فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصالحة : (لتجاوز الانتظارية القاتلة)

كما لها أسبابها الذاتية. والإشكال في ظني، يعود في قسم منه على الأقل،إلى ضرورة التمييز بين ما هو موضوعي، مشترك بين جميع مكونات اليسار، وبين ما هو ذاتي خاص بهذه التشكيلة أو تلك وفي هذا الوطن أو ذاك.
وعندما تكون أزمة اليسار بهذا الاتساع الكوني، فمن الأرجح أن ثمة عوامل موضوعية فاعلة فيها جميعا، وقد يكون لها النصيب الأكبر، باختلاف تجاربها وخصوصياتها ، فيما آلت إليه أزماتها المختلفة.
طرح الإشكالية على هذا المستوى الكوني، ليس من قبيل «الهروب إلى الأمام» أومن قبيل «التعويم الفكري» ولا بالأحرى من قبيل «تبرئة الذوات».. وإنما الغاية هي الفهم الأفضل للشرط الموضوعي كونيا ووطنيا، والذي بدون وعيه، وضبطه، لا يمكن الخروج بمعالجات صائبة، لأنها ستكون بالضرورة، معالجات ذاتوية، أقرب إلى ردود الفعل منها إلى المعالجات المتبصرة والبعيدة المدى، ولأنها ستصطدم، حتما، بصخرة الواقع الصلب الذي تم تجاهله والاستهانة به.
ليس المجال هنا للبحث في تلك الشروط الموضوعية المومأ إليها في أزمة اليسار عالميا. وكاتب هذه السطور، يعي، وبكل تواضع، أن البحث فيها وفي امتداداتها وطنيا، ليس بالأمر البديهي السهل..لكن مجرد طرح الموضوع على هذا المستوى المنهجي، وإيلائه ما يستحقه من اهتمام جمعي، يساعدنا على تكوين أرضية مشتركة، أكثر صلابة وعقلانية من واقع الحال، الانفعالي والفرداوي، أو الحلقي العصبوي، المشتت والمضبب الرؤى.
إن مجرد التفكير في الموضوع على هذا المستوى المنهجي، يضعنا مباشرة أمام أسئلة كبرى، جميعها ترتبط بالتحولات النوعية المتسارعة،والتي اكتسحت العالم وعلى جميع الصعد، المعرفية والأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والتواصلية، وأشكال وتموقعات التعبير عنها جميعا. وهي التحولات التي لم نستوعبها بعد، بالشكل الجماعي، وبالقدر الذي يُمكِّن اليسار من أن يكون فاعلا شعبيا، مبادراً وناميا ومستقلا. وبتعبير آخر، أن يكون في مجتمعه هو البديل الممكن.
وفي الوضع المأزوم الحالي لليسار، ثمة من يستخلص ويروج لمغالطة أيديولوجية، تزعم، أن ما وقع من تحولات نوعية في العالم، أنهى ، وبلا رجعة، ما كان يفرق في الماضي بين اليسار واليمين، فلا يسار بعد ولا يمين، فكلاهما أضحيا يقفان على نفس الأرضية الليبرالية في كافة المستويات، ويتنافسان على إرضاء نفس القواعد الاجتماعية لكسب الأغلبية الانتخابية…
وبدون الدخول في ردود تفصيلية، فمن الواضح أن المخاطب بهذه المغالطة، مادام اليمين هو المنتصر مرحليا، ليس إلا اليسار، المطالب بحسب هذه الدعوة، أن يتخلى عن هويته الاجتماعية والوطنية والأيديولوجية. أو لنقل، أن يستسلم طوعا، ويتخلى عن صراعاته وامتحاناته في الحفاظ على هذه الهوية والرقي بها ومعها.
دعنا من هذا التقديم الذي توخيت منه، البحث أولا في الشروط الموضوعية الكونية، ومن ثم البحث ثانيا في خصوصياتها عندنا، موضوعيا ثم ذاتيا. ولقد لمحت لفوائد ذلك من الناحية المنهجية. ولنر الآن حالتنا على المستوى الذاتي البحث.
ربما لا يجادل أحد أيضا في أن القسم الأعظم من اليسار، أضحى خارج التنظيمات الحزبية التي حمل لواءها فيما مضى، فضلا عن استمرار الانقسام بين تنظيماته الحزبية المختلفة. ولعل فقدان الثقة في المستقبل (وهي وجه آخر لفقدان الثقة المجتمعية في كافة المؤسسات)، وفي إمكان تجاوز اليسار لأزماته الراهنة، هي الحصيلة النهائية لهذا الواقع المفتت والمنكفئ. ولذلك يغلب على الوضع الراهن لليسار، التصورات الفردية المتشائمة، وردود الأفعال التشكيكية الآنية، وحتى الخلافات الفكرية والسياسية المجدية تضعف فاعليتها وتغدو عديمة الأفق.
ما يهمني في هذه العجالة، ليس تقديم تحليل متناسق لهذا الحال، بقدر ما لفت نظري، وحز في نفسي، تردي الروح السياسية العملية، وانعدام الحوار الجماعي، أمام اضطراد تمدد الأزمة المجتمعية لتشمل كافة الصُّعد، واليسار من بينها، وما يحمله هذا الوضع من مخاطر لم تغب بعد عن أعيننا في الساحات الهشة والمأزومة مثلنا. وهذا في الوقت الذي نحتاج فيه لمبادرات تعبوية ووحدوية كبرى، غير مألوفة ولا معتادة في خطاباتنا الرتيبة اليومية. إنها بلا ريب انتظارية قاتلة!
وفي هذه الأجواء السلبية، أرى أن النداء الذي وجهه الاتحاد الاشتراكي نحو المصالحة، بما يعني القيام بكل ما يلزم لإعادة بناء وحدة اليسار، نداء يستحق التفاعل الإيجابي معه من قبل الجميع، أفرادا ورموزا وحساسيات وتنظيمات حزبية، علنا نصل إلى مخارج ممكنة لنهوض اليسار من جديد. ومن البديهي أن “المصالحة” لا تعني ردم الخلافات، ولا التصورات المتعددة، بل الدعوة إلى طرحها جميعا مع البحث في سبل وآليات تجاوزها بالقدر العقلاني والموضوعي والممكن أيضا. وبكلمة أخرى، إن المصالحة تعني مصالحة مع التاريخ النضالي المشترك لليسار، بمكاسبه وخساراته، كأساس لبناء مستقبله الموعود.
لنخرج من الانتظارية القاتلة، والتي من أخطر تبريراتها الأيديولوجية، الزعم، بأن حركة التحرر الوطني قد انتهى دورها التاريخي، باختياراتها وأحزابها وأجيالها ورموزها، ولا مناص من ترك السيرورة الاجتماعية تمضي وحدها إلى أن تستلم القيادة أجيال جديدة وبأفكارها الجديدة. إن العيب لا يقتصر هنا على المعاني التي يعطيها هذا الزعم لحمولة “التحرر الوطني”، وهي حمولة لم تفقد قطعا صلاحياتها ومستوجباتها ولو في عصر العولمة، بل العيب الأكبر في ما تفشوه ضمنا من دعوات إلى الاستقالة الجماعية، وإلى اصطناع قطيعة تناحرية بين الأجيال، وما تعبر عنه من عدمية سياسية انتظارية إلى أجل غير مسمى !
هذه واحدة فقط من عدة تعليلات تبثها الانتظارية السياسية القاتلة. إلا أن ما ينبغي لكل يساري أن يستحضره دائما، الدرس القوي لما سمي بالربيع العربي، والذي لا تفلت منه أية خصوصية، كيفما كانت نسبيتها الحقة، ومن حيث أن لا خيار لخروج مجتمعاتنا من تأخرها، وانطلاق وانتظام نهضتها، سوى إذا ما ساد خيار اليسار بدعم شعبي قوي، لأنه خيار المزاوجة بين الديمقراطية السياسية وبين التنمية الاجتماعية – الثقافية واستقلالية القرار الوطني. وما عداه، ليس إلا التخبط في الفوضى، أوفي ليبرالية سياسية واقتصادية معاقة ومهددة دائما بالانكسار.
