إن معركة توطين مبادئ وقيم حقوق الإنسان في الفكر العربي، تحتاج فعلاً إلى معارك سياسية محدَّدة في قضايا موصولة بالتحوُّلات الجارية في المجتمع العربي، لكنها تحتاج أيضاً وبنفس الحدة والقوة، إلى معركة في الدفاع عن الحداثة في فكرنا المعاصر. يضعنا مفهوم حرية الفكر في قلب سؤال يرتبط بمجال الحريات بالصيغ والصوَّر التي استقر عليها، في الأدبيات المرتبطة بتطوُّره في الخطاب الفلسفي الليبرالي، كما تبلور في الفلسفات السياسية الحديثة، التي مهدت الطريق لمختلف الدلالات، التي ارتبطت بالمفهوم في صيغه المتعدِّدة والمتطوِّرة. ستنشأ الصيغة الأكثر وضوحاً لمفهوم حرية الفكر في الأدبيات السياسية المتصلة بمجال حقوق الإنسان وأجياله المتعاقبة، حيث سترتبط بالمساعي المطلبية الرامية إلى تعزيز قيم المواطنة في المجتمعات المعاصرة. وضمن هذا السياق، سيبرز المفهوم ضمن حزمة المفاهيم المتصلة ببعضها والمرادفة أحياناً لبعضها البعض، من قَبِيل الحديث عن حرية الرأي والتعبير، وحرية الإبداع ثم حرية الضمير.. يرد المفهوم كما بيَّنَّا، في الأدبيات الحقوقية في سياق الحديث المطلبي عن مجموع الحريات الفردية، وهو يرد في الأغلب الأعم باعتباره يشكل شرطاً من شروط التحديث والدمقرطة، وذلك لكونه يُعَدُّ مكوِّناً مركزي من مكوِّنات حقوق المواطنة في المجتمع الحديث. وقد لا نتردد في الحديث هنا عن الفكر باعتباره أساساً حرية، إنه فعل تحرُّر، وهو أساس المطالب المرتبطة بالحريات المدنية والسياسية. سنتجه في هذه المحاولة لتركيب محورين اثنين، نقوم في الأول منهما بترتيب سياق وأفق المفهوم، في محاولة لإبراز شروط وسياقات تبلوره النظري، والأفق الذي يرسمه في فضاء ودوائر الفلسفة السياسية ومجال حقوق الإنسان. لنفكر بعد ذلك، فيما أطلقنا عليه مطلب توطين القيم المتصلة بقضايا حرية الفكر في ثقافتنا ومجتمعنا. نفترض أن التداوُل الجاري للمفهوم في سجالاتنا السياسية والثقافية، يرتبط بمطلب توطينه في مجتمعنا وثقافتنا، لنضمن إمكانية التجديد والإبداع في المجال الفكري، ونتخلص من الأوتان التي تقيد تطلعاتنا الرامية إلى التحرُّر من قيود التقليد وثقافته المتحجِّرة. وضمن هذا الأفق بالذات، ركَّبنا مفاصل هذه المحاولة. أولاً: حرية الفكر، السياق والأفق لن نتوقف في هذه الورقة أمام مفهوم الحرية، كما تبلور وما فتئ يتطوَّر ويُنَوِّع دلالاته وأبعاده في الفلسفات المعاصرة، بل إننا سنقتصر على مواجهة مفهوم حرية الفكر ضمن الإطار النظري الفلسفي والحقوقي والسياسي، الذي أصبح يُدْرِجُه ضمن سياقات يتم فيها الحديث لا عن الحرية بالمفرد بل عن الحريات بالجمع. يرتبط مفهوم حرية الفكر بالمرجعية الفلسفية الليبرالية، وهو يفهم ضمن روح الدلالة العامة لمفردة الحرية، كما تبلورت في نصوص الفلسفة السياسية الليبرالية، وكما تطور بعد ذلك في الأدبيات الحقوقية المرتبطة بمجال حقوق الإنسان. ويمكننا أن نَنْسُب إلى منظمات المجتمع المدني العربية ومن بينها الجمعيات الحقوقية، وما يرتبط بها من تنظيمات متصلة بمجالات حقوق الإنسان، التحوُّل الذي عرفه مفهوم الحرية وحزمة الحريات ونظرياتها في ثقافتنا السياسية المعاصرة في نهاية القرن العشرين، حيث برزت معطيات جديدة في الحديث عن الحرية والحريات، وذلك تحت تأثير تحولات القيم في عالم يتغير بإيقاع سريع. وقد تَمَّ تفصيل القول وتقعيده في موضوع الحريات، وأصبحت الحرية العيانية تشير إلى الحريات، حيث أصبحنا نواجه حزمة من المفردات المركَّبة المرادفة للمفهوم، من قَبِيل حرية الرأي، وحرية المعتقد ثم حرية التعبير والإعلام. وقبل توضيح نوعية اهتمام التنظيمات الحقوقية بموضوع الحريات في صورها المتنوعة، نشير إلى أن الحديث عن حرية الفكر يرتبط بموضوع تضبطه قيود الرقابة الذاتية، كما تضبطه القوانين المؤسسية ذات الصلة بمجال الفكر ومجالات إنتاجه. وإذا كان من المؤكد أن الفكر حرية كما أشرنا آنفاً، فإن تبلور المواد الضابطة لموضوعه ومجالاته برزت بوضوح في الأدبيات الحقوقية، التي تحمل مختلف الصيغ التي اتخذ المفهوم في الفكر الحقوقي والمواثيق الحقوقية. ويمكن أن نشير هنا إلى عيِّنة من الصيغ التي ارتبطت بالمفهوم في هذه المواثيق، فنذكر أن صيغته الأولى وردت في الصيغة الأولى لإعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1889، المادة رقم 11، التي تتحدث عن الحق في التعبير والكتابة والنشر، أو في الصيغة الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، حيث نجد المادة رقم 19، التي تنص على أن لكل شخص الحق في حرية الفكر والتعبير. ومن المعلوم أن هذه الحرية تندرج ضمن مجموع الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية. نتعلم من تاريخ الفلسفة أن الحرية مفهوم لا يتجزَّأ، وهو يتخذ في علاقته بالتاريخ صوَّراً تسمح بإمكانية استيعابِ وتَمَلُّكِ ما يحققه من عمليات إغناء للفكر، وعلاقة ذلك بالتطور الحاصل في التاريخ. وبناء على ذلك، تَمَّ الانتقال في الفلسفة المعاصرة وفي الفكر الحقوقي المرتبط بأدبيات حقوق الإنسان، إلى تصنيف رزمة الحريات في الصوَّر التي أصبحت عليها في الفكر المعاصر، فأصبحنا نميز بين الحريات الفردية والحريات الجماعية، كما نميز بين الحريات الخاصة والحريات العامة. وتندرج حرية الفكر، كما تندرج حرية الرأي والتعبير في إطار الحريات الفردية العامة. وإذا كانت الحريات الفردية تُعَدُّ المجال المرتبط بالإرادة الإنسانية وخياراتها في الحياة، إضافة إلى كونها ترتبط بعمليات بنائه للتوازن التي يروم تحقيقه في المجتمع وفي الحياة، فإن حرية الفكر التي كرستها قيم الحرية في التاريخ، وعملت على ترسيخها بعد ذلك سِجلاَّت الحقوق المدنية، التي أقرها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما أقرتها بعض الدول العربية في دساتيرها، إلا أننا نلاحظ رغم كل ما ذكرنا، استمرار حضور كثير من القيم والممارسات المعادية لحرية الفكر والتجديد والاجتهاد في مجتمعاتنا، وهذا الأمر يستدعي بالضرورة مواصلة الجهود الرامية إلى استيعابه في فكرنا وثقافتنا السياسية. ساهمت النصوص والمواثيق الحقوقية، كما ساهم العاملون في الميدان الحقوقي في تَبْيِئَةِ جملة من القيم والمبادئ والقوانين بهدف تطوير المجتمع العربي، وذلك بتهييء الأرضية الاجتماعية والمرجعية القانونية، المساعدتين في مسألة ترسيخ الديمقراطية ودولة القانون. وضمن هذا الإطار، تبلور الحديث عن حرية الفكر، التي ترد في الأدبيات المتداولة في الكتابة العربية اليوم كمرادف لحرية الرأي وحرية التعبير. يضعنا مفهوم حرية الفكر أمام جملة من الأمور المعقَّدة، صحيح أن المفردة في بدايات استخدامها كانت تدفعنا إلى التفكير في تاريخ الصراع الديني في أوروبا، حيث ارتبطت حرية الرأي بحرية العقيدة والعقائد والمعتقدات، كما أن بعض أدبيات الفلسفة السياسية استخدمت المفهوم في إطار الدفاع عن حرية الفكر والعقيدة، كما نجد في كتابات اسبينوزا (1632-1677)، ودفاعه عن حرية الرأي، في الفصول الأخيرة من كتابه رسالة في اللاّهوت والسياسة. إلا أن طبيعة مقاربة المفهوم في الخطاب الفلسفي تختلف عن صوَّر تصوُّره في المواثيق ذات الطابع القانوني، وعندما نتوقَّف لتقديم مثال على ما نحن بصدده، نجد أن بعض مواقف فلاسفة الأنوار، حيث نعثر في بعض كتابات روسو (1712-1778) على معطيات مضبوطة في موضوع الإيمان وتهذيب الضمير، وكذا مسألة حرية المعتقد. نقرأ في كتاب إيميل في الفصل الذي تعرَّض فيه روسو لعقيدة قس من جبل سافوا على جدل يتناول موضوع الإيمان الديني، وذلك في سياق التفكير في التربية والتربية الدينية داخل المجتمع، حيث يعتقد روسو أنه يمكن أن يُعلَّم الأطفال بعد تجاوزهم سن الخامسة عشر، ما يوضح مسألة العلاقة بين الخلق والخالق. ويركِّب في خطابه عقيدة بسيطة منافية للتعصب، ومؤدية إلى نوع من التهذيب المساعد في تكوين المواطنين، وبناء مجتمع متجانس. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن معطيات نص روسو وتصوراته للدين والإيمان الديني، تندرج ضمن منظور مفكري عصر الأنوار للمجتمع الجديد، حيث كان يدور نقاش فلسفي حول حرية العقيدة والدين الطبيعي. ويتجه البحث في كثير من أعمال فلاسفة الأنوار للمقارنة بين مبادئ الدين الطبيعي ومبادئ الديانات الأخرى، مع محاولات للتمييز بين الدين الطبيعي والنزعات اللادينية. أما أبرز الخلاصات التي ركبها التصور الفلسفي الأنواري للدين الطبيعي، فيمكن ضبطها في عنصرين أساسين، يتمثل أولهما في إعطاء الأولوية للعقل، ويتمثل الثاني في مبدأي الوضوح والبساطة. وإذا كان بعض دعاة الدين الطبيعي ينكرون الوحي، فإن روسو منح في تصوراته الدينية مكانة خاصة للدين وللضمير الأخلاقي عند الإنسان. لا شك أن حاجة مجتمعاتنا وثقافتنا إلى مناخ الحرية وقيمها تُعَدُّ مسألة ملحة، يعود ذلك إلى سطوة آليات عديدة للفكر التقليدي في أنظمتنا في التعليم والإعلام، دون أن نتحدث عن أنظمتنا السياسية وأساليب ممارستها للسلطة والتدبير السياسيين، الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة العناية بالمفهوم ومرادفاته، لعلنا نساهم في إنجاز ما يوسع دوائر الحرية والتحرُّر في مجتمعنا. إن اتساع مجال الرأي والتعبير في عالم يزداد تعولماً، وتَعْرِف معارفه وتقنياته إيقاعاً يتضاعف باستمرار، الأمر الذي نَقَلَ وينقُل موضوع حرية الفكر إلى مستويات أخرى، فلم تعد حرية الفكر تنحصر في إبداء الرأي ونشره، بل إنها تزداد اليوم اتساعاً بحكم اتساع وتنوع فضاءات الفكر والثقافة والإبداع، سواء في المستوى الورقي أو في الفضاءات الافتراضية التي يصعب اليوم ضبط أمكنتها وحدودها. الأمر الذي يفتح الموضوع على إشكالات أخرى، سياسية وقانونية وفلسفية. يمكن أن نشير هنا كذلك إلى المسيرات الاحتجاجية والمظاهرات والعرائض، ومختلف التعبيرات والمواقف التي تُعْنَى برصد تحولات الرموز والإشارات المستخدمة في الحياة العامة. يتعلق الأمر بوسائل ووسائط الفكر التي لا تستخدم اللغة الملفوظة، أو اللغة المعبَّر عنها برموز وأحرف وكلمات، بل تستعمل الشارات واعتماد لباس معين أو إشارات بعينها، لتمارس مثلاً الامتناع عن التصويت في الانتخابات، أو التعبيرات التي تقوم باستخدام أفعال جديدة في الفضاء العام، مثل إضرام النار في الجسد احتجاجاً وتعبيراً عن مواقف بعينها، إلى غير ذلك من الإرهاصات التي لاحت علامتها ومظاهرها الأولى في عالم يتغير بوتائر سريعة.. ثانياً: في مطلب حرية الفكر يرافق مبدأ حرية الفكر في ثقافتنا المعاصرة مختلف المعارك المرتبطة بدمقرطة وتحديث المجتمعات العربية، وقد تضاعفت أهميته في العقود الأخيرة لتُوَاكِب وتستفيد من المكاسب، التي انتقلت إلى مجتمعاتنا العربية في زمن التعولم القسري، الذي يجتاح العالم، حيث تُمَارَس عملية تنميط تَحُدُّ من أفعال الحرية والتحرر في مختلف أبعادهما، الأمر الذي يضاعف من خطورة استمرار التراجع الحاصل في مجال الحريات في مجتمعاتنا، ويدفع إلى مضاعفة الجهد من أجل مزيد من توطين قيم التحديث السياسي. إن تطلعات النخب العربية لتعميم حرية الفكر والتعبير والمواقف، رغم أشكال التضييق الداخلية وأصناف الحصار الخارجية التي تعترضنا، يمكن أن ندرجها ضمن معركتين كبيرتين قائمتين في أغلب المجتمعات العربية، معركة الإصلاح السياسي الديمقراطي، ومعركة استيعاب مآثر حقوق الإنسان، ومن بينها حقه في التعبير والرأي، وبلورة مواقف تخصه في القضايا العامة. تسلم الفلسفة الكامنة وراء نص ميثاق 48 لحقوق الإنسان، بنسبية المعارف والقوانين والقيم. وهي الفلسفة التي مهدت للفكر التاريخي، الذي هيمن على التوجهات النظرية العامة للفلسفة المعاصرة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، الأمر الذي يعني أن كثيراً من النقاشات التي كانت تتجه لإضفاء الطابع المطلق على مواثيق حقوق الإنسان العالمية، سواء في فكرنا أم في الفكر المعاصر، لم تكن تعي بصورة واضحة المبادئ الفلسفية الكبرى الموجهة لروح هذه المواثيق، فهي تتناسى البعد التاريخي والروح الوضعية والأفق الحداثي الموجه للغتها، وتعمل مقابل ذلك، على استحضار لغة المطلقات لحظة التفكير في بنودها. لهذا السبب نرى أن إعداد مداخل نظرية لمناقشة أسئلة حقوق الإنسان في الفكر العربي والممارسة السياسية العربية، وفي إطارها مطلب حرية الفكر، يساعد على إدراك أكثر شمولية لهذه الحقوق، ويمكِّن في نهاية التحليل من بناء وعي يزاوج بين الممارسة المناهضة للتسلط والقهر وانعدام الحرية، وبين بناء الرؤية الفكرية الجديدة، التي تُعْنَى بقضايا حقوق الإنسان ضمن ما مكاسب الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر. إن معركة توطين مبادئ وقيم حقوق الإنسان في الفكر العربي، تحتاج فعلاً إلى معارك سياسية محدَّدة في قضايا موصولة بالتحوُّلات الجارية في المجتمع العربي، لكنها تحتاج أيضاً وبنفس الحدة والقوة، إلى معركة في الدفاع عن الحداثة في فكرنا المعاصر. ولابد هنا من توضيح أننا لا نتصوَّر أن هذا الدفاع سيكتفي بنسخ قيم الحداثة ومبادئها كما تبلورت في الفكر الحديث والمعاصر، بل إنه مُطَالَبٌ بإعادة تركيب مقدمات الحداثة وآفاقها في ضوء تطوُّرات التاريخ المعاصر، أي في ضوء المكاسب والإخفاقات التي تراكمت وما فتئت تتراكم في تاريخنا المعاصر، تاريخنا المحلي والخاص، وتاريخ الإنسانية العام الحاصل بجوارنا، وهو الأمر الذي يعني العمل في إطار إسئلة وإشكالات الفكر المعاصر، التي نعتقد أنها تتجه لإعادة بناء مشروع الفكر الحديث في ضوء المتغيرات الجارية وعلى مختلف الصعد والمستويات. عندما نتابع