تتجاذب التفكير في علاقات الثقافي بالسياسي في الأغلب الأعم إرادة الهيمنة والاستقطاب، حيث تستحضر الخطابات السائدة في هذا الباب، معطيات تروم تغليب الواحد منهما على الآخر، فيتجه السياسي لإبراز «طوباوية» المنتوج الثقافي، ويقوم المدافعون عن الأطروحة النقيض، بتوضيح خفة وهشاشة التصورات والمواقف السياسية بل «بهلوانيتها». وتكشف المواقف الضدية المتباينة جانباً من خلفية التنافر القائم بين المجالين، وهي تعبر عن الهوة المفترضة بين فضاء سياسي، يمنح نفسه امتياز صناعة التاريخ بمعايير لا تُعْنَى بالمطلقات والمبادئ المجردة كيفما كانت، وفضاء يَفْتَرِضُ أن امتياز كفاءة التعقل البانية والمنتجة للفكر والثقافة، هو الذي يُمَكِّن الإنسان من المعرفة والعمل في أبعادهما وتجلياتهما الأكثر إنسانية. تتخذ الخصومات من هذا النوع طابعاً حدِّياً، لا يتيح إمكانية فهم ومعالجة الإشكالات التاريخية الحاصلة بين المجالين، وغالباً ما تكون هذه الخصومات بعيدة عن طبيعة الحضور الرمزي والطبيعة الأداتية، التي يحققها ويمارسها كل من السياسي والثقافي في التاريخ. فالمسافات بينهما في المواقف المشار إليها آنفاً مفترضة، إنها مسافات تصورية وليست تاريخية بالضرورة. والعلاقة بين المجالين كما نتصورها متعددة ومتنوعة، وهي تقتضي تحليلاً عينياً يكون بإمكانه مراقبة معطيات المجالين في لحظة تاريخية بعينها، قصد كشف واكتشاف درجات التداخل والتباعد القائمة بين أسئلتهما، وبين المفاهيم والآليات المستعملة في كل منهما. تتنوع في سياقات التاريخ المفتوحة على أزمنة المدى المتوسط والطويل أشكال العلاقة بين المجالين، تتقاطع وتتبادل المواقع، ويُرفِدُ الواحد منها الآخر، بل لعله في لحظات معينة يوجهه ويدفع به في اتجاه مُحَدَّدٍ ومرسوم سلفاً، فيصبح من الصعب قبول التصورات الميكانيكية السهلة والمبسطة في موضوع علاقة الثقافي بالسياسي، وذلك لصعوبة استبعاد الشحنة السياسية عن المجال الثقافي، وشحنة المحتوى الثقافي المرتبط بالعمل السياسي في مختلف مظاهره. ولعلنا لا نبالغ إذا ما اعتبرنا أن التداخل والترابط هو السمة الغالبة عليهما، مع ملاحظة أن درجة حضور الواحد منهما في الآخر، هي التي تدفعنا إلى التوصيفات الحدِّية والأحكام النمطية المثيرة للتباعد والتنافر. ومن أجل تفكير أكثر عيانية في الموضوع، يمكننا أن نقترب من علاقة السياسي بالثقافي في لحظة الانتقال الديمقراطي التي يعرفها المجتمع العربي اليوم، ويعرفها المجتمع المغربي داخله، حيث تتيح لنا هذه اللحظة اكتشاف تعقد العلاقة بين المجالين، الأمر الذي يسمح ببناء معطيات مساعدة على تركيب طريقة في التفكير في موضوع العلاقة بينهما، بصورة تستند إلى وقائع تاريخية فعلية، لعلنا نتمكن في النهاية من الوقوف على خلاصات أكثر ووضوحاً. وإذا كنا نسلم بأن الأفق السياسي الذي دشنته حكومة التناوب التوافقي في مغرب نهاية القرن الماضي (1998)، يندرج ضمن مجال العمل السياسي الهادف إلى ترسيخ التحديث السياسي في العهد الجديد، وذلك بتطوير المؤسسات السياسية وتدعيم آليات التدبير العقلاني لمختلف أوجه ومظاهر العمل