرية مسكُونة بجرحٍ إنساني عميق. على أنّ الكتابة بصيغةِ الجمْع ليست مظهرًا مغربيا فقط، إنها تتجاوزُ الحدود، بل هي تنتصبُ من أجل طمْس الحدُود و إلغائها كما في ديوان «الثلجنار»، الصّادر ضمن منشورات بيت الشعر في المغرب، والذي يقرّب بين تيمتي الثلج والنار، وينسجُ بينهما مسارب شعرية ذات نفس وجودي عميق تؤاخي بين الزجال عادل لطفي (المغرب) والزجال الجزائر عبد الرزاق بوكبة ( الجزائر)، أو كما في ديوان «ويكاند» المشْترك، هو الآخر، بين الزّجاليْن يونس تهوش( المغرب) وتوفيق وامان ( الجزائر)،الذي صَدر عن جغرافيتين فرّقتهما السياسة، لتقرّب بينهما «قصيدة الزجل» في لحظة اختبارها لمعنى الجوار ولنُبل الإنْصاتِ المتبادل والفِعل الشّعري المشترك من أجل إعادة امتلاك الذات والكون؛ وصوْن الصّداقة والأخوّة الشعرية. لقد اختار شُعراء الزّجل، هنا و الآن، أنْ ينتمُوا إلى زمَنِهم الشّعري وإلى ما تراكمَ لدى جيلهم مِن خبراتٍ ومعارفَ استقدموها من عِدّة أمكنة ثقافية وشِعريّة، سيعملُون بها على بِناء تجربتهم الخاصّة التي شيّدت اختلافَها في تماسٍّ مع القصيدة المغربية الحديثة، وهي تُنجزُ تحولاتٍ مَفصلية وتراكمُ أجيالا شعرية بحثاً عن حداثة تتِمّ باللغة وعبرها، وهو ما سيجعلُ مُمثلي هذا التيار في تماهٍ تامّ مع ما يقوم به زملاؤهم شعراء الفصيح، وسيضعهم، بالتالي، في مواجهة حاسمة، ليس مع شِعر الملحون والقصيدة الزجلية الغنائية فحسب، بل وكذلك مع لُغتهم الشّعرية ذاتها ضِمن سيرورة شِعرية مُمتدة في الزمن وفي التجريب. من أبرز مُمثلي هذا التيار الشعري: أحمد لمسيّح، مراد القادري، رضوان أفندي،نهاد بنعكيدا، عبد اللطيف بنيحيى، إدريس المسناوي، محمد موتنا، حميدة بلبالي، بوعزة الصّنعاوي، إدريس بلعطار، محمد عزيز بنسعد، الزهراء الزرييق،عادل لطفي، ثريا القاضي، ميمون الغازي، دليلة فخري، يونس تهوش… إنّ قارئ أزجال هؤلاء الشعراء، سيجِدُ نفسه أمام مُمارسةٍ شعرية فيها الكثير من الجُهد والكدّ الإبداعيين. إنها كِتابة شِعرية تقفُ في مُستوى ما يكتبُه شُعراء الفُصحى أو غيرها من لُغات العالم. طموحُها الاندماجُ في أفُقِ الشّعر الكوني. اللغةُ في قصيدة الزّجل الحديث تكتسِبُ هويّةً شِعرية حديثة، لم يعُدْ معها يُنظر إلى العامّية، بما هي وسيلةٌ للتخاطُب اليومي والتّواصُل بين الناس في الشّارع فحسب، بل بما هي أداةٌ قادرة على شحْن الألفاظ والجُمل بدلالات إيحائية وتأمُّلية، لم تعْهدها من قبل. يحظى الزجلُ، اليوم، بمكانة أدبية مُعتبرة داخل الحقل الثقافي المغربي، فهو أحدُ وجوهِ الشعر المغربي الحديث، الذي لا يغتني بتعدّد مرجِعياته الفكرية وحساسِياته الثقافية والفنيّة فحسب، بل وبتنوّع لغاتِ كتابته وتوزّعِها بين الفصيح والدّارج والأمازيغي والمكتوب بلغاتِ العالم الأخرى، وخاصّة باللغة الفرنسية. وقد تعزّزت هذه المكانة بفضل عنصرين اثنين: العنصر الأول: مرتبطٌ بآلياتِ إنتاج وتلقّي وترويج شِعر الزّجل في المغرب، إذ تُسجّل، في هذا السّياق، المؤشرات التالية: ارتفاعُ وتيرة نشْر الزجل بنِسبٍ لافتة للنظر. وهو الأمر الذي يمكنُ معاينتُه من خِلال ما تطرحُه دورُ النشر المغربية وما تعرضُه رفوفُ المكتبات من عناوين َجديدةٍ للزجل المغربي؛ عبورُ بعض دواوين الزّجل إلى لغاتِ العالم، ومشاركةُ شُعرائه في الكثير من المهرجانات الشعرية الدولية؛ وجودُ الزّجل المغربي في غالبيّة الأنطولوجيات الشّعرية التي أنجزت عن الشّعر المغربي في العديد من جِهات العالم؛ إحداثُ وزارة الثقافة المغربية ابتداء من سنة 2006 لمهرجان وطني سنوي للزجل بمدينة ابن سليمان؛ وشروعُها، من جهة أخرى، في نشْر الأعمال الكاملة لبعض شُعراء الزّجل؛ تأسيسُ هيآت ثقافيةٍ يختصّ نشاطُها بالزّجل؛ إحداثُ مواقع إليكترونية مهتمة بترويج الزجل وتعزيز حضُوره ضمن الفضاء العام؛ انفتاحُ الجامعة المغربية على قصيدة الزجل، وتسجيلُ ومناقشة العديد من الأطاريح الجامعية بكليات الآدب التابعة لها؛ كلّ هذا، منحَ الزّجل المغربي اعترافا رسميا بكوْنه ركنًا من أركانِ الشِعر المغربي، وضِلعا من أضلاعه، وهو ما أفاد الحركة الثقافية والأدبية المغربية، وعزّز بُعدَ التنوع فيها. العنصر الثاني: ويرتبط بجوْهر الكتابة الشّعرية. ذلك أنّ المؤشرات المومإ إليها أعلاه، والواردة ضمن العُنصر الأول، لم تكنْ وحدَها كافية لترسِيخ جُذور الزّجل في تُربة الشّعر المغربي، الأمرُ الذي فطِن له ثلّة من شعراء الزجل المغاربة، الذين أدركوا بخبرتهم الثقافية والمعرفية، خاصة أنّ جُلّهم اسْتفاد من مسارٍ تعليميّ عالٍ ورفيع في مُدرجات الجامعة المغربية، احتكّوا خِلاله بأسْئلة الشّعر المغربي ورهاناته الفكرية والنقدية والجمالية، أنّ إيجاد موْقع قدمٍ لهم تحت دائرة ضوْء الشّعر المغربي، يسْتلزمُ وعيًا نوعيّا بطبيعة كتابة الزجل اليوم والآن، وحرصًا على ضمان نسبٍ له، يصِلُه بالكتابة لا بالشّفوية، التي، سبق لها أنْ سيجّت الزّجل المغربي ورهنَت مُعجَمه ومتخيّله الشّعري واستنزفت طاقاتِه الجمالية والرؤيوية،كان من نتائج ذلك انصرافُ الذّات الشاعرة إلى تبنيّ رؤيا واقعيّة تهدِفُ إلى التّحريض والإصْلاح والتبشير، واعتمادُها للغةٍ تواصلية، هي لغةُ الوقائع والظواهر والشعار بدل الشّعر،والتوضيح بدل التّلميح واسْتِغوار الأسئلة الوجودية الكُبرى الراسمة لعلاقة الإنسان بالكون والوجُود والعالم بدل الممارسة الشّعرية المحكومة بالرؤية الاجتماعية والسياسية. بهذه الرؤية المغايرة، تهيأت للزّجل المغربي ظروفٌ جديدة، نجحَت، في إطارها، العديدُ من الممارسات النصيّة، في تحرير لُغته من البُعد الشّفوي، والانتصار للكتابة، وللغةٍ سيتمّ استقدامُها من المجهول والمستقبل؛ وهو ما أتاح له إقامةَ أواصر مع نسَبِه الممتدّ في الشّعر المغربي المعاصر، وتعْزيز المشترك النصّي والدلالي بين المكوّن العامّي والفصِيح في هذا الشّعر،مع الحِرص، في ذاتِ الآن، على صوْن هويته الخاصة وقلقِه المتفرّد، ما جعله يبْنِي، منْ داخِل اختِلافِه، صِلاتِ التّواشج والتقاطع بينه وبين نظيره الفصيح. مِن الواضح أنه، بعد