احتضن الفضاء الثقافي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل يوم الجمعة 4 يناير 2018، في إطار برنامجه الثقافي، لقاء مع الأستاذ والمفكر كمال عبد اللطيف حول «التغيير السياسي والتغيير الثقافي بالمغرب». ولأهمية العرض وما طرحة من أسئلة حول جدلية الصعب والممكن في التغيير والتعالق الموجود بينهما، إذ يصعب إحداث أي تغيير في المجتمع دون قاعدة ثقافية تسنده وتؤسس له، ننشر نص المداخلة التي تقدم بها الأستاذ كمال عبد اللطيف. مقدمة أولى، سؤال التغيير: الإيحاءات والسياق نريد أن نوضح في بداية هذا العرض أن مقاربتنا لسؤال التغيير في مجتمعنا، لا تتوخى التوقف أمام المتغيرات الجارية في مشهدنا السياسي، بل إننا نتجه فيها للتفكير أولاً وقبل كل شيء، في الأبعاد النظرية للسؤال، أي أننا لن نتوقف كثيراً أمام التحولات والمتغيِّرات الجزئية الحاصلة في مشهدنا السياسي والثقافي، وحتى عندما نتوقف أحياناً في سياق البسط والتحليل، للتذكير ببعض المغيِّرات قصد التمثيل، فإن حدود ما سنسلط الضوء عليه ونفكر فيه، تظل مرتبطة بسؤال التغيير في أبعاده الأكثر عمقاً، نقصد بذلك تحديث نظامنا السياسي، وتحديث أنماط الفكر والثقافة في بنيات مجتمعنا وثقافتنا. ومن هنا جمعنا في عنوان المحاضرة بين مبدأ السؤال وحدود التغيير. نفترض أن التغيير في التاريخ أمر ممكن، شريطة الوعي بضرورته والشروع في تهييئ العدَّة المطلوبة للقيام به، دون إغفال مقتضيات السياق وشروطه. ونستند في استيعاب هذه الفرضية، إلى المبدأ الذي يَقِرُّ بأن التغيير الممكن، ينتمي إلى ثقافة تاريخية محدَّدة. ونفترض أيضاً، أن التغيير الصعب، يمكن أن يدرج ضمن صوَّر التغيير الممكن، وذلك بتوفير السياقات التي تُقَلِّص أو ترفع جوانب من الصعوبات المرتبطة به. إن حدود الممكن والصعب في موضوع التغيير تظل دائماً تاريخية، أي إنها تقع في قلب وآفاق السياقات المواكبة للتحوُّلات المأمولة. نتصوَّر أنه عندما تعظم التحديات، وتنتصب الممانعات داخل مجتمع من المجتمعات، يبرز منطق الممكن والصعب، حيث لا وجود للمستحيل إلا في الأذهان. وهناك معطيات كثيرة في الراهن المغربي، تمنح السؤال الذي سنركب في هذا العرض أهميته، معطيات وطنية وأخرى لها علاقة بمحيطنا القومي والإقليمي، وثالثة مرتبطة بالمتغيرات الدولية، التي منحتها الطفرة التقنية في عالمنا، ما عَزَّز أواصر صلتها بما يجري في مجتمعنا ومؤسساتنا بل وحتى في ضمائرنا. نعتقد أن لمنطوق سؤال التغيير ومحتواه، كما نتصوَّره في المغرب المعاصر، تاريخ مرتبط بشروط زماننا، كما أن الإيحاءات المقرونة به تجد سياقاتها العامة، ضمن تاريخ أوسع، يرتبط بزمن الحماية وتطلعات النخب الوطنية، التي رسمت جوانب من أسئلة التغيير ومفرداته، في السنوات الأولى للاستقلال وما بعدها، حيث استقر التغيير المطلوب على أفق بلور ملامحه العامة، جيل الحركة الوطنية، والجيل الذي واصل احتضان السؤال بعده بمرادِفاته المتعدِّدة، المُحَمَّلَة بمعان وتصوُّرات عديدة ومختلفة، من قَبِيل الإصلاح والثورة والتقدم والتنمية، ثم التحديث وبناء دولة القانون والمؤسسات، إلى غير ذلك من المواقف والتصوُّرات والكلمات، التي ارتبطت بالسؤال وما يتفرع عنه من قضايا، ومتصلة في الوقت نفسه، بتجاوز صوَّر الانسداد المتواصلة بأشكال مختلفة في تاريخنا المعاصر، محدثة أحياناً