فجأة وبين عشية وضحاها اصبحت بناية الحي الجامعي القديم ظهر المهراز أثرا بعد عين ، لم يبق منها شيئ يذكربالوجود في ماض قريب او بعيد،ولا حتى أطلال او لوحة تعريف تذكر بالنشأة والمسار.او بما سيؤول اليه حال المكان بعد الهدم . كل من عرف المكان او ألفه ، ومر بجانبه بعد هدمه، سيشعرلا محالة بنوع من الحسرة والاسى ينبعان من الأعماق والدواخل وهو يراه على تلك الصورة ، فراغا ملفوفا بين أسوار اربعة: فالمبنى شكل على امتداد عقود من الزمن معلمة وركنا من معالم وأركان الذاكرة الجماعية لواحدة من اقدم واعرق المركبات الجامعية المغربية، واكثرها إيحاء بانسياب الزمن ، وتعاقب الأجيال الطلابية ،وتطور اشكال الوعي الثقافي و المعرفي والسياسي والنقابي في المغرب. أضحى ذلك المبنى القديم للحي الجامعي ظهر المهراز مع مرور العقود ذاكرة زاخرة ترتبط بفضاء جامعي ، ولكنه فضاء يرمز في نفس الان الى ذاكرة مدينة بكاملها، مدينة فاس ، لقد شكل حي ظهر المهراز ببنايته القديمة والمتواضعة ، ذات الطوابق الاربعة ، ومطعمه الملاصق ذي السطح القرمودي ، على امتداد أجيال متعاقبة منذ الستينيات ، معبرا ومستقرا وحضنا مفتوحا لأبناء طلبة المغرب من مختلف الجهات والاقاليم ، القاصي منها والداني ، من طنجة ووجدة والريف الشرقي والغربي ومدن الصحراء ومراكش والراشيدية وبني ملال ومناطق تاونات الجبلية وسهول الغرب ومدنه ومنخفضات دكالة والشاوية وعبدة ، وغيرها من المناطق ، في فترة كانت فيه كلية الاداب بفاس هي المؤسسة الجامعية الوحيدة والفريدة لمن اختار دراسة الادب العربي شعرا ونثرا ونقدا وبلاغة ، وكانت حجرات ذلك الحي الأسطوري هي المسكن والمقام لكل الوافدين الشغوفين بفك أسرارالبيان العربي . بين جنبات تلك الحجرات الضيقة الناطقة بألف سر وقصة ،او بالقرب منها( حيث كلية الآداب ) اوبتأثير من من رمزيتها، ولو من بعيد ، بدا جيل كامل من الشعراء ، في مرحلة الشباب، رحلة النظم و الإبداع ، مثل محمد بنيس و الراحل عبد الله راجع ، في قلب تلك الحجرات الضيقة التي كانت في الاصل بناية عسكرية تحكي بالموقع هيمنة المدفعية الفرنسية في فