1 – مدخل الدراسة: الذاكرة والهوية مفهومان أساسيان في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، وتذهب أغلب الدراسات في هذه الميادين إلى أنّ الهوية بناء اجتماعي، يخضع لتغيرات تاريخية. كما أن الوجود التاريخي للهويات يقرنها بالذاكرة؛ إذ تلتمس الهويات وجوه استمراريتها من خلال استحضار الماضي، وبالتالي تغدو الذاكرةُ الرهانَ الجاهز لاستحضار هذا الماضي. أو لنقل إن “الذاكرة إعادةُ بناء[لهذا] الماضي الذي ينتقل من القوة إلى الفعل أكثر ممّا هي إعادة لهذا الماضي”. لاحظ جويل كاندو أنّ اتّجاه المجتمعات الحديثة نحو الذاكرة، يعكس أزمة نظام تاريخي حديث، وضعف الهويات التي أصابها الضرر، وفقدت توازنها. فالعلاقة، إذن، بين الهوية والذاكرة “علاقة ارتباط لا ينفصم”، على حدّ تعبير المؤرخ الفرنسي بيير نورا. يبدو أننا نتحدث عن مفهومين مجرّدين، أو بالإحرى عن تصورين يكتنفهما الكثير من الغموض. أوّلهما الذاكرة التي تقتضي تنظيما معينا، فكثرة الأوصاف المفهومية المسندة إليها من قبيل: الذاكرة الفردية، الذاكرة الجمعية، الذاكرة المشتركة، الذاكرة التاريخية، الذاكرة المحلية… تبرز أنّها “إطارٌ أكثر مما هي محتوى، رهانٌ جاهز، ومجموعةٌ من الاستراتيجيات تكمن قيمتها فيما نصنع بها، أكثر مما تكمن فيما هي عليه”. وثانيهما، نقصد مفهوم الهوية، لا يقلّ غموضا عن الأول، بدءا بالعلاقة بين الهوية و”الذات” التي لم يستقرّ بعدها الفردي إلا في العصور الحديثة، ومن ثمة، سيبدأ الحديث عن هويات بدلا من الحديث عن هوية؛ هويات فردية وهويات جمعية. نلخص هذا المدخل الإشكالي للعلاقة بين الهوية والذاكرة بإيراد استنتاج لجويل كاندو يقول فيه: “مفهوما “الهوية” و”الذاكرة” ملتبسان، ذلك أن كليهما يفهمان في ظل مصطلح واحد هو مصطلح التصورات، وهو مفهوم إجرائي في العلوم الإنسانية والاجتماعية”. نسعى في هذه الدّراسة إلى أجرأة مفهومي الذاكرة والهوية، من خلال الكتابات السردية التي تتخذ الذاتُ فيها مكان والولادة والمنشإ موضوعا للحكي؛ منطلقين من افترض بيير جانيه بأن “عملية التذكر الأساس هي “سوق قصة سردية”” . وكذلك من إشارة بول ريكور التي يربط فيها الهوية، ولا سيما الهوية السردية، بالذاكرة، عندما يقول: “فما إن يدرك المرء أن أية هوية هي هوية سردية في الأساس، فإنه سيكتشف البدايات غير المحدودة التي يتعذر طمسها من أصل ذاكرة أية جماعة”. تتكونُ هويتنا مما نحن قادرون على سرده من جهة، وتتصل بما قطعناه من وعود والتزامات في المستوى الفردي للآخرين، وللجماعة التي ننتمي إليها من جهة أخرى. وبدلا من الحديث عن “واجب الذاكرة”، يوظف ريكور مفهوم “خدمة الذاكرة”؛ وذلك لإنصاف من نعرفهم، ومن لا نعرفهم أيضا، يقول: “يجب إنصاف أولئك الذين عرفناهم، وأولئك الذين نجهلهم” . وتقتضي هذه المهمة مساءلة “الأحداث المؤسسة”؛ تلك القصص، أو الروايات، أو السرد الذي “يروي المجد والإذلال، والانتصار والهزيمة، والكرامة والهوان، وبالطبع فإن العنصر الإيديلوجي حاضر في عملية التشويه والتزوير والتحريف، وذلك من خلال لعبة تاريخ مسموح به ورسمي، وتاريخ مرفوض ومنسي، كما يتم تثبيت الذاكرة والتدريب عليها من خلال مؤسسة التعليم”، وبهذا تعمل الإيديلوجيا على التلاعب بالذاكرة لخلق “هوية ثابتة”، فبواسطة ذاكرة متلاعب بها، محددة ومغلقة ومسيجة، “تصنع الهوية”. من خلال ما سبق، يتضح أن إشكال بناء الهويات المعاصرة، سواء الهويات الفردية أم الهويات الجماعية، يراهن على “جهد الذّاكرة” أو “واجب الذاكرة”. وبناء على هذه العلاقة الملتبسة، يمكن افتحاص مظاهر علاقة الهوية بالذاكرة، باستقراء الكتابات التي تتضمن بعدا ذاكريا يتعلق بهوية الإنسان أو بهوية المنطقة التي ينتمي إليها. 2 – المتن موضوع الدراسة نتخذ كتاب “سطات: في تأريخ مصير الأزل بالشاوية وما في الألواح الضائعة لممالك تامسنا” لشعيب حليفي متنا لدراسة علاقة الهوية بالذاكرة. وهو كتاب يصعب تجنيسه. والكاتب شعيب حليفي أستاذ جامعي، وناقد، وروائي ينحدر من منطقة سطات. وتدفعنا الإحالات المرجعية الواردة في العنوان، والإهداء، والتقديم إلى افتراض أن الكتاب يندرج ضمن مفهوم “الكتابة عن الذات”. يبئر عنوان الكتاب اسم المنطقة التي ينتمي إليها الكاتب “سطات”، وتتضمن المقدمة التي عنوانها “سطات حكاية مدينة هبطت من السماء”، مجموعة من الإشارات التي توحي بأن الكاتب سيكتب عن المنطقة التي ينتمي إليها، وترتبط حياته بها، يقول في المقدمة –التي رأى أنه لا بد منها-: “إني في كل ما كتبته وسأكتبه، خلال ما مضى في حياتي وما سيأتي من حروف …. لم يكن إلا تأريخا شاهقا لصورة سطات…” (ص 8)؛ وفيها يصرح الكاتب أيضا بأن مفهوم الكتابة، عنده، مرتبط بالمنطقة التي ينحدر منها، ففيها تشكل وجدانه، وعبر تاريخ منطقة الشاوية الممتد تبلورت هويته الفردية والجماعية، ومن خلال ذاكرته، سيفسر تاريخها الذي يحمل أسرارا، لا يمكن أن تنكشف إلا لمن محضها الحب، وترعرع بين أحضانها، وكان من سلالة صالح بن طريف. قسم شعيب حليفي كتاب “سطات” إلى قسمين متناظرين: سبع كلمات، سبع سنابل. يؤدي الرقم سبعة بعدا رمزيا في الثقافة الإنسانية، فهو مفتاح لفهم قوانين الكون في الثقافتين البابلية والإغريقية، وفي الثقافة العربية الإسلامية وقف ابن خلدون والمسعودي كثيرا عند الدلالات الرمزية لهذا الرقم، “وكتب عنها مؤرخو العصور الوسطى. فالمسعودي في كتابه مروج الذهب، كتب أن كل شيء في العالم يمكن فهمه عن طريق الرقم 7، فهناك سبعة كواكب، والأقاليم السبعة (متأثراً باليونان والرومان)، وسبعة أيام في الأسبوع، وسبع مراحل لحياة الإنسان. إلا أن الكثير منهم استخدمها أيضاً برمزيتها في توثيق أحداث عصرهم. فنحن اليوم حين نقرأ أن جيشاً ضم 700 ألف جندي، أو أن مدينة فيها 7 آلاف جامع، أو أن شخصاً عاش 70 عاماً (لعل هذا تأثير من