لكن ثمة أفكار ومحاذير سياسية وأيديولوجية وتنظيمية جدية ولها مصداقيتها، إن لم تتخشب وتتحول إلى عوائق تكرس الانتظارية والتفتت والانقسام. ولكي لا أخوض في تفاصيل تصادر مسبقاً الحوار الجماعي المنظم الذي نريده، أكتفي بالملاحظة الضاربة التالية: الاختلافات داخل اليسار قديمة، وأفكارها جميعا جربت في الميدان، والسؤال، لماذا أي منها لم يحقق الطفرة النوعية للحركة اليسارية؟! ألا يستحق هذا السؤال بعد عقود من الخلافات التفكير العميق في عوائقها جميعا؟!
من اللافت أن الدعوة للمصالحة جاءت في “منعطف مناسب” تزامن مع الدعوة إلى التفكير في بديل تنموي آخر، بعد الإقرار الرسمي بفشل (أو باستنفاد) النموذج التنموي الجاري. نحن إذن أمام فرصة وطنية للتفكير في مستقبل الوطن واليسار معا. وفي هذا المضمار، سأكتفي هنا ببعض القضايا، أظنها كانت ولاتزال مركز تنوع وتعدد خيارات اليسار حولها:
أولها: هل الممارسة الميدانية لدستور 2011، حققت تقدما في البنية التقليدية لنمط الحكم، أم أنها كانت دونه، وكرست طوعيا عكسه؟
وثانيها: هل كانت للحكومات الائتلافية العريضة صلاحيات فعلية، وهل كانت لها جميعا نفس الضرورات السياسية والاجتماعية، أم أنها كانت وغذت مجرد أداة صورية تتخبط في تنفيذ خيارات لا باع لها فيها؟
وثالثها : ما هي المضاعفات (في العقلية والعلاقات) التي يستولدها كل من السؤالين السالفين على كافة المؤسسات، الإدارية، والمنتخبة، والمنتجة، وعلى إمكان الانتقال الديمقراطي عامة؟
ورابعها: هل أزمة نموذج التنمية المعاق، وكيفما كانت إيجابياته، تعود إلى اختلالات تنفيذية أو حتى ترشيدية واقتصادية محدودة،أم أنها تعود إلى خيارات سياسية – اجتماعية بقيت مشدودة إلى التقييدانية والنيوليبرالية معا، همشت في جملتها التنمية السياسية والثقافية والحضارية للمجتمع، ومعها بالتلازم، التنمية الاجتماعية والمجالية، أي في الحصيلة، اختزلت التنمية البشرية في غير أبعادها المجتمعية الكلية؟
وخامسها: أليس لاستمرار مظاهر التأخر المجتمعي والفوات الثقافي، التقليدية القديمة منها، والمستحدثة في عصر العولمة، دورها في هذه الإعاقة الممتدة، وبالتالي، كيف يتمكن اليسار من المواجهة العقلانية الجامعة بين مسؤولية الدولة من جهة وبين مسؤولية المجتمع من جهة ثانية؟
هذه بعض الأسئلة المحاور التي هي مثار انشغالات اليسار وخلافاته، وقد لا أكون قد توفقت في إيجازها وضبط جميع مضامينها وتدقيقاتها، ولكنها توحي بالمراد، والغاية منها أن تفتح الباب على مصراعيه للمناقشة الجاذبة للمصالحة، والنابذة للانتظارية، ومن أجل بناء انطلاقة جديدة لليسار، إن لم تبلغ الصلابة الواثقة اليقين، فعلى الأقل أن تكون مقنعة وصلبة الإرادة !
وبدون الدخول في ردود تفصيلية، فمن الواضح أن المخاطب بهذه المغالطة، مادام اليمين هو المنتصر مرحليا، ليس إلا اليسار، المطالب بحسب هذه الدعوة، أن يتخلى عن هويته الاجتماعية والوطنية والأيديولوجية. أو لنقل، أن يستسلم طوعا، ويتخلى عن صراعاته وامتحاناته في الحفاظ على هذه الهوية والرقي بها ومعها.
