ها هو ذا النقاش العقيم يعود الى الواجهة مرّةً أخرى عن إشكالية تدريس «المواد العلمية» باللغات الأجنبية غير العربية فى المغرب، وها هو ذا مجلس النواب المغربي يسارع على المصادقة لإجازة تدريس هذه المواد بلغة موليير ! يتّهم غير قليل من الملاحظين والمثقفين من المتتبّعين للشأن الداخلي للبلاد رجالَ السياسة، من حزبيين وبرلمانييّن ومعهم بعض الوزراء، أنهم فقط يسعون من وراء ذلك تحقيق مصالحهم الشخصية، والحفاظ على مناصبهم ونفوذهم .وحيال هذا الامر ينتفض المحافظون للتصدّي لهذه الصنيع، وبالاضافة لهؤلاء وأولئك يقف الخبراء وعلماء فقه اللغة ،ورجال الفكر، والمثقفون مُتعجّبين ممّا يرون، مشدوهين ممّا يشاهدون، ذاهلين ممّا يسمعون، وبين صيحات «جوقة» السياسيّين واحتجاجات «صفوة» المحافظين وإدانات «نخبة» العلماء، تتعالى وتصل إلينا أصوات من وراء الغيب ..وتشرئبّ خلف الآفاق البعيدة وجوه وهيادب آدمية تطلّ بهامتها علينا من أعالي قمم الآكام الشاهقة، والمرتفعات الشامخة..إنها وجوه طيّبة خيّرة نعرفها ونحبّها، ونقدّرها جيّداً كانت بشوشة باسمة فى حياتها، تتراءى لنا اليوم بعد الرحيل عبوسةً واجمة ممّا يحدث..وجوه من قبيل: عبد الله كنون، المختار السوسي، محمد الفاسي، ابراهيم الكتاني، محمد داوود، عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي، محمد الصبّاغ، عبد المجيد بنجلون ،عمر بنجلون، علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، المهدي بنبركة، المهدي المنجرة، محمد العربي المساري، محمد العربي الخطابي ،عبد العزيز بن عبد الله، أحمد الأخضر الغزال، محمد بنشريفة، ناصر الدين الأسد ، العقاد، طه حسين، تيمور، شوقي، حافظ ابراهيم، الرّافعي، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، شكيب أرسلان ،الزهراوي، الرّازي،ابن البيطار، الكِندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد، ابن طفيل،ابراهيم موسى ابن ميمون (اليهودي الذي كتب كلّ تآليفه باللغة العربية)،البحتري، المتنبّي، أبو تمّام ،ابن باجة ،ابن هانئ القسطلي، ابن زيدون ، لسان الدين بن الخطيب،ابن سهل، ابن زمرك ، المقرّي ،الشنتريني، فاطمة الفهرية، ولاّدة، حمدونة بنت المؤدّب، ابن خلّكان، الثعالي،أبو عليٍّ الفارسيّ، ابن جنّي، الغزالي، التوحيدي، ابن عربي المُرسي ، الحلوي، الخمّار، مفدي زكريا، الشابّي، الجواهري، البياتي ، قباني، الجابري، وسواها من الوجوه التي تتسابق وتتلاحق من كلّ صوبٍ وحدب لتتعانق وتصيح بصوت جهوري وهي تقول : ربّاه ماذا يحدث في هذا البلد الأمين..؟ هذا النقاش العقيم العائد حول اللغة التي ينبغي استعمالها فى تعليم النشء الصاعد..هل، وهل ،وهل ؟؟ وأخيراً استقرّ اختيارهم على لغة المستعمر الدخيل الذي أذاق غير قليل من المغاربة شرور التشاجر والتناحر، والذي طمس ينابيع ومكوّنات هويّتهم ولطخ روافدهم ومشاربهم ، والذي نهب خيراتهم، وبدّد ثرواتهم، واستغلّ معادنهم، ولوّث وسطهم، وبيئتهم ومياههم، وبحورهم، وحرّف تاريخهم وشوّه تقاليدهم، وقضّ مضجعهم، وأحال بطولاتهم وانتصاراتهم إلى قبضٍ من ريح ، أو إلى حصادٍ من هشيم. وحريّ بنا والحالة هذه أن نعود حيال هذه النازلة إلى أصل هذه الإشكاليات وإلى جذورها غير البعيدة عنّا زماناً ومكاناً . دعوات وئدت فى مهدها هذه الخطوة التي خطاها أو خبطها خبط عشواء القائمون على التعليم في المغرب لإدراج ضمن مناهجه التربوية تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، هذه اللغة التي أمست تعرف تقهقراً وتراجعاً على الصعيد العالمي