مزامير داوود، التي تحدد عمر الإنسان ب70 عاماً، كعمر داوود عليه السلام)، فإن علينا أن نفهمها رمزياً وليس حرفيا”. يغلب على الجزء الأول من الكتاب التمثيل التاريخي لذاكرة المنطقة التي ينتمي إليها الكاتب، وهي ليست ذاكرة جاهزة تستند إلى تواريخ محددة، ولكنها ذاكرة انتقائية تختار الأزمنة والأحداث والشخصيات والأماكن، وهي، وإن كانت معززة بالإحالات المرجعية (أسماء شخصيات تاريخية، تواريخ، أماكن…)، وبالوثائق في بعض الأحيان ، تنظر إلى الذاكرة في امتدادها وتشكيلها لدينامية الهوية. يمر الكاتب من العرض إلى التعليق، موظفا استدلالات مختلفة، تسعى إلى إبراز حقيقة متلاعب بها. تقف الذاكرة في مواجهة التاريخ، من دون أن تلغيه، ولكنها تعترض على “سردياته الرسمية”، أو تعيد تأويل “الحدث” في سياق التذكر الذي يتميز بالقصدية. عنون الكاتب الفصل الأول من الكتاب “بسبع كلمات”، وفيه يعيد بناء ذاكرة جديدة للمنطقة، يحضر فيها التاريخي والاجتماعي والثقافي والإثنولوجي، يطرق الكاتب مجالات شتى، تجتمع في بوتقة “الذاكرة الجماعية”، وفيها يزرع أسئلة الشك، ويفرد مساحات للتأمل في هذه الذات التي تشكلت في هذه “البقعة من العالم”، والتي من حقها أن تعرف، وأن تكون، وأن تستمر. أما الجزء الثاني من الكتاب، فينحو إلى “استكشاف الذات الفردية”، “سبع سنابل” تفتح “نافذة على الدّاخل”، تبحث في مسارب الطفولة، وترتاد الأسواق، وتحنّ إلى البيت الأول، حيث العالم كله ذاكرة. يرتب الكاتب لقاءات مع المألوف (الأب، الأم، الجد، الجدة، أفراد القبيلة…)، ومن خلال هذه اللقاءات، يعيد النظر إلى العالم، عالم داخلي يمتزج فيه الحنين والفقد والحداد والأمل… ولكنه يعود إلى “الحكاية المؤسسة” تلك التي لا يعرفها إلا ورثة “صالح بن طريف” الجدّ الذي أعطى الحكاية سحرها وسرها. وتأسيسا على المدخل النظري الذي انطلقنا منه، فسندرس من خلال كتاب “سطات” ما يلي: 1 – الحكاية المؤسسة لذاكرة منطقة “سطات”. 2 – الذاكرة والهوية والزمن. 3 – بلاغة الذاكرة من خلال تقنية البورتريه. 3 – الحكاية المؤسسة وصراع الذاكرات يعيد شعيب حليفي بناء “الحكاية المؤسسة”؛ حكاية مملكة تامسنا. ويعلن من خلال ضمير المتكلم الجمع “نحن” عن امتلاك زمام الخطاب لإبراز خصوصية الثقافة التي ينتمي إليها، يقول: “نحن شفويون، شفاهنا صحائف أريقت على الكثير من الأحداث والحكايات منذ الزمن السحيق…” (ص 14). يقيم الكاتب ثنائية ضمنية بين “النحن” و”الهُمْ”، ويحدد المجال الأساسي الذي تتبلور فيه الذاكرة الجمعية التي تمكن الشعوب من أساس ذي مظهر تاريخي لوجود إثنيات أو عائلات، أي الأساطير البدئية. يرى الكاتب أن ما سجله المؤرخون يتميز بالابتعاد عن الحق، ويلومهم على ذلك، إذ يقول: “كان على المؤرخين، وهم يؤرخون لما بعيد الفتح الإسلامي، وخصوصا إمارة بورغواطة بتامسنا أن يؤدوا اليمين ثلاثا بقول الصدق في مراتب الحق والابتعاد