دعنا من هذا التقديم الذي توخيت منه، البحث أولا في الشروط الموضوعية الكونية، ومن ثم البحث ثانيا في خصوصياتها عندنا، موضوعيا ثم ذاتيا. ولقد لمحت لفوائد ذلك من الناحية المنهجية. ولنر الآن حالتنا على المستوى الذاتي البحث.
ربما لا يجادل أحد أيضا في أن القسم الأعظم من اليسار، أضحى خارج التنظيمات الحزبية التي حمل لواءها فيما مضى، فضلا عن استمرار الانقسام بين تنظيماته الحزبية المختلفة. ولعل فقدان الثقة في المستقبل (وهي وجه آخر لفقدان الثقة المجتمعية في كافة المؤسسات)، وفي إمكان تجاوز اليسار لأزماته الراهنة، هي الحصيلة النهائية لهذا الواقع المفتت والمنكفئ. ولذلك يغلب على الوضع الراهن لليسار، التصورات الفردية المتشائمة، وردود الأفعال التشكيكية الآنية، وحتى الخلافات الفكرية والسياسية المجدية تضعف فاعليتها وتغدو عديمة الأفق.
ما يهمني في هذه العجالة، ليس تقديم تحليل متناسق لهذا الحال، بقدر ما لفت نظري، وحز في نفسي، تردي الروح السياسية العملية، وانعدام الحوار الجماعي، أمام اضطراد تمدد الأزمة المجتمعية لتشمل كافة الصُّعد، واليسار من بينها، وما يحمله هذا الوضع من مخاطر لم تغب بعد عن أعيننا في الساحات الهشة والمأزومة مثلنا. وهذا في الوقت الذي نحتاج فيه لمبادرات تعبوية ووحدوية كبرى، غير مألوفة ولا معتادة في خطاباتنا الرتيبة اليومية. إنها بلا ريب انتظارية قاتلة!
وفي هذه الأجواء السلبية، أرى أن النداء الذي وجهه الاتحاد الاشتراكي نحو المصالحة، بما يعني القيام بكل ما يلزم لإعادة بناء وحدة اليسار، نداء يستحق التفاعل الإيجابي معه من قبل الجميع، أفرادا ورموزا وحساسيات وتنظيمات حزبية، علنا نصل إلى مخارج ممكنة لنهوض اليسار من جديد. ومن البديهي أن “المصالحة” لا تعني ردم الخلافات، ولا التصورات المتعددة، بل الدعوة إلى طرحها جميعا مع البحث في سبل وآليات تجاوزها بالقدر العقلاني والموضوعي والممكن أيضا. وبكلمة أخرى، إن المصالحة تعني مصالحة مع التاريخ النضالي المشترك لليسار، بمكاسبه وخساراته، كأساس لبناء مستقبله الموعود.
لنخرج من الانتظارية القاتلة، والتي من أخطر تبريراتها الأيديولوجية، الزعم، بأن حركة التحرر الوطني قد انتهى دورها التاريخي، باختياراتها وأحزابها وأجيالها ورموزها، ولا مناص من ترك السيرورة الاجتماعية تمضي وحدها إلى أن تستلم القيادة أجيال جديدة وبأفكارها الجديدة. إن العيب لا يقتصر هنا على المعاني التي يعطيها هذا الزعم لحمولة “التحرر الوطني”، وهي حمولة لم تفقد قطعا صلاحياتها ومستوجباتها ولو في عصر العولمة، بل العيب الأكبر في ما تفشوه ضمنا من دعوات إلى الاستقالة الجماعية، وإلى اصطناع قطيعة تناحرية بين الأجيال، وما تعبر عنه من عدمية سياسية انتظارية إلى أجل غير مسمى !