تراجعات وانكسارات في مشروع التغيير، الذي يُعَدُّ اليوم بمثابة أفق جامع لتطلعات النخب في مجتمعنا.. مقدمة ثانية، جدليات الممكن والصعب توقفنا في المقدمة الأولى أمام سؤال التغيير، بهدف التمييز بين موضوعه وموضوع التغيرات الجزئية القائمة، في سياق التحوُّلات الجارية في مجتمعنا، وننتقل في المقدمة الثانية لهذا العمل، إلى توضيح جدلية الممكن والصعب في عملنا، أي توضيح بعض التصوُّرات المنهجية، التي استعنَّا بها في تركيب المفاصل الكبرى لعملنا. تَعَوَّدْتُ عند التفكير في الإشكالات التاريخية الكبرى، من قَبِيل ما نحن بصدده الآن، الاحتراز من المواقف الإيجابية المُطْلَقَة، أو المواقف السلبية بإطلاق، أقصد بذلك مواقف القطع والحسم في موضوعات يصعب الجزم فيها. كما تَعَوَّدْتُ عدم الركون إلى المواقف الوسطى، التي تتميز باختيار موقف يقوم على خيار حسابي، في موضوعات لا يمكن فهمها بمنطق الحساب والهندسة، نظراً لتعقُّدها وتعقُّد المجال الذي تنتمي إليه. وضمن هذا الأفق، بدا لي أن الذي يتحكَّم في المواقف السائدة من التغيير وكيفيات حصوله، والإشكالات التاريخية المتصلة به، هو زاوية النظر التي ينطلق منها، من يريد معرفة ماذا جرى ويجري اليوم في المجتمع المغربي، في موضوع مواصلة التردد في القضايا، التي تتطلب الاختيار والحسم. إن اختيار الزاوية التي نُصَوِّب انطلاقاً منها النظر في واقع الحال في مشهدنا السياسي وثقافتنا، تشكِّل في نظرنا المدخل المناسب والمحدَّد لطبيعة الموقف، الذي يمكن أن نقرأ انطلاقاً منه، مختلف التغييرات الجارية في المجالات المشار إليها، نقرأ عوائقها وممكناتها، وندرك الصعوبات التي تَحُول دون مواصلة توطين قواعد وإجراءات التحديث في بلادنا. نتصوَّر أن ما يحصل اليوم في مجتمعنا وثقافتنا السياسية، سواء في فضاء الخطابات والصوَّر، أو في مستوى الأحداث والوقائع، يندرج في سياق مجموعة من المخاضات المرتبطة بمسارنا التاريخي العام، حيث نواجه مجموعة من التحدِّيات التي كنا نتجنَّبها، خوفاً من مواقف وأحداث قريبة مما يقع اليوم بيننا. ولا شك في أن محصلة ما جرى في السنوات الأخيرة، سيراكم مجموعة من الخبرات السياسية والتاريخية، التي ستؤكد استمرار حاجتنا الماسة إلى التنوير ومكاسبه. لا ينبغي أن نغفل التأكيد هنا، أننا لا نتصور سهولة المعركة التي تنتظرنا، فالتغيير الذي نتطلَّع إليه ليس أمراً سهلاً، وطريقنا نحوه مفتوح على مشروع منازلات كبرى في مجالات عديدة، بهدف تعويد الذات على مواجهة أسئلة التاريخ والإصلاح، تعويدها على المواجهة بالتضحيات، التي تنذر الغالي والنفيس للانتصار على أعباء التاريخ، وما سيصنع لحظة حصول التغيير الذي نتطلع إليه، سَيُعَدُّ في البداية والنهاية، بمثابة محصلة لتراكم تاريخي، قد لا نكون اليوم، على بيّنةٍ تامة من مختلف أبعاده وأفعاله. 1 – في ضرورة التغيير نعتقد أن سؤال التغيير الذي نتجه بعد المقدمتين السابقتين، للمساهمة في إضاءة بعض جوانبه، يستوعب سؤال الإصلاح السياسي في شموليته، وهو يُعَدُّ مدخلاً من المداخل المناسبة للاقتراب من دوائر المشروع الديمقراطي. وقد تبلورت الملامح الكبرى لهذا السؤال كما أشرنا آنفاً، في أدبيات الحركة الوطنية، لحظة تركيب رجالاتها لشعارات دولة ما بعد الحماية، حيث تبلورت العلامات الأولى لنقد ازدواجية دولتنا، التي تخلط بين التقليد السلطاني المتوارث، وبعض مظاهر الدولة الحديثة. نطرح سؤال التغيير لوعينا بمظاهر الازدواجية المحايثة لنظامنا السياسي، حتى وإن كانت ازدواجية مرتبة، وكان الوعي بها حاصلاً في أذهان القائمين بتدبير نمطها في السلطة، وتدبير صوُّر التدرج التي يحرصون عليها، فنحن نعي أن استمرار هذه الازدواجية ورسوخها، يساهم في تزكية منطق التقليد في ثقافتنا ومجتمعنا. إن سؤال التغيير الذي نطرحه اليوم مُجدَّداً، ليشكل إطاراً عامّاً، للتفكير في مآلنا السياسي، هو في العمق سؤال يروم رصد درجات تَمَثُّل مجتمعنا للحداثة السياسية، بمبادئها ومقدماتها الكبرى في النظر إلى الإنسان والتاريخ. وهو يُعَدُّ في الوقت نفسه، بمثابة المدخل المناسب، لتوطين نمط الحكم الديمقراطي، الذي يُعَدُّ اليوم من أكثر الصيغ السياسية نجاعة في عالمنا، دون أن نمنحه بحكمنا هذا أي امتياز لا تاريخي. فنحن ننظر إلى التحديث السياسي كأفق في التجريب السياسي التاريخي، الهادف إلى تقنين الفعل السياسي الإنساني وفق معايير تاريخية محددة، قابلة للتطوير في ضوء التجارب التي أَنْجَزَت ومازالت تنجزها البشرية في التاريخ، بحساب مصالحها التاريخية في مختلف أبعادها. إن بعض مظاهر التحديث السياسي قائمة في المشهد السياسي داخل مجتمعنا، لكن البنيات العميقة اللاحمة لوجودها، البنيات التاريخية والنظرية التي يمكن أن يترتب عنها طريق اللاعودة في فكرنا ومجتمعنا، ما تزال غير قائمة. بل إننا نعاني من سيادة كثير من أوجه اللغة العتيقة في خطاباتنا السياسية. وغالبا ما نستعمل بعض مظاهر الحداثة السياسية في علاقاتنا بالآخرين، الأمر الذي يضاعف ازدواجيتنا السياسية، ويكشف مظاهر اللاحسم في طرق تفكيرنا، ليس في المجال الذهني والسياسي وحدهما، بل في مختلف مظاهر حياتنا، حيث ما نزال نتشبث بالمتناقضات حماية لمواقف لم تعد كوارثها وآثارها السلبية تخفى على أحد، رغم كثرة الأقنعة والمساحيق التي نستعمل، لإخفاء درجات تأخرنا التاريخي. ينخرط مجتمعنا منذ عقود من الزمن، في توطين مفاهيم ومبادئ التحديث السياسي، تواجهه في عمليات التوطين عوائق لا حصر لها، كما تواجهه حالات الإخفاق المتواصلة.. ويحق لنا أن نتساءل عن أسباب إخفاق مشاريع الإصلاح والتغيير، في أبعادها المختلفة، إخفاق الإصلاح السياسي، إخفاق الإصلاح الديني، إخفاق الإصلاح الثقافي والتربوي. إن حزمة الإخفاقات المتزامنة والمتتابعة، تؤكد الحاجة إلى تعُّقل بنية هذا الإخفاق، وبناء التصورات القادرة على تجاوزه، وذلك بمزيد من العمل على تبيئة قيم الحداثة والتحديث في مجتمعاتنا. يمكن أن ننطلق إذن، في مواجهة موضوع عوائق وصعوبات التغيير، من خلال أبواب كبرى، تدور حول أسئلة الحداثة والتحديث في تاريخنا المعاصر، حيث يمكن أن تشكل مفردات الجيل الثالث من منظومات التفكير في الإصلاح والتقدم في ثقافتنا السياسية، وهي مفردات يطغى عليها الجانب القانوني الحقوقي، القاعدة والمنطلق لمعالجة أسئلة التحديث في مجتمعنا، من قَبِيل إصلاح الذهنيات، إصلاح منظومة التربية والتعليم، تبيئة أجيال حقوق الإنسان، الانخراط في مجتمع المعرفة، مأسسة المجتمع، توسيع دوائر العقلانية والتاريخ، محاصرة الفساد، تعزيز أساليب الشفافية والمراقبة إلخ.. 2 – التغيير السياسي والتغييرالثقافي، بحثاً عن الإسناد المتبادل نقترب من سؤال التغيير دون إغفال طابعه المركب