عن كل فرية ولو بشبهة. ويهمني هنا أن أخص بالذكر السادة بأسمائهم المشهورة: البكري، ابن عذارى، ابن حوقل، ابن خلدون، ابن الخطيب، أبن أبي زرع، الناصري، وصاحب الاستبصار؛ فما قالوه عن مملكة بورغواطة مليء بالتزيّدات والتخيلات” (ص 14/15). يقترب حليفي من العلاقة الخطيرة بين التاريخ والذاكرة، ليكشف عن شطط التاريخ الرسمي الذي وسمه بالتزيدات والتخيلات؛ أي إن هذه الذاكرة “متلاعب بها”. ويستدل على تحيز هؤلاء المؤرخين بالتناقضات التي يحملها هذا التاريخ نفسه، فكيف يعقل أن تشهد المنطقة نشاطا اقتصاديا متميزا في غياب تنظيم سياسي محكم أو رشيد، يقول منتقدا روايات المؤرخين: “إنها لعبة الفقهاء والمؤرخين الموالين للحكام الجدد الذين كان هدفهم محو هذا التاريخ المحلي، حيث عاش سكان تامسنا في ازدهار اقتصادي، تشهد عليه العلاقات التجارية مع الأندلس ونشاط موانئ شالة وفضالة وأنفا” (ص17). ينتهي الكاتب إلى أن الذاكرة الجمعية كانت رهانا مهما في صراع القوى الاجتماعية والتاريخية من أجل السلطة، وعمليات النسيان المقصودة مؤشر على “التلاعب بالذاكرة الجمعية هذه”؛ وهو ما يسمح بالبحث عن هذه الذاكرة في مجالات أخرى، يقول في هذا السياق: “لعل الشاوية في تاريخها المليء بالفراغات والثقوب، وأحيانا بافتراءات بعض المؤرخين، قد عرفت تواريخ رئيسة مؤثرة في تاريخ المغرب، على جانب تواريخ موازية في مجالات السياسي والاجتماعي والثقافي. وبين هذه المحطات الزمنية توجد أسرار وخيالات ضائعة” (ص 33). وإذا كان الكاتب يبئر ذاكرة المنطقة، وما تعرضت له من افتراءات ونسيان وفراغات وثقوب؛ فإنه يقرن كل هذا بتاريخ المغرب كله. فالأمر يتحول من هدر لتاريخ “خاص ومحلي” إلى هدر لتاريخ “عام”. ومقابل هذا التاريخ الذي ” صاغ له المؤرخون وجها واحدا للقراءة، مخفين الوجوه الكثيرة…” (ص41)، يتحدث الكتاب عن “حكاية امتزج فيها السياسي بالديني بالأسطوري…” (ص41)؛ يقابل فيها بين التاريخ والذاكرة الجماعية، وبتعبير أدقّ بين التاريخ الرسمي المفصل والذاكرة الجمعية الحافلة بما لم يروه هذا التاريخ. يصبح سؤال الحفاظ عن الذاكرة ملازما لسؤال الحفاظ على الهوية؛ الهوية في الجزء المؤسس والدينامي الذي مورست عليه الرقابة، وتم التلاعب به. ومن ثمة، وجب القيام بما يسمى “عمل الذاكرة”، فأفضل وسيلة للحفاظ على الذات، هي ربط الذاكرة الفردية بالذاكرة الجماعية، وتحويلها إلى المجال العام؛ حيث تلتقي الهويات الفردية والجماعية لتؤسس للمستقبل. “لم تكن ثورات رجالات الشاوية حدثا عابرا، ولا شيئا مفصولا عن كل حركات التحرر الإنسانية، لأنها رسمت لنا ثلاثة ملامح في حياتنا، وهي التأكيد على هوية المقاومة والجهاد، والرغبة الفطرية في التحرر، ثم التوسع المستمر لمسارب الأمل رغم كل المآزق الصعبة”. (ص19). تحقق الذات هويتها عندما تشرع في السرد؛ فصيغ “أنا أحكي”، و”أنا أروي”، و”أنا أسرد”… تحيل على إنجاز “الأشياء بواسطة الكلمات” أو “فعل الأشياء بواسطة الكلمات”، فالسرد يتحول إلى “قدرة على التذكر” من جهة، و”قدرة على تحقيق الوعد” من جهة أخرى. إننا أمام صيغة تعيد ترتيب الوجود، انطلاقا من الوعي بقوة الذاكرة، وبأهميتها، وكأننا أمام الكنز الذي عثر عنه سانت أغوسطين: “جميع هذه الأشياء، أحتفظ بها في الذاكرة، وكيفية تعلمها أحتفظ بها أيضا في الذاكرة. والعدد كذلك من الاعتراضات التي قدمت ضدها على وجه الخطإ، سمعتها وأحتفظ بها في الذاكرة؛ ورغم أن هذه الأطروحات غالطة، فتذكرها ليس بالغلط؛ والفرق بين تلك الحقائق وهذه الأغلوطات التي تقال ضدها، أتذكره أيضا، وأرى الآن من ناحية أني أميز بينها، ومن ناحية أخرى، أتذكر أني كثيرا ما ميزت بينها، وأنا أفكر فيها عديد المرات. إذن أتذكر أنني فهمت هذه الأشياء في الغالب، وكوني أميزها الآن وأفهمها، فأشدّ عليه في الذّاكرة، كي أتذكر من بعد أني فهمته الآن. إذن أتذكر أيضا أني تذكرت، كما أني، من بعد، إن تذكرت أنه أمكنني الآن أن أتذكر، فإنني سأتذكر طبعا بفضل قوة الذاكرة”. ليست الذاكرة صانعة للهويات الفردية والجماعية فقط، بل هي خزانة الأشياء كلها، ومفتاح تفسير المستقبل، إنها ببساطة أداة فعل، من حيث هي أداة تفسير. يعبر شعيب حليفي عن هذا الوعي بقيمة الذاكرة، بقوله: “قدر الإنسان أن يعيش بالذاكرة، خزّان كل شيء. وكلما امتلأنا نجد فرصا كثيرة لنحيا بما تختزنه، وبمفاتيحها، نفسر ما لا نجد له تفسيرا” (ص 77). هذه القولة الواردة في كتاب “سطات” تعبر بوضوح عن وعي الكاتب بقيمة الذاكرة، ونستطيع التعليق عليها بأننا أمام نوع من كتابة الذاكرة، يستضمر كتابة الذاكرة. يمكن أن نسميه “الميتا- ذاكرة”، فالكاتب لا يتذكر فحسب، بل يجرب كل الحدود القصوى للذاكرة في كتابة ذاته الفردية والجماعية، وبها يفسر تاريخه المحلي في سياق وجودي، وفي سياق المستقبل أيضا. وهو يدرك أن الذاكرة تمتد من الماضي إلى المستقبل، وأن حاضر الكتابة يمثل صناعة للمصير المشترك. ومن تجليات ما ذهبنا إليه، نورد الأمثلة التالية: أ-ربط الهوية بالدينامية التاريخية يقول الكاتب: “انظروا إلى السطاتيين، رجال ونساء الشاوية وقد استوطنوا هذه الأرض، هبطوا من كل فج بعيد بأمر سماوي نوّع له من الأسباب الواقعية والأسطورية، جاءوا من الساقية الحمراء، من تاجاكانت، من سكورة، من دمنات، وسوس، والريف، وفاس.. من كل أرض، وكل سماء مثل أنهار جارية” (ص9)، هذا المقطع، وغيره كثير في “النص/ الذاكرة”، يكشف أن الحكاية المؤسسة التي استحضرتها الذات/المتذكرة ليست أسطورة للتنظير لإثنية متعالية على التاريخ، ولكنها ناتجة عن إعادة تشكيل متنوع للذاكرة، يحفظ للخيال حقّه في امتلاك تاريخ غير معترف به، “فالثقافة هي المظهر الذي يعطي مظهرا تاريخيا لوجود إثنيات أو عائلات؛ أي الأساطير البدئية”، غير أن هذه “الأساطير البدئية” لا تسوغ التعصب والثبات، بل