وقد حلل الجابري الشروط والملابسات التي أدت إلى انتصار معاوية، مرجعا ذلك إلى دهائه وحنكته السياسية. وهو في هذا التحليل لحدث الفتنة الكبرى، يتوسل مقاربة عقلانية تلتقي في العديد من جوانبها مع ما ذهب إليه الشهيد فرج فودة كأحد ابز العلمانيين العرب، عند تناوله هو الآخر للحدث نفسه، في كتابه « الحقيقة الغائبة «، حيث يتم النظر إلى شخصيات الصحابة بما يحكمهم من نوازع إلى السلطة والنفوذ والجاه، بعيدا عن إي تقديس يرتفع بهم عن شرطهم الإنساني والتاريخي. وفي هذا لا يختلف الجابري عن فرج فودة إلا في تفسير وتأويل تفاصيل الأحداث، أما الرؤية فهي واحدة، عقلانية علمانية، تستند إلى فهم الشروط الاجتماعية والسياسية للمرحلة، وتستحضر بالنسبة للجابري مفهوم ميزان القوى لتفسير انتصار معاوية وهزيمة علي بن أبي طالب. وهو هنا لا يلتقي فقط مع فرج فودة، بل مع كل المفكرين العرب العلمانيين، على غرار طيب تيزني وحسين مروة عند تناولهما للحدث نفسه، وتوسلهما بمفاهيم الفلسفة السياسية والنظريات الاجتماعية، كمفهوم الشريحة والطبقة، والصراع الطبقي، وفاء منهما لنزعتهما الماركسية المعروفة. والمهم في هذا كله، هو أن الرؤية للحدث مستمدة لديهم جميعا من منظور عقلاني، بغض النظر عن اختلاف المفاهيم المعتمدة لدى كل واحد منهم، فهي رؤية في النهاية تمتح من تراث الفكر السياسي الحديث والمعاصر المحكوم بخلفيته العقلانية والعلمانية الواضحة . على أن مايثير الانتباه، هو أن الجابري في مشروعه الأخير عن النص القرآني، عمد إلى القيام بترتيب جديد له على أساس أسباب النزول، بمعنى أن ترتيب الآيات والسور أصبح يأخد بعين الاعتبار الشروط والملابسات والأحداث التي أحاطت بكل آية، وهو ما يتيح إمكانيات متعددة لقراءة القرآن قراءات جديدة ومبتكرة تستند إلى مفهوم الواقع باعتباره هو المرجع الأساس في فهم وتفسير النص. وهاهنا يلتقي الجابر ي مع مفكر علماني آخر، هو نصر حامد أبو زيد الذي بلور مفهوما جديدا للوحي استنادا إلى مفهوم الواقع بالذات، وذلك في مؤلفه الهام « مفهوم النص « حيث اعتبر أن «ظاهرة الوحي – القرآن – لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبا عليه وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوراتها. إن العربي الذي يدرك أن الجني يخاطب الشاعر ويلهمه شعره، ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن لا يستحيل عليه أن يصدق بملك ينزل بكلام على يشر» ( مفهوم النص : المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ص 34) ولم يكن مستغربا أن تثير دراسة الجابري عن النص القرآني موجة من ردود الفعل العنيفة من طرف القوى الأصولية التي كفرته كما فعلت تماما مع نصر أبو زيد، فهما معا يتقاطعان في نفس الرؤية إلى النص، رؤية عقلانية علمانية مرة أخرى. أما إذا لم نحصر مفهوم العلمانية في مجرد فصل الدين عن الدولة، وأخدنا بالتعريف الذي أعطاه إياها الباحث السوري عادل ضاهر، والمتمثل في كونها موقفا ابستيمولوجيا يقوم على اعتبار العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، فإننا لن نكون مجانبين للصواب إذا قلنا انطلاقا من ذلك، بأن الجابري مفكر علماني، باعتبار أن انشغاله الأساسي كان هو الانتصار للعقل والعقلانية، وهو ما تجسد في كتابه « العقل والعقلانية المعاصرة» وفي مشروعه الموسوم ب «نقد العقل العربي «، وكذا في انحيازه الواضح لبن رشد كفيلسوف عقلاني ضمن فلاسفة الإسلام.وكل ذلك يكشف عن أن الجابري كان منشغلا بقضية العقل والعقلانية إلى حد الهوس، وعليه فإن معارضته للعلمانية هي في العمق معارضة سطحية، ومحكومة بظرف وسياق خاص. أما موقفه الجوهري والحقيقي، فلا يمكن أن يكون إل مناصرا للعلمانية، ترتيبا على كونه من دعاة العقلانية والديمقراطية اللتين تستلزمان كشرط لتحققهما في الواقع، مناخا من الحرية لا يتحقق إلا في إطار نظام علماني. والواقع أن هذا الذي يبدو تناقضا في موقف الجابري، بين تصريحاته وسجالاته وبين عمق وجوهر مشروعه، يجد تفسيره في سياق انخراطه في الحوار القومي الإسلامي، الذي أشرف عليه مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في الثمانينيات من القرن الماضي ، والذي جمع بين رموز التيار القومي العلماني ورموز التيار الإسلامي، لعقد نوع من المصالحة بين التيارين وتجسير الفجوة بينهما. وعلى ضوء ذلك، راح العديد من المفكرين القوميين يراجعون بعض منطلقاتهم ومواقفهم من التيار الإسلامي. وكان من بينهم المفكر المصري حسن حنفي، الذي روج لمفهوم اليسار الإسلامي لحقبة من الزمن قبل أن يتوقف عن ذلك نهائيا، ومنهم بدون شك الراحل محمد عابد الجابري، الذي استعار مفهوم الكتلة التاريخية للقول بأن التغيير المنشود لن يتم إلا على أساس التعاون والتحالف بين التيارين الرئسيين في المجتمع المغربي والعربي عموما، أي القوميين اليساريين والإسلاميين. وهذا هو ما يفسر في اعتقادنا ذلك التناقض الظاهري في موقفه. بمعنى أن الجابري سعى إلى تسهيل اللقاء بين التيارين، باستبعاد العلمانية من جدول انشغالات الكتلة التاريخية التي من المفروض أن تجمعهما كتحالف استراتيجي مؤهل لإحداث التغيير المنشود في المجتمع. وعليه يمكن القول بأن موقف الجابري من العلمانية، هو موقف تاكتيكي اتخده في ظل واقع معين، ومرحلة تاريخية اتسمت بتنامي نفوذ التيار الإسلامي، وولدت لدى بعض النخب الفكرية آمالا في إمكانية أن يتبنى هذا التيار الاخيتار الديمقراطي ويساهم في إرسائه والنضال من أجله. وفي سبيل ذلك، لا بأس من إزاحة بعض العقبات التي قد تحول دون تحقق هذه الإمكانية في الواقع. وكانت العلمانية لدى البعض من تلك العقبات المحتملة، التي يمكن إزاحتها كمفهوم يتميز ببعض الالتباس، وقد يكون مصدر تشويش في علاقة التحالف بين التيارين، دون أن يؤثر ذلك على مشروع التغيير الذي يقوم على العقلانية والديمقراطية. فهل كان هذا الرهان صائبا؟ ذلك هو السؤال.