السياسي في بلادنا، فإننا نعتقد أن الثقافة المغربية عملت وما فتئت تعمل في بعض تجلياتها، على بناء مشروع في الحداثة يتوخى توطين لغاتها ومفاهيمها في فكرنا وفي تجاربنا في الإبداع بمختلف أشكاله. إن وصول الإسلام السياسي إلى مجال تدبير السياسات العامة في السنوات الأخيرة، بعد رياح حراك 20 فبراير 2011 المرتبط بانفجارات ما يُعْرَف بالربيع العربي، أوقف مسلسل التوطين الذي أبرزنا، وفرض على مجتمعنا أشكالاً من التراجع عن كثير من المكتسبات، الأمر الذي يترتب عنه اليوم، الانخراط مجدداً في مزيد من دعم الخيارات الحداثية والتحديثية في السياسة والمجتمع، لعلنا نتمكن من وقف مسلسل التراجعات الحاصلة. خاصة وأن حدث وصول التيار المذكور للسلطة، سمح بمزيد من حضور وتغلغل الخيارات السلفية والمواقف السياسية المحافظة في مجتمعنا وثقافتنا، الأمر الذي يضاعف اليوم معاركنا السياسية المتواصِلة. إن المواكبة المتأخرة التي يمكن ملاحظتها في موضوع علاقة الإرادة السياسية الحداثية، التي يعكسها الأفق الذي فتحته تجربة التناوب التوافقي، ومعطيات الفكر الحداثي المغربي تعبر عن جدلية تاريخية معقدة، وهي لا تستبعد ولا تغفل الإشكالات والعوائق التي تطرحها هذه العلاقة في أبعادها المختلفة. لكن المشتغل بتاريخ الأفكار من منظور اجتماعي تاريخي، لا يمكنه أن يغفل التوافقات والتكاملات والتداخلات الحاصلة، بل إنه يستطيع أن ينطلق منها ليبحث عن سبل أفضل لتركيب عمليات في الإسناد التاريخي المتبادل، وهي العمليات المطلوبة مرحلياً، حيث لا يمكن استبعاد دور الفكر الحداثي المبدع في رسم معالم الاختيارات السياسية المرغوب فيها. كما لا يمكن التقليل من أهمية الممارسة السياسية المتشبعة بإرادة التحديث، في بناء مشروع في العمل التاريخي القادر على تنمية وتطوير مجتمعنا. وإذا كنا نسلم أيضاً بأن وقائع تاريخنا السياسي المعاصر تطرح أسئلة محددة، تتعلق بآليات الممارسة السياسية، وأخرى ترتبط بخلفياتها وأبعادها النظرية، فإن الفعل السياسي المنخرط في تركيب الواقع وفق تصوراته العملية والنظرية البسيطة والمعقدة، يظل في أمس الحاجة إلى الثقافة السياسية التي تبني القضايا وتبحث فيها بروح فكرية خلاقة. وهذا الأمر بالذات، يمنح الاختيارات والمواقف السياسية أرضيتها النظرية وفضاءها الفكري المستوعب لمسيرتها والمُعَزِّز لطموحاتها، والراسم أيضاً، لممكنات تحولها في المدى الزمني القريب والمتوسط، حيث يمارس الثقافي بتاريخيته وتعبيره عن الإشكالات التي يثيرها الوجود الاجتماعي والثقافي للبشر، عمليات إقصاء للمعطيات التي يسمح استمرار حضورها بالتراجع والانكفاء التاريخيين. نتصور أن دور الثقافي في ظروفنا السياسية الراهنة، ينبغي أن يكون نقدياً بالدرجة الأولى، كما نتصور أن الانكفاء الفكري نحو بناء ثقافة محافظة ومعادية للتاريخ، لن يساهم في دعم مشروع الحداثة والتحديث، مشروع التحول الديمقراطي الجاري في بلادنا، رغم كل ما يمكن أن يقال عن حدود هذه التجربة ومنجزاتها الفعلية، وكل ما يمكن أن يقال أيضاً، عن أشكال التراجع التي تجري اليوم في مجتمعنا. وفي هذا الإطار، نلح