وفى المحافل والمنظمات الدولية والتي أزاحتها لغة شكسبير منذ سنوات خلت وحلّت محلها فى مختلف جامعات ومؤسّسات ومعاهد العالم العليا حتى في البلدان التي كانت للفرنسية فيها هيمنة وسيطرة وسطوة وحضور ونفوذ كبير مثل الجزائر الشقيقة وفي العديد من البلدان الافريقية الأخرى، هذه الخطوة لن تحمد عقباها على المدى القريب ،فردود الفعل من مختلف الجهات لم تتوان ولم تتأخر فى التصدّي لهذا الإجراء الذي لا يمتّ إلى ثقافة وفكر وتاريخ المغرب بصلة ،هؤلاء المخططون الذين نزلت فعلتهم على كلّ غيور فى هذا البلد وعلى وتاريخه نزولَ الصاعقة ، هذا الحلم المرعب الذي لم يكن فى حسبان أيّ مثقف أصيل ، حرّ، نزيه يريد الخير لهذا البلد ولأهله وذويه،إنهم بهذا القرار المُجحف كأنما هم عادوا بنا الزمانَ القهقرى وجعلوا منا ومن بلدهم أضحوكة حيث لم يتأخر كل من علم بهذا الخبر إلاّ وانخرط فى سخرية ، وتهكم وازدراء . هذه الخطوة انسلخت وتفتقت وظهرت بعد النقاش، أو الجدال الذي دار رحاهما عندما انطلقت دعوة سابقة جوفاء تدعو إلى إدراج تدريس الدراجة أو العامية المغربية ضمن مناهج التعليم فى المغرب والتي كانت قد صدرت من جهات مشبوهة مشكوك فى نيتها، وفى هويتها، ومسعاها، وكذا في مستواها الثقافي ،وتكوينها الأكاديمي، هذه الدعوة كان قد تصدّى لها كذلك كل غيور على مصلحة هذا الوطن، وكان فى اعتقادنا أن هذه الأصوات الحرّة قد أسكتت هذه الأبواق التي تروم الخروج عمّا كان مألوفاً ومعروفاً فى مناهج التعليم، وقلنا إبّانئذٍ إنّ الدعوة إلى تبسيط اللغة ونحوها وقواعدها كانت تهدف إلى مراجعة بعض المسائل التي تشغل بال اللغويين واللسنيين والمثقفين لتقريب ذات البين بين لغة فصحى تتسم بالخصوبة والفحولة وبين لغة مبسطة، تنأى عن الكلمات والتعبير والمصطلحات الحوشية المهجورة . مثل هذه الدعوات طالما نادى بها وروّج لها من قبل غير قليل من المثقفين الذين كان فى قلوبهم غلّ أو فى قولهم خلل. فمنذ منتصف القرن الماضي حار قوم في استعمال الفصحى أم العامية ، وتعدّدت الدراسات فى هذا المجال بين مؤيّد للعامية متعصّب لها بدعوى التبسيط والسهولة واليُسر ، وبين مستمسكٍ بالفصحى لا يرضى بها بديلا . والحقيقة التى أثبتتها السّنون أن الغلبة كانت للفصحى على الرغم من هذه الدعوات والمحاولات، فكم من كاتب نادى وتحمّس للعاميّة وعمل على نشرها وتعميمها ،ثمّ عاد ليكتب بفصحى ناصعة صافية نقيّة، وفي فترة مّا من فترات حياة محمود تيمور كان قد تحوّل عن الفصحى إلى العامية بل إنه كتب قصصاً بها غير أنه سرعان ما عاد كاتباً عربياً مبيناً . ودعوات الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل ، وسواه من الكتّاب إلى استعمال العامية معروفة وسال من أجلها حبر غزير ولكنها لم تجد آذاناً صاغيةً بين المثقفين . مع ذلك ما زالت تترى وتتوالى الدّراسات، وتتعدّد وتتنوّع النقاشات،وتُطرح التساؤلات،والتخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب علوم الحداثة، والعصرنة والإبتكار، والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني ،وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمذهل، كما تحمّس بالمقابل فريق آخر فأبرز إمكاناتها ، وطاقاتها الكبرى مستشهداً بتجربة الماضي، حيث بلغت في نقل العلوم وترجمتها شأواً بعيداً، كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد أن يُصبح حديثَ جميع المجالس، والمنتديات، والمؤتمرات في مختلف البلدان العربية ثمّ هم فعلوا ذلك متوخّين إحلال محلّها لغةَ المستعمِر الدخيل، وجدير بنا أن نذكّر في هذا المقام ببعض المسائل والقضايا المفتعلة التى أثيرت فى هذا المضمار منها إشكاليات : الحرف والنحو العربيين، وشكل الكلمات، والعاميّة والفصحى التي سبق الحديث عنها آنفاً . الحرف العربي في ما يتعلق بالحرف العربي – فقد تعدّدت محاولات إصلاحه، وتحسينه، ولكنّها باءت بالفشل ، وظلّت الغلبة للأشكال المتوارثة التي كتبت بها عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الميادين العلميّة والفلسفية والأدبية وسواها، زعموا أنّ شكل الحرف العربي الرّاهن وتركيبه لا يتّفق مع العصر، وأنّ رصف صفحة بالخط الفرنجي يعادل في الزّمن رصف صفحتين بالخط العربي لتزايد عيونه التي تتعدّد وتتغيّر بتغيير مواقعها فى الأوّل أو الوسط أو الأخيروهكذا…فقدّم لنا بعضُ الباحثين أشكالاً متباينة لخطّ جديد تشبه الى حدّ بعيد رسوم الخط الفرنجي، غير أنّ القارئ يكتشف منذ الوهلة الأولى أنها في غالبيتها أشكال غريبة عليه يمجّها ذوقه السليم، بل إنها في بعض الأحيان تكلّفه عناء شديداً في تهجي حرف واحد منها ،والحقيقة أنّ جمالية الحرف العربي وظلاله لا تبارى ، فقد ثبت الآن أنه حرف مثالي في جمال تكوينه، وشكله، وتنوّعه، والتوائه، واستوائه، وتعريجاته، واختصاره، ثم إن تطوّر وإستعمال الحواسيب الإلكترونية المتطوّرة الحديثة تتّجه سريعا نحو أساليب جديدة مبتكرة للكتابة ،ومعنى ذلك هو العدول بالتدريج عن أسلوب الرصف الحرفي واختصار القوالب،وقد توصّل بعض العلماء إلى إبتكار رسم حديث للحرف العربي لا يخرجه عن شكله، ولا يبعده عن أصله ومع استعمال الكومبيوتر واحتضانه، وانتشاره وقبوله للحرف العربي بسهولة ويُسر بنجاح باهر وبنتيجة مُذهلة سقطت دعوى الداعين إلى إستبداله بالحروف اللاتينية. إنه لمن السّخف أن نجد بين ظهرانينا من تسمح لهم أنفسهم بالدعوة إلى استبدال الحرف العربي باللاتيني، متّخذين ممّا إبتدعه مصطفى أتاتورك للّغة التركية مثالا يُحتذى، وكذلك بدعوى السهولة واليسر وضبط الكتابة، وإبراز حركات الحروف، وهذه الدعوى باطلة من أساسها ، تحمّس لها بعض خصوم هذه اللغة في القرن الماضي منهم الكاتب سلامة موسى فى مصر الذي دافع عن هذه الفكرة ، وقدّم مقترحات فى شأنها نجملها في ما يلي: « إلغاء الإعراب ،وميزاته الإقتراب من التوحيد البشري لأنه وسيلة للقراءة والكتابة عند الذين يملكون الصناعة ، أيّ العلم والقوّة والمستقبل.وهذا الخط تأخذ به الأمم التي ترغب فى التجدّد كما فعلت تركيا وحين نصطنع الخط اللاتيني يزول هذا الإنفصال النفسي الذي أحدثته الكلمتان : شرق وغرب،ويضمن لنا أن نعيش العيشة العصرية ،ولابد أن يجرّ هذا الخط في أثره كثيرا من ضروب الإصلاح الأخرى مثل المساواة الإقتصادية بين الجنسين، والتفكير العلمي، والعقلية بل والنفسيّة العلمية أيضا،إلخ وأخيراً: إننا عندما نكتب الخط اللاتيني نجد أن تعلّم اللغات الأروبية قد سهل أيضا، فتنفتح لنا آفاق هي الآن مغلقة.» لا شكّ أن القارئ يلاحظ كم في هذه الدعوة من مغالاة الا تسنتد إلى أساس سليم تُبنى عليه،والتي لا ترمي سوى إلى تشتيت التراث العربي وتشويهه. ولم يُكتب النجاح لدعوة سلامة موسى ودعوات غيره من أمثال أمين شميل ، وعبد العزيز فهمي، وقبلهما الدكتور سبيتا ،وويلمور، ووليم ويلكوكس ، وسواهم، وظلت السيطرة للحرف العربي إلى اليوم ، ثم ماذا كان سيفعل هؤلاء في كثير من الحروف العربية التى لا تجد لها رسماً سوى فى النطق العربي كحروف : الحاء، والغين ، والعين، والذال، والضاد، والطاء، والقاف،والثاء ،والهاء..إلخ. ثم ماذا سيكون موقفهم من التراث العربي المكتوب بحروف عربية..؟ وهكذا وئدت هذه الدعوة في مهدها . النّحوُ العربيّ ما من « نحو « في أيّ لغة من لغات الأرض إلاّ ويعاني أصحابها من هذه شكوى صعوبته. ولقد أصبح « نحو « اللغة الألمانية مضربَ الأمثال في الصّعوبة والتعقيد، على أن قواعد اللغة العربية ليست أشدّ صعوبة من هذه اللغة أو تلك. إن الخطأ الفادح الذى يقع فيه واضعو مناهج التعليم كونهم يلقنون القواعد في صورتها الجافة قبل النصوص ،فى حين نجد القائمين على مناهج التعليم فى المدارس الأوربية، على اختلافها، يعوّدون التلميذ على التعامل مع النصّ فى المقام الأول، فهو يقرأ ويعيد ويحفظ من غير أن يكون ذا إلمام بعلم النحو ، ثم يطبّق بعد ذلك ما قرأه على القواعد ،فالتعامل مع النصوص يكسب المتعلّم سليقة فطرية ،ويعوّده بطريقة تلقائية على أشكال الحروف وبنائها وتراكيبها وتعدّد أساليبها ، فقد وجدت النصوص مذ كانت العربية ، أمّا النحو» كعلم قائم مدوّن» فلم يوضع إلاّ فى زمنٍ متاخّر، أيّ في القرن الأوّل الهجري على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي. لقد كانت العرب تنطق بالسليقة ، ولا تخطئ أبدا فى كلامها كما أنّ كثيراً من علماء العربية وواضعي معاجمها المشهورة كانوا يقصدون الأعراب في البوادي حيث العربية نقيّة غير مشوبة فيأخذون عنهم النطقَ الصحيح فيها. فالشكوى من النحو هي شكوى من قواعده الجافة الموضوعة في قوالب مملّة شأنها شأن القوانين الجامدة، أما اللغة العربية فإنّ المران والممارسة يكسبان دارسيها مهارة فائقة على التركيب السليم ،والنطق الصحيح ، والقول المُعرب قوامه القراءة الكثيرة، والخوض فى النصوص، وهذا ما نرجو أن يتمّ ويعمّم فى مناهج تعليمنا، أيّ مضاعفة حصص النصوص، وحسن اختيار القواعد. وقديماً قيل : وَلسْتُ بنحويٍّ يلوكُ لِسانُه / ولكنْ سليقيٌّ أقول فأُعْرِبُ ! مسألة الشّكل تنبثق عن النحو مسألة أخرى وهي شكل الحروف العربية ، تفادياً للغموض واللبس والإبهام. وهناك إتهام مشهور يوجّه لأبناء اللغة العربية، في هذا الصدد، وهو أنه حتى كبار دارسيها يحارون أو يتعثّرون فى بعض الأحيان عند قراءة نصّ من النصوص العربية مخافة الخطأ أو اللحن ومن أجل شكلها شكلاً صحيحاً. على حين أننا نجد القارئ الفرنسي، أو الإسباني – مثلا- حتى وإن كان دون مستوى مرحلة الثانوية العامّة يقرأ النصوصَ فى لغته بطلاقة من غير أن يرتكب خطأ واحداً، ويرى فى ذلك الباحثون رأيين إثنين، يقول الأوّل:إن اللغة العربية ليست صعبة كما يدّعون، بل إنّ النقص كامن في من لا يجيدها ،وإذا كان المرء عالماً بأصولها، مطلعاً على أسرارها ، دارساً لقواعدها، ملمّاً بأساليبها فإنّه لا يخطئ أبداً، في حين يذهب الرأي الآخر الى أن العربية فعلا تشكو من هذه النقيصة . ففي ما يخصّ شكل الكلمات على الأقل، هناك كلمات يحار المرء فى قراءتها القراءة الصحيحة وقد يقرأها على غير حقيقتها ، ولكن كما أسلفتُ آنفا فإنّه مع المران ،والممارسة، والقراءة المتعدّدة وتتبّع السياق كل ذلك يساعد على تفادى أمثال هذه الأمور التي لم تحل أبداً دون التأليف والخلق والإبداع. إنّ الدّفاع عن اللغة العربية لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والاهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكلٍ مُوازٍ عن عناصر مهمّة، أخرى في المكوّنات الأساسية للهويّة الوطنية الأخرى في هذا البلد وهي اللغات العربية، والأمازيغية، والحسّانية، والصّحراوية ، فضلاً عن المكوّنات الأندلسية الموريسكية والإفريقية وسواها، وفي حالة البلدان المغاربية ، فإنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد في مجتمعات اتّسمت بالتعدّد، والتنوّع، والانفتاح، ليس بين لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة وحسب، بل وحتى مع اللغات الأجنبية الأخرى الدخيلة. وحسبنا أن نشير إلى أن التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها، والذي لم يمنع أبداً من أن يكون هناك علماء أجلاّء في هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات، ومناطق هذه البلدان على امتداد العصور والدهور. المُستشرقون ولغة الضّاد العالم يركض ويجري من حولنا، والحضارة تقذف إلينا بعشرات المصطلحات والمستجدّات يومياً، والاختراعات تلو الاختراعات تترى فى حياتنا المعاصرة..ونحن مازلنا نناقش ونجادل فى أمور كان ينبغي تفاديها أو البتّ فيها منذ عدّة عقود، ترى كيف يرى كبار المستشرقين الثقات هذه اللغة بعد انصرام هذه القرون الطويلة التي لم تنل منها حبّة خردل..؟ إنها ما زالت كما كانت عليه منذ فجرها الأوّل لم يستعص عليها دينٌ ولا عِلمٌ ولا أدبٌ ولا منطق، إنّها ما زالت مشعّة، نضرة، حيّة، نابضة ،مطواعة معطاء، لقد شهد لها بذلك غير قليل من المستشرقين ، واعترفوا بقصب السّبق الذي نالته على امتداد العصورفى هذا القبيل . يقول المستشرق الفرنسي» لوي ماسّنيون» في كتابه ( فلسفة اللغة العربية) : «لقد برهنت العربية بأنّها كانت دائما لغة علم ، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث ، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التى طبعتها على امتداد قرون خلت، إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية ، ولها قدرة خاصّة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والإختصار..إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلاّ في جُمَلٍ طويلة ممطوطة». إنّه يضرب لذلك مثالاً فيقول:» للعطش خمسُ مراحل في اللغة العربية ،وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء ،وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصَّدَى والأُوّام، والهُيام ، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان «هائمٌ» هو الذي إذا لم يُسْقَ ماء مات»، ويضيف ماسّينيُون :»نحن في اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطراً كاملاً وهو»إنه يكاد أن يموت من العطش»Il est sur le point de mourir de soif ولقد أصبح «الهيام»(آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشّديد. وآخر مراحل الهوى، والجوى، والوله، والصّبابة. يرى «بروكلمان» أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع إنتشاراً تكاد لا تعرفه أيُّ من لغات الدنيا. ويرى «إدوارد فان ديك»: أنّ العربية من أكثر لغات الأرض ثراءً من حيث ثروة معجمها و إستيعاب آدابها». المستشرق الهولاندي «رينهارت دوزي» (صاحب معجم الملابس الشهير): يقول» إنّ أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا إهتماما يُذكر للغة اللاتينية، وصاروا يميلون للغة الضاد، ويهيمون بها.» «يوهان فك»: يؤكّد أن التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة فى التاريخ». جان بيريك:» العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل». «جورج سارتون»:» أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين». وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تُخْفِ إعجابها بلغة الضاد… ***** *خبير سابق فى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.