النقاشات السائدة في مسألة العالمية والخصوصية في مجال حقوق الإنسان، نلاحظ أن كثيراً من القضايا التي تطرح فيها غير ذات موضوع، فهي تعمل على تركيب إشكالات لا تتجاوز في المستوى النظري عتبة ما يعرف بتحصيل الحاصل؛ إنها تربط ميثاق 48 على سبيل المثال، بشروطه التاريخية والنظرية وكذا بالسياق السياسي الذي تبلور في محيطه، وهذا الأمر في حد ذاته يناقض النتائج التي يتم التوصل إليها. ولا يمكن لأي مقتنع بمكاسب الفكر الفلسفي الحديث والمطلع في الوقت نفسه على ملابسات إنشاء الميثاق المذكور، إلا أن ينظر إلى الترابط الذي نؤكد عليه باعتباره امتيازاً تاريخياً يمنح الميثاق جدارة انتسابه لزمن محدَّد ساهم في إنشائه، كما يمنحه في الآن نفسه، خصائص النص القائم على توافق تاريخي قابل للتجاوز متى توفرت شروط ذلك، لكن الذين يخاصمونه بناء على المقدمات نفسها يتجنبون المعطيات التي ذكرنا، ليعودوا أدراجهم نحو تصوُّرات أخرى نقيضة، تصوُّرات معادية للتاريخ وللنسبية في التاريخ، فنصبح أمام مواجهة غير متكافئة، مواجهة تضع دوغما مغلقة أمام نصٍّ مؤسَّسٍ في إطار توافق تاريخي. ستظل المعارك المشار إليها تدور بصور مختلفة، في كثير من المجتمعات العربية، إلى حين الحسم في المطالب المرتبطة بها. ولا شك أن صعوبة تحقيق مكاسب في هذا الباب، ترتبط بسُمْك وعمق التقاليد ورسوخها في الذهنيات والمجتمعات، الأمر الذي يستدعي كثيراً من الجهد وكثيراً من المواجهات، التي تُمَكِّن مجتمعاتنا من إدراك أن مظاهر التأخر والتراجع الحاصلة اليوم في عالمنا، تعود إلى عدم قدرتنا على تجاوز أنظمة القبيلة والعقيدة في مجتمعاتنا، وبناء بدائلها المتمثلة في مجتمعات المصلحة والتضامن، مصلحة القانون والمؤسسات. في الانتصار لحرية الفكر عندما يتأمل المرء درجة سمك التقليد في المجتمعات العربية، يدرك جوانب من صعوبات المواجهات المتواصلة في مجتمعاتنا منذ عقود من الزمن، بين دعاة الحرية والتحرر وحُماة التقليد والانكفاء. وفي المعارك التي تتواصل بأشكال عديدة في الحاضر العربي، ما يؤكد حدَّة الممانعة التي تمتلكها قوى التقليد في مجتمعنا، ويدعو القوى المتحررة إلى مزيد من البحث والمساهمة في بناء الدعائم المجتمعية والثقافية، القادرة على إسناد مجتمع الحريات المأمول، مجتمع المعرفة والتقدم. بدأت المعركة مع التقليد في المجتمعات العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وساهم رواد النهضة العربية في فتح أبواب المستقبل أمام المجتمعات العربية، بانفتاحهم على المكاسب الفكرية، والسياسية التي تبلورت في الأزمنة الحديثة، وسعيهم لتمثلها وتوطين مبادئها داخل مجتمعاتنا. إنّ الأدوار الرائدة التي دشّنتها كثير من منابر النهضويين العرب بروحها الموسوعية وأفقها المستقبلي، منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، مَكَّنت الفكر العربي في القرنين الماضيين من الاقتراب من عوالم جديدة، وأتاحت له في الآن نفسه، مراجعة قناعات مغلقة سائدة. إلاّ أنّ نمط تغلغل التقليد والتقاليد في تلافيف بنيات المجتمع والثقافة، لم يسمح بكسر أنماط الفكر العتيق وقوالبه السائدة، وذلك رغم صور المواجهة التي اتخذت في فكرنا المعاصر صورة معارك معبّرة عن حدّة الاصطدام الحاصل بين ثقافة الحداثة وبنيات التقليد المهيمنة، فقد فجّرت المعارك المذكورة قضايا متعدّدة، ووضعت الثقافة العربيّة