على أهمية المعارك الثقافية اللازمة لتعزيز وتطوير ممارستنا السياسية، حيث يصبح بإمكان الثقافة المغربية أن تساهم فعلاً في تركيب التصورات والأفكار المساعدة على فهم أفضل لأسئلة الحاضر والمستقبل، في أبعادهما المختلفة. لا نعتقد أن معركة الثقافي البانية لمشروع التحديث الفكري والسياسي بسيطة ولا متيسرة، إنها معركة محفوفة بالمخاطر التاريخية، وهي معركة مفتوحة على مجالات عديدة. إنها تتوخى محاصرة الفكر التقليدي بمختلف مظاهره، ومختلف أشكاله الجديدة المرتبطة بصوَّر حضور الإسلام السياسي في مشهدنا السياسي، وهو الحضور الذي يعكس جوانب من المأزق الذي تعرفه حركة اليسار في قلب إيقاعات الفكر الحداثي في ثقافتنا. نُواجه معركة سياسية، ونعي جيداً أن بناء ثقافة التحديث السياسي المُؤَسَّسِيَّة والتاريخية ليست معركة يوم وليلة، وليست معركة ثورات الربيع العربي وحدها، بل إنها معركة تتلون بألوان لا تُعدّ ولا تحصى، حيث تشكل الثقافة في مختلف تجلياتها فضاء للمواجهة المتواصلة، والمستوعِبة لإكراهات التاريخ ومعطيات الأزمنة المعاصرة في مظاهرها المتنوعة، مع محاولات متواصلة في العمل الهادف إلى مزيد من توطين المفاهيم السياسية العصرية، والعمل على استيعابها بصورة لا تغفل أهمية استحضار المحلي والخصوصي والتاريخي، في فهم وتركيب الأسئلة والمفاهيم المطابقة لأحوالنا المجتمعية والتاريخية، والاستفادة في الآن نفسه، من تجارب الآخرين، حيث لا يمكن الفصل مطلقاً بين تاريخنا والتاريخ العام، بين تاريخنا وبين تجارب التاريخ هنا وهنالك. لا يمكن التفكير في العلاقة بين الثقافي والسياسي باستحضار مبدأي الأولوية والتميز، بل إن ما ينبغي عدم إغفاله في بناء هذا التصور هو النجاعة التاريخية والنجاعة النظرية داخل التاريخ. وعند التسليم بهذا، يصبح بإمكاننا أن نفهم بصورة تاريخية وجدلية أشكال التقاطع القائمة بين المجالين. كما يمكن أن نستوعب أهمية الإسناد المتبادل، الذي تترتب عنه في ظروفنا التاريخية الراهنة، أهمية مواصلة التفكير في كيفيات بناء نقط اللاعودة في مجال ترسيخ الحداثة، وتعميم الوعي برؤيتها التاريخية والنسبية للحياة وللعمل السياسي داخل مجتمعنا، ولعل التفكير في نقد التجربة السياسية الراهنة من داخلها، تجربة حكومة التناوب وما تلاها من حكومات الإسلام السياسي، يعبر عن بعض معاني ما أطلقنا عليه الإسناد المتبادل بين الثقافي والسياسي، حيث لا ينتج الإسناد لغة تكتفي بالدعم اللامشروط لما عرفه مشهدنا السياسي من تحوُّلات في مطالع الألفية الثالثة، بل إنه يتجه لتركيب مشروع في الفكر يضع نصب عينيه، تعميم وتوسيع وتطوير النظر والممارسة الحداثية في الفكر وفي السياسة، وفي مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي الأخرى، وذلك بمزيد من محاصرة طموحات وشعارات وشعبوية الإسلام السياسي، الأمر الذي يؤهلنا للمساهمة في بناء خط اللاّعودة في فكرنا وفي ثقافتنا السياسية، فنبني الثقافة والسياسة المنفتحتين أولاً وقبل كل شيء، على المستقبل وعلى أسئلة المصير التاريخي للبشر، خارج لغة ومفاهيم الدوغمائيات المطلقة والمتعالية.