والمعقَّد، حيث نتصوَّر صعوبة فصل التغيير الثقافي عن التغيير السياسي. لا ينبغي أن يذهب بنا الفصل المنهجي المؤقت لحظة إنجازنا لهذا العمل، إلى إغفال الجدلية التاريخية التي تحكم العلاقة بينهما، والتي حددنا طبيعتها فيما أطلقنا عليه الإسناد المتبادل، وهو الفعل التاريخي المطلوب عند التفكير في العلاقة بينهما. تجنبنا في عنوان هذا العرض، تحديد موضوع التغيير، لم نستحضر كلمة السياسي بجوار كلمة التغيير، رغم أننا نعرف المسألة التي نتجه نحوها، ذلك أن القاعدة الأساس في عملية التغيير، تتأسس في البناء الثقافي الذي يواكبه، ويسند عمليات حصوله وتطوره. وضمن هذا الأفق، استخدمت تعبير التغيير الممكن والتغيير الصعب، بهدف التفكير في كيفية جعل الصعب ممكناً، وجعل الممكن قادراً على بناء الأسس، التي تمكنه من بناء نقط اللاَّعودة واللاَّتراجع. تدفعنا تجربة الفكر والثقافة المغربية خلال الخمسين سنة الماضية، للتفكير في بعض إشكالاتها ومفارقاتها، فنحن ننطلق من جملة من المعطيات، التي تدفعنا إلى الإقرار بوجود إسهام ثقافي حداثي في ثقافتنا، وهو إسهام يدعو بوضوح إلى ضرورة مواصلة استيعاب الفكر التاريخي، وتمثل تجارب التاريخ المعاصر في مجال المعرفة، وذلك قصد زحزحة مواقف ومواقع ثقافة التقليد التي ما تزال تبسط نفوذها في كثير من المواقع داخل مجتمعنا، ووسط نخبنا كذلك.. من النقد الذاتي (1952) لعلال الفاسي، إلى العرب والفكر التاريخي (1973) لعبد الله العروي، نجد أنفسنا أمام محاولات في نقد آليات الفكر العتيق، مع نزوع بارز للتمرُّس بمنطق الفكر التاريخي. لكن مقابل ذلك، تنتعش ظواهر عديدة في الثقافة المغربية، تؤشر على أنماط من الفكر والتفكير لا علاقة لها بمكاسب الثقافة العصرية والمجتمع الجديد، التي نفترض أنها ساهمت في خلخلة ثوابت نظام الثقافة السائدة في مجتمعنا. ونستنتج من ذلك، أن معركة الإصلاح الثقافي، ما تزال مفتوحة في مجتمعنا على أسئلتها القديمة وأسئلتها المستجدة، إنها ما تزال مفتوحة على معارك قادمة.. هناك أمثلة متعددة، تكشف تراجُع الفكر التاريخي في مجالنا الثقافي، والنقاشات التي تواكِب اليوم تحوُّلات مشهدنا السياسي والثقافي، تبرز في كثير من أوجهها السقف العقائدي المُحَافِظ، الذي ما زال يؤطر وجودنا، ويضفي نمطاً من اللغة البالية والمعادية للتاريخ على سجالاتنا. وعندما نفكر اليوم، في معضلات التغيير السياسي في مجتمعنا، فإننا لا نتردد في القول، بأن معركة الإصلاح السياسي التي نعيش جانباً من أطوارها منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان، لم تتجه لفتح نقاش موسَّع حول ما يؤسس هذا الإصلاح، أي تعيين قسمات وملامح المجال السياسي في فكرنا. إن ثقافة التغيير السائدة اليوم، لا تعتني بموضوع التفكير في أسئلة المجال السياسي في أبعادها النظرية الكبرى، نحن نلح على هذه المسألة، لأننا نعتقد بأن بناء الفكر السياسي المطابق لأسئلة لحظتنا التاريخية الراهنة، يعتبر أمراً في غاية الأهمية. والتجارب السياسية الكبرى الفاعلة في التاريخ، لا تولِّد نقط اللاعودة في مسارها، إلا بتأسيسها للنظر القادر على تحصين وتطوير مساحة القضايا والأسئلة المرتبطة بها. لم تستطع الثقافة السياسية التي نشأت على هامش تجاربنا السياسية في العقدين الأخيرين، أن تبلور في نظرنا مشروعاً في الدفاع التاريخي عن الحداثة