أمام سؤال حرّيّة الفكر. شكّلت المعطيات المترتّبة عن المعارك المشار إليها، ما يمكن إدراجه في باب البحث عن إيجاد طريق ملائم يضع مجتمعاتنا في قلب المكاسب التي بنتها التحولات المعرفيّة والتاريخيّة، في عالم يتغيّر بإيقاع جارف. ولأنّ التقليد متواصل في مجتمعنا بصور وآليّات جديدة، فإنّنا نفترض أنّ النخب الجديدة مدعوة إلى مواصلة حفر مجارٍ أخرى، لمغالبة صور الممانعة والانكفاء المتواصلين في حياتنا. إنّ الإيمان بحتميّة كسر شوكة التقليد والانتصار عليه، قصد فتح الباب أمام مجتمع الحرية والتحرّر في مجتمعاتنا، مجتمع حرية الفكر والإبداع، يَهَبُ المؤمنين به طموحات وقدرات هائلة لمحاصرة جيوب التقليد التي تروم اليوم نشر معطيات شبكاتها التواصلية الجديدة وتعميمها. ما زال المشهدان الديني والثقافي في العالم العربي، يقدِّمان الدليل على صوَّر الحصارين السياسي والذهني السائدة في أغلب المجتمعات العربية. وما زلنا بحاجة إلى بناء مشروع عربي في باب حرية الاجتهاد، ذلك أن تحرير المجتمعات من الجمود، وإعادة تكوين القدرة على الخلق والإبداع، لا يتمَّان إلا بتعميم النظرة التاريخية المقارنة في الثقافة العامة. نعترض على أشكال التوظيف التي تمارس اليوم على الإسلام في مجتمعاتنا، ونواجه صور البلبلة والخلط التي تزداد اتساعا في أزمنة المحافظين الجدد، وتابعيهم من الجهاديين والسلفيين، والمقاومين للغطرسة الغربية بأسلحة التجييش الأعمى، ولغات الأزمنة القديمة. ومقابل ذلك، لا نستبعد مكاسب الروحانيات الصانعة اليوم لكثير من مزايا عصرنا في التقنية والمعرفة والفن، وفي الجمال. نحن نشير هنا إلى الجماليات والفنون ومبتكرات التقنية البانية لمآثر العالم الكبرى وروحانياته الجديدة. وفي هذا السياق، نتجه للتفكير مع عبد الله العروي في مطلب تجديد أسس الإيمان الديني في مجتمع جديد، بهدف تحرير الدين من سطوة الجهل. فقد لمسنا في أعماله الأخيرة توجها جديدا في الكتابة، يروم الاقتراب من هيمنة صور التوظيف الجديدة للمقدس بطريقته الخاصة، المرتبطة بمشروعه الفكري في الإصلاح والتحديث. نتبيَّن جوانب من منظوره الجديد في مقدمة الترجمة التي نشر بعنوان دين الفطرة، حيث قام بتعريب جزء من كتاب إيميل لروسو، ليتوقف أمام الموقف من أسئلة الصراع الديني في المجتمعات العربية بطريقة حاول فيها إبراز بعض الجوانب المفيدة في فكر روسو وأهمية الاستعانة بها لمواجهة بعض أسئلتنا في الموضوع نفسه. إن مفاهيم من قبيل الفرد، الضمير، الطبيعة، المجتمع، البساطة، نفي التعصب، وهي مفاهيم ساهمت كتابات روسو في بنائها بروح أنوارية، كما ساهمت في تعميمها، تندرج في السجل النظري للتحديث السياسي، حيث تشكل ما يمكن اعتباره، بمثابة قاعدة مركزية في المنظور الفلسفي الحداثي. وتحتل هذه المفاهيم اليوم مكاناً هاماً داخل سجالاتنا الرامية إلى امتحان أدبيات الأنوار في ضوء أسئلتنا الخاصة في الفكر والسياسة والتاريخ. ونحن نعتقد أنها مفاهيم تساعدنا في باب توسيع دوائر الجدل حول موقف من حرية الفكر. نحن نعتبر أن ما هو قوي في أدبيات روسو وفلسفة الأنوار، يتمثل في إبراز أهمية الضمير، ضمير الفرد الحر، وإلحاحه على الصدق والصراحة في باب الإيمان. إن موضوعها المركزي بلغة العروي «هو الهم الديني، أسئلة الدين في مجتمعنا اليوم»، وهي أسئلة مرتبطة كما نعرف بمشروع توطين الحداثة في فكرنا المعاصر.