مرُور أكثر من ثمانِ قرونٍ على هجرة الزّجل من الأندلس إلى المغرب، تغيّرت الكثيرُ مِن الحقائق والبديهيات. فإذا كان المغاربةُ قدِ احْتفظوا بنفْس التّسمية لأشْعارهم المكتُوبة بعاميتهم المحليّة، ووسمُوها ب «زجل»، فإن ما يكتبُه شُعراء الزجل، في مغرب اليوم، لا علاقة له بذلك اللّون الشعري الذي ظهر في الأندلس وبرع فيه الكثيرُ من زجّالي هذا البلد، في طليعتهم ابن قزمان، الذي وصفه ابن خلدون بشيخ الزجالين. إنّ الزجل اليوم، وعلى عكس زجل البارحة الذي كان يمشي بين الناس، خير مُعبّرٍ عن واقع حياتهم ومشاغلهم الاجتماعية والسياسية، ما فتِئ يوسِّعُ ويعمِّق المسافة بينه وبين مُتلقّيه، ما يحدّ من «خُرافة» الذيُوع والانتشار. ذلك أنّ تلقّي الزجل صار مشْروطا بامْتلاك المتلقي لخلفية شِعرية وثقافية لها القُدرة على النّفاذ إلى الطبقات السفلى للقوْل الشعري، بعد أنْ صار، هذا القول، غيرَ معنيّ بالنبُوءة والتّحريض، بل بالإدْهاش والحيرة والانتِصار للغةٍ مُوحِية تتماسُّ مع الدّواخِل وتنتصرُ للشّعر بدل الشعار، وللمُستقبل بدل الماضي. أثْبت تاريخُ الزجل في المغرب، أنّ المشكلة الأساس، سواءٌ في الشّعر الفصيح أو العامّي، لا تكمنُ في طبِيعة اللغة؛ من حيث انتسابُها إلى الفُصحى أو العامّية، بل في مدى استِطاعة الشّاعر أنْ يستنطقَ هذه اللغة ويُقوّلها ما لم يسْبِقْ لها قولَه، وذلك بنقْلها من حالِ الوُضُوح إلى حال الإشارة والغُمُوض. وهو الأمر الذي تأتّى، في المغرب، لثلة من شُعراء الزجل، الذين سافروا إلى قصيدتهم مُسلّحين بالمعرفة لا بالفطرة. رأوْا في الشّعر نوعًا من الكدٌّ المعرفي والثقافي، فكتبُوا أزجالهم غير مُسْتندِين على الذّاكرة أو الارتجال، بل بانفتاحٍ على زمنِهم الشّعري، فاستحقت أزجالهُم صِفة الشعر. الشعر وحده لا غير. انطلقت هذه الملاحظاتُ بالإشارة إلى مسارٍ طويل خطّته قصيدة الزجل، منذ لحظة انبثاقِها الأندلسي، إلى يومنا هذا. هو ذا جانبٌ من المسار الذي خطّه الزجل المغربي. مسارٌ طويل، إن كانت نقطةُ بدايتِه مُبادرة طالب مغربي، اسمه عباس الجراري، الذي حمل أطروحتَه الجامعية حول الزّجل المغربي التقليدي المسمّى الملحون ليُرافعَ عن شِعْريته في جامعة القاهرة، فإنّ نقطة نهايته، جسّدتها مغامرة أخرى لطالبٍ مغربي آخر، لن يكون سوى كاتبِ هذه الحروف، الذي اختار سنة 2012أن يُعيد الاعتبارَ للزّجل من داخل الشّعر ذاته، وذلك عبر تحويله إلى مادّة مُهيئة للأسئلة الأكاديمية، أيْ الأسئلة النظرية والمعرفية، التي تُضيءُ إشكالات الممارسة النصية الإبداعية، وبذلك كانت أطروحة «جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية الحديثة» أول دكتوراه تُناقش داخل الجامعة المغربية حول الزّجل بهدف استجلاء القضايا النظرية والمنهجية التي يطرحُها بغية استشراف أفق بعيدٍ، يتهيّأ به التفكير في شعريته. تلك الشّعرية التي انصرم وقتٌ طويل، طول المسار ذاته، قبل الإقرار بها والاعتراف بالقوانين الكبرى الناظِمة لها في مُختلف عناصرها البِنائية.