هذه واحدة فقط من عدة تعليلات تبثها الانتظارية السياسية القاتلة. إلا أن ما ينبغي لكل يساري أن يستحضره دائما، الدرس القوي لما سمي بالربيع العربي، والذي لا تفلت منه أية خصوصية، كيفما كانت نسبيتها الحقة، ومن حيث أن لا خيار لخروج مجتمعاتنا من تأخرها، وانطلاق وانتظام نهضتها، سوى إذا ما ساد خيار اليسار بدعم شعبي قوي، لأنه خيار المزاوجة بين الديمقراطية السياسية وبين التنمية الاجتماعية – الثقافية واستقلالية القرار الوطني. وما عداه، ليس إلا التخبط في الفوضى، أوفي ليبرالية سياسية واقتصادية معاقة ومهددة دائما بالانكسار.
لكن ثمة أفكار ومحاذير سياسية وأيديولوجية وتنظيمية جدية ولها مصداقيتها، إن لم تتخشب وتتحول إلى عوائق تكرس الانتظارية والتفتت والانقسام. ولكي لا أخوض في تفاصيل تصادر مسبقاً الحوار الجماعي المنظم الذي نريده، أكتفي بالملاحظة الضاربة التالية: الاختلافات داخل اليسار قديمة، وأفكارها جميعا جربت في الميدان، والسؤال، لماذا أي منها لم يحقق الطفرة النوعية للحركة اليسارية؟! ألا يستحق هذا السؤال بعد عقود من الخلافات التفكير العميق في عوائقها جميعا؟!
من اللافت أن الدعوة للمصالحة جاءت في “منعطف مناسب” تزامن مع الدعوة إلى التفكير في بديل تنموي آخر، بعد الإقرار الرسمي بفشل (أو باستنفاد) النموذج التنموي الجاري. نحن إذن أمام فرصة وطنية للتفكير في مستقبل الوطن واليسار معا. وفي هذا المضمار، سأكتفي هنا ببعض القضايا، أظنها كانت ولاتزال مركز تنوع وتعدد خيارات اليسار حولها:
أولها: هل الممارسة الميدانية لدستور 2011، حققت تقدما في البنية التقليدية لنمط الحكم، أم أنها كانت دونه، وكرست طوعيا عكسه؟
وثانيها: هل كانت للحكومات الائتلافية العريضة صلاحيات فعلية، وهل كانت لها جميعا نفس الضرورات السياسية والاجتماعية، أم أنها كانت وغذت مجرد أداة صورية تتخبط في تنفيذ خيارات لا باع لها فيها؟
وثالثها : ما هي المضاعفات (في العقلية والعلاقات) التي يستولدها كل من السؤالين السالفين على كافة المؤسسات، الإدارية، والمنتخبة، والمنتجة، وعلى إمكان الانتقال الديمقراطي عامة؟
ورابعها: هل أزمة نموذج التنمية المعاق، وكيفما كانت إيجابياته، تعود إلى اختلالات تنفيذية أو حتى ترشيدية واقتصادية محدودة،أم أنها تعود إلى خيارات سياسية – اجتماعية بقيت مشدودة إلى التقييدانية والنيوليبرالية معا، همشت في جملتها التنمية السياسية والثقافية والحضارية للمجتمع، ومعها بالتلازم، التنمية الاجتماعية والمجالية، أي في الحصيلة، اختزلت التنمية البشرية في غير أبعادها المجتمعية الكلية؟
وخامسها: أليس لاستمرار مظاهر التأخر المجتمعي والفوات الثقافي، التقليدية القديمة منها، والمستحدثة في عصر العولمة، دورها في هذه الإعاقة الممتدة، وبالتالي، كيف يتمكن اليسار من المواجهة العقلانية الجامعة بين مسؤولية الدولة من جهة وبين مسؤولية المجتمع من جهة ثانية؟
هذه بعض الأسئلة المحاور التي هي مثار انشغالات اليسار وخلافاته، وقد لا أكون قد توفقت في إيجازها وضبط جميع مضامينها وتدقيقاتها، ولكنها توحي بالمراد، والغاية منها أن تفتح الباب على مصراعيه للمناقشة الجاذبة للمصالحة، والنابذة للانتظارية، ومن أجل بناء انطلاقة جديدة لليسار، إن لم تبلغ الصلابة الواثقة اليقين، فعلى الأقل أن تكون مقنعة وصلبة الإرادة !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.