كلّما طرح نقاش في المجتمعات العربية في موضوع الحرية والحريات، تُلصق بالمدافعين عن الحرية تُهْمَة تقليد الآخرين، ونسخ تجاربهم وفلسفاتهم، وهي تجارب وفلسفات لا صلة لها، في نظر المنتقدين، بثقافتنا ومجتمعنا. وتضمر هذه التُّهمة موقفاً ينطلق أصحابه من النظر إلى مجتمعنا من زاوية تعزله عن مساراته التاريخية المركبة، كما تبعده عن صور التفاعل التي ركَّب وبَنَى مع ثقافات العالم في مراحل تطوره. ويغفل الذين يرددون الحكم المذكور ما راكمت مجتمعاتنا من مكاسب ومنجزات تاريخية، ساهمت في إغناء مسارنا التاريخي العام. وغالباً ما يتبنَّى أصحاب هذا الموقف تصوراً يستبعد أي إمكانية للمقارنة بين أحوال المجتمعات في التاريخ، وفي هذا الأمر كثير من الانغلاق والتحجُّر. نشأ هذا الموقف المحافظ في فكرنا المعاصر في الإرهاصات الأولى لخطابات النهضة العربية، في مطلع القرن التاسع عشر، ثم اتخذ صوراً عديدة في عقود القرن العشرين، وهو يواصل حضوره اليوم بصيغ متعدِّدة، كاشفاً عدم قدرتنا على إدراك نتائج وآثار التفاعل في عمليات التطور التي لحقت ذاتنا في التاريخ. تعرَّف العرب على مفهوم الحرية ومنظومتها السياسية الحديثة والمعاصرة في القرن التاسع عشر زمن التنظيمات، أي في الزمن الذي تبلورت فيه دعاوى النهضة والإصلاح. وقد ساهمت أعمال رواد النهضة، وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، تمثيلاً لا حصراً، في منح المفردة دلالات ولونيات تستجيب لمعطيات الزمن الذي تبلورت في سياقه. وحصل بعد ذلك، وفي سياق تعاقب عقود القرن العشرين، وما حصل فيها من معارك مناهضة للاحتلال الأجنبي في أغلب البلدان العربية، تطور مهم في كيفيات استيعاب فكرنا السياسي أطروحات الحرية، حيث أنجزت كتابات لطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين، في النصف الأول من القرن العشرين، تحوُّلاً واضحاً، في موضوع التفكير في الحرية وأدوارها في تطوُّر الوعي السياسي العربي. وقد كان لطفي السيد يوضح دائماً وقبل قرن، أن «حريتنا ليست مذهباً نستورده، بل حاجة نحسها وتَخُصُّنَا». اتّخذت تمظهرات مفهوم الحرية في فكرنا المعاصر تجليات متعددة، وتبلورت من خلال مفاهيم أخرى، متصلة بنسيج الكتابة السياسية العربية، وقد اتخذت نوعية حضورها المتنوِّع في منتوج فكرنا، في العقود الأخيرة من القرن الماضي، في الآداب والفنون، وفي مختلف مظاهر الحياة في المجتمع، اتخذت وزناً دالاً على حاجتنا الماسّة إليها، تعلق الأمر بصيغها النظرية الرامية إلى بناء تصورات في الفكر، أو في مستوى الممارسة المقترنة بأشكال من توظيف شعارات الحرية، بهدف تعميم ثقافة سياسية جديدة، يكون فيها للإنسان وخياراته في الحياة والمجتمع المكانة التي تليق بتطلعاته وطموحاته في الاستقلال والتقدم. قد لا نجازف، عندما نقرِّر أن مفردة حرية تعد اليوم من أكثر المفردات تداولاً في الإعلام العربي، ونزداد تأكداً من هذا الأمر، عندما نقرن عودة المفردة إلى التداول، في السنوات الأربع الأخيرة، بالانفجارات التي حصلت سنة 2011 في بلدان عربية كثيرة، حيث ما تزال تداعيات ما حصل تضع علامات بارزة كثيرة في المشهد السياسي العربي، مشرقاً ومغرباً، ولأغلب هذه العلامات صلات بموضوع الحرية والتحرُّر. يسمح لنا البسط الذي رتَّبْنا في الفقرات السابقة، بتعيين جوانب من جهود الفكر السياسي العربي وإبرازها، في تمثُّل الحرية ومرجعياتها في الفكر وفي المجتمع، الأمر الذي يكشف قدرة المجتمع العربي التفاعلية مع كل ما هو أصيل وإيجابي في الفكر الإنساني، كما يكشف طرائق نخبنا في استيعاب كل ما يمكن أن يساهم في تحقيق التقدم العربي. لم تعد الحريات ومذاهبها في ثقافتنا المعاصرة، بناء على ما سبق، فكراً مستورداً ولا فكراً آخر لا علاقة له بنا، فقد مَرَّ الآن ما يزيد على قرنين على عمليات انخراطنا في تملُّك أصول الحرية وقواعدها، ولم يعد في وسع أحد أن يتحدث عن استيرادنا فكر الحرية، ففي تجاربنا التاريخية ضد الاستعمار، وفي معاركنا المتواصلة ضد الاستبداد وتغييب الحريات، ما صنع ويصنع في حاضرنا أرصدة نظرية وتاريخية في بناء منظورنا الرمزي، ومرجعيتنا الخاصة بالحرية وتاريخها. وبناء عليه، نعلن استغرابنا من الخطابات المحافظة التي تعود بين حين وآخر، لتردد على مسامعنا أسطوانة الفكر المستورد، في وقت يتجه فكرنا، ومنذ عقود، إلى بناء نظرية في الحرية، لا تجد أي حرج في استلهام كل ما هو مفيد في موضوع التغني بالحرية والإعلاء من شأنها. محاضر في جامعات ومؤسسات بحث عن «العربي الجديد»