السياسية. وقد ترتَّب عن ذلك ما نلاحظه من هشاشة ثقافة الإصلاح السياسي، المواكبة لتجاربنا في التحوُّل الديمقراطي. تبدأ الهشاشة باستبعاد الأسئلة الكبرى، من قَبِيل التفكير في حدود المجال السياسي في المجتمع المغربي، وسؤال التفكير في الوسائل والآليات الكفيلة بدعم مشروع التحديث السياسي. لا أدري لماذا تتحول مشاريع الإصلاح الثقافي والسياسي في واقعنا، إلى مشاريع مسدودة الأفق. أومن بأن ظواهر التاريخ المختلفة معقَّدة ومركبة، وتعلمنا تجارب التاريخ المعاصر، في بلادنا وفي العالم أجمع، أن معركة التحديث ليست هيِّنة ولا بسيطة، وتزداد صعوبتها عندما نعاين كما أشرنا سابقاً، صوَّر تغلغل التقليد وآلياته في مجتمعنا وثقافتنا وأنظمتنا في التربية والتعليم، وكذا صوَّر العودات الجديدة، التي تغذي اليوم وسائطنا الاجتماعية بكثير من الخطابات المخيفة.. إن الاكتساحات التي حققتها أدبيات التقليد في العوالم الافتراضية، تدعونا اليوم إلى مباشرة مواجهات جديدة، تمكِّننا من تحصين مشروعنا في التحديث والتغيير. 3 – التغيير الثقافي والسياسي، التنوير أولاً نتجه في المحور الأخير من محاضرتنا، إلى ربط سؤال التغيير بمطلب التنوير، حيث لا يمكن في تصوُّرنا تحقيق التغيير السياسي، دون حصول تغيير ثقافي يمكنه من الروافع التي تجعله أمراً ممكن الحصول. تزداد معركة التنوير في ثقافتنا، وفي واقعنا السياسي أهمية وراهنية، كلما فكرنا في التغيير وشروطه. يعود السبب في ذلك، إلى هيمنة التقليد على فضاءات السياسة والثقافة في مجتمعنا، وتصاعُد حضور التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة الإسلام السياسي، وهي الحركات التي وسعت صوَّر حضور تصوُّرات أخرى للإسلام في مجتمعنا، وذلك بجانب صوَّره الأخرى المتمثِّلة في الإسلام الخلقي، وإسلام الزوايا، ثم إسلام التعليم العتيق، والإسلام الصوفي، وإسلام النظام السياسي التي تعبر عنها صوَّر التدبير الحاصلة في المجال الديني، والإسلام الشعبي الطقوسي منه والمظهري، ثم إسلام النخب المتشبعة بأهمية الفكر النقدي والرؤية التاريخية، حيث نصبح أمام شبكة معقدة من التصورات والاختيارات والعقائد والممارسات، شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب، لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنيتها، وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير في ثقافتنا المعاصرة. لا يتعلق الأمر في موضوع دفاعنا عن قيم التنوير في ثقافتنا ومجتمعنا، ونحن نفكر في سؤال التغيير، لا يتعلق بعملية نسخ لتجربة تمت في تاريخ غيرنا، وثقافة عصر الأنوار ما تزال مطلباً كونياً بامتياز، ذلك أن هذه القيم التي نشأت في سياق تاريخي محدد، في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، وهي تتعرض، اليوم، لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي، وسياقات تاريخها الكوني، بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية وعوالمهم التاريخية، في كثير من مظاهرها وتجلياتها. ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بكيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية. وإذا ما كنا نعرف أن المبدأ الأكبر، الذي وجه فكر الأنوار يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي إلى إبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره، بهدف فك مغالق الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله. إن حاجتنا اليوم لقيم التنوير لا تمليها شروط خارجية، ولا تمليها إرادة نقلٍ، تكتفي بنسخ الجاهز، بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم، تحددها بكثير من القوة، شروط حياتنا الواقعية والفعلية في المجالين الثقافي والسياسي، حيث يصبح توسيع فضاء العقل والنقد والتنوير مجالاً للجهد الذاتي الخلاق، في عمليات بناء القيم والمبادئ، التي تتيح لنا الخروج من مأزقٍ موصولٍ بإرث تاريخي، لم نتمكن من تشريحه ونقده، تمهيداً لإعادة بنائه في تجاوب مع متطلبات عصرنا. نشأ أفق التنوير في الثقافة المغربية في رحم ثقافة الإصلاح، كما تبلورت وتطورت في تفاعل مع فكر النهضة العربية ومع المشترك الإنساني، الذي بُني في الفكر الأوروبي الحديث، لِيُشَكِّل القاعدة العامة لمختلف تجليات الإصلاح الثقافي في فكرنا المعاصر. نحن نشير هنا إلى جهود عبد الله العروي، المتمثِّلة في دفاعه المستميت عن ضرورة التعلُّم من مكاسب التاريخ المعاصر، في الفلسفة والسياسة والمجتمع. كما نشير إلى ثمار نقد رباعية محمد عابد الجابري للعقل العربي، وقد شكَّلا معاً لحظة إسهام بارزة في ثقافة الحداثة في مجتمعنا، رغم اختلاف طرقهما في النظر إلى صوَّر التغيير الحاصلة في مجتمعنا، وموقفهما منها. وإذا كنا نعي أنهما معاً يصنفان في دائرة الثقافة الجديدة، المرتبطة بالحساسية اليسارية في مشهدنا السياسي، وانتبهنا إلى واقع اليسار اليوم في مجتمعنا، أدركنا المأزق الذي وصل إليه مشروع الحداثة في ثقافتنا. لم تنجز أحزاب اليسار، وهي في الأغلب الأعم أحزاب اشتراكية، مع مجموعات قليلة، تتبنى الماركسية من منظور عقائدي خالص، مطلب النقد الذاتي، المفتَرَض أن يكون مؤشراً على مقتضيات وعيها الجديد، بتحولات عالمٍ، تطبعه أزمة القيم وثورات التقنية، المتلاحقة بإيقاع سريع. إن معاينة أحوال اليسار المغربي، سواء في تنظيماته، أو في إعلامه ولغته، وكيفيات نظره لما جرى ويجري اليوم في بلادنا وفي العالم، تظهر بجلاء أشكال التصلب التي لحقت أنماط نظره وفعله في المشهد السياسي المغربي، حيث لا يتردد المنتسبون إليه، في استمرار تَكرارهم لمواقف وخيارات مرتبطة بسياقاتٍ تاريخية، لا علاقة بينها وبين المتغيرات التي يعرفها واقعنا اليوم. نتصوَّر أن الارتباك الذي لحق اليوم، أغلب تيارات اليسار المغربي، لا ينسجم لا مع مكاسب الفلسفة السياسية الحديثة ودروسها، ولا مع الروح التاريخية التي يحملها مشروعها في الإصلاح والتغيير. كما أن تشرذمه في حلقاتٍ مغلقة، كل بما لديهم فرحون، لا يسمح لأي منها بتحقيق الحضور التاريخي والمجتمعي المطلوبين في العمل السياسي. ترتَّب عن الانحسار الحاصل في قوى اليسار داخل مجتمعنا، اتساع ملموس في تغلغل التنظيمات المحافِظة، وهي تنظيمات ترتبط بشبكة من التيارات الهادفة إلى بناء ثقافة لا علاقة لها بالتاريخ ولا بالمستقبل، الأمر الذي يضاعف كما وضَّحنا آنفاً حاجتنا إلى التنوير، أي حاجتنا إلى العقل والتاريخ. إن تجاوز اليسار لمآلاته في الراهن المغربي، يتطلب مباشرة العمل في جبهةٍ تُعْنَى أساساً، بمواصلة العمل على مزيد من تحديث المجتمع، ولا يكون ذلك بدون رفع حال التشرذم، وبناء قطب سياسيٍ، هدفه المركزي بناء وترسيخ قيم الحداثة والتحديث في مجتمعنا.