تكشف عن التنوع، عن الهوية الدينامية التي لا يمكن النظر إلى المستقبل إلا بواسطتها. ب-حراسة الذاكرة مقابل ذاكرة مهدورة على صفحات المؤرخين الذي سعوا إلى السيطرة على الذاكرة والتلاعب بها، يعيد الكاتب الاعتبار لحكاية البدء. يقول: “نحن السكان الأصليون، خميرة الشاوية العظمى وآخر السلالات الطاهرة من دم المحاربين، حفدة أربعة قرون من حروب الاجتثاث” (ص 63). يبدو هذا القول معزولا عن سياقه “التذكري” تعاليا على التاريخ، وقد يُفهم بحثا عن “أسطورة البدء” التي تسوغ “هوية جوهرية”، ولكن من خلال ربطه، بما أشرنا إليه سابقا، بوعي الكاتب الحادّ بوظيفة الذاكرة الطويلة في خلق الوعي بالهوية، سنفهم أن دور الكاتب هو “إبداع الذاكرة”. ونعود في هذا السياق إلى الدّور الذي أوكلته الثقافة اليونانية للشاعر في حراسة الذاكرة، يقول جاك لوغوف عن هذه الوظيفة: “في العصور القديمة جعل الإغريق من الذاكرة إلهة هي “منيموسيني”. وهي أم لتسع ميوزات أنجبتهن خلال تسع ليال أمضتها مع زوس، وأوصت البشر بتذكر الأبطال ومآثرهم، واحتفت بالشعر الغنائي. الشاعر مسكون بالذاكرة إذا، والشاعر هو عرّاف الماضي، تماما كما أن العراف هو عراف المستقبل. إنه الشاهد الملهم على الزمن “السالف” وعلى العصر البطولي، وهو فضلا عن ذلك شاهد على حقبة الأصول”. ج-واجب الذاكرة إذا كان الشاعر/الكاتب شاهدا على حقبة الأصول، فمن واجبه أن ينخرط في نقل الذاكرة، “يجب إنصاف أولئك الذين عرفناهم، وأولئك الذين نجهلهم” . فمقابل النسيان المتعمّد، يغدو ” التضييق على الأرواح” خللا في الهوية، ويمثل هذا المقطع نموذجا لواجب الذاكرة، يقول الكاتب: “أليس من حق العالم، الحاج العربي وغيره، علينا أن نتذكرهم ونسمي شوارع سطات ومدارسها وساحاتها وحدائقها بأسماء هؤلاء الذين أشعلوا نور العلم في عز الظلم… أم نحن فالحون في إهمالهم، قاصدين النسيان القاتل والتضييق على أرواحهم!!.” (ص65 ) ليس واجب الذاكرة وسيلة لإحياء تاريخ الأموات، بل وسيلة لإحياء الأحياء، وإنقاذهم من “المسخ الهوياتي”، ومن “الانزلاق”، ومن “الرحى” التي تطحن القيم. يقدم الكاتب مثالا لتلقي الذاكرة والتفاعل معها في أحد الأنشطة الجمعوية التي نظمت بمنطقة “المذاكرة”: “بعدما سمعوا وقرأوا [يقصد سكان المذاكرة]، تغيرت لغة المواطنين صغارا وكبارا، بحيث أصبحت لهم طريق نحو ذاكرتهم المحلية التي يفخرون بها، وتكون لهم مرجعا وسندا، وتحميهم من الانزلاق…كأننا وجدنا كنزا من القيم التي يحق لنا كمغاربة أن نفخر بها…. اليومي، في زمننا هذا، مثل الرحى التي تطحن كل شيء دون كلل أو رحمة.. وكل شيء يدفع نحو ثقافة تقطع مع هويتنا وقيمنا لتخلق مسخا هوياتيا بلا روح” (ص 35). نخلص في هذا الجزء من الدراسة إلى أن الكاتب يقدم شهادة تمتد من زمن الأصول إلى الزمن الحاضر. فردُّ الاعتبار للذاكرة بناءٌ للهوية، وعمل امتلاك جديد، واسترداد ومفاوضة نحو المستقبل.