من الذي جن ؟ أنا أم النافذة العاصية التي لم تتوقف منذ أول الليل والدقيقة الثامنة عن الصرير ؟ وهاهي العقارب المزعجة تكاد تخبر بالخامسة صباحا دون أن يكل الصوت المزعج أو يمل ، بل هاهو يخاطبني بنبرة واضحة، حتى أنني خلته يسأل : -هل نمت أيها الأرعن؟ -…. -لا ؟ لما تنم ؟ -….. -أكيد أنت مستيقظ ، رغم أنك تتظاهر بالنوم وتدفن رأسك المخبول في الوسادة . أيقظ يقظتك لا نوم! هل سمعتني أيها المتظاهر بالنوم ؟ لا نوم! من المجنون فينا إذن ، أنا هو أم هي ؟ أم تراها اليد التي امتدت إلى النافذة وفتحتها في هذا الطقس الجبلي القارس ؟ أو ربما اليد الأخرى التي أغلقتها لكنها لم تحكم ثبيت المزلاج فانفتحت مع أول هبة هواء تسللت إلى الغرفة ، و ها هي الآن تعربد و تستغل عدم قدرتي على مغادرة هواجسي لإحكام إغلاقها . النوافذ- يا صديقي- اخترعت لتغلق فتحة في الحائط ، وبقاؤها منفتحة هكذا مؤشر على أن هناك خللا ما ، خلل سيدفعني إلى التفكير جديا في تكليف أحدهم بإغلاق هذه المتمردة بشكل نهائي، لست مجنونا بعد لأسمح بمثل هذه الفوضى،هناك مجنون في كل هذا و لا بد أن أكشفه لابد. صرير النافذة الرتيب إعلان حرب صريح، يجعل الأعصاب المتعبة تتوتر وتغلي كمقراج الماء فوق الموقد . من يستطيع التنبؤ بردة فعل شخص يعاني أرقا منذ أيام وهو في حالة استفزاز ؟ يخف صوت الصرير أو يخمد، أهو الذي صمت أم أنا الذي غفوت قليلا؟ لست أذكر، هل توقفت عن تعذيبي أيها الصوت الحقود ؟ -…… -هل اكتفيت أيها الصرير البغيض . -……. -لا جواب ، هذا ما كنت أتوقعه. لكنه سيعود أعرف هذا بحكم التجربة ، بعد دقائق سيبدأ من جديد . لكنني سأنتهز الفرصة لآخذ غفوة قصيرة في انتظار أوبته. إذا نمت ولو لساعة سأكون ممتنا وربما أضحك بعد سيجارة الصباح مطولا ، لأن حرائق هذه الليلة الليلاء ستصير رمادا حينها أو ربما سأصير أنا الرماد -وهذه فوضى أخرى لن أسمح بها – وعندها ستحملني الرياح ، وتنثرني في أماكن كثيرة ومتفرقة مثل الغبار أو أحقر، فأغدو أصغر ، وأصغر وأتضاءل حتى أصير أصغر من أن أحمل عقلا أو فكرا أو حلما ، بل حتى أتحول إلى شيء خامد غير قابل للاشتعال بالمرة . كائن دقيق لا ظل له ، فارغ وشاحب كالعائد من القبر ، لا وزن له حتى و لا شكل تدركه العين – المجردة من النية وقلة النية- ، كائن يقيم صلواته البلهاء لإله وهمي ويتبتل بإخلاص رجال الدين ثم يرقص مع الرياح و يضحك يضحك يضحك ، محلقا يضحك متحرر من الزمان و المكان حتى يستقر على أول شرفة تسلمه لها الرياح ، أو على أول استقامة معنى ، فياخذ في النمو من جديد يكبر ويكبر حتى يصير وريقة أو دفترا جديدا … -أيها المهلوس ، هل قرأت ‘موباسان' مؤخرا ؟ -… – ألا تصمت أبدا ؟ هل أبقيك مستيقظا طوال الليل لتهرس رأسي بهذه الأحاديث التي لا معنى لها خلال النهار ؟ -…. -هل تعلمت الدرس جيدا أيها المخبول ؟ موعدنا غدا إذن ‘تهلا' … آه !نسيت أن أقدم نفسي – بسبب ذلك الصوت الحاقد و لم يمنحني كاتب هذه الأسطر المتسلط فرصة لذلك ، أنا الذي سكنت خيالك منذ بداية القصة، في ذلك المسكن المبعد عن الأحياء . رجاء، إذا مررتم بي عرضا ، أغلقوا كل النوافذ حتى لا يتسرب إلى قبري صوت يزعجني . صدقوني هناك مجنون ما في كل هذا وأنا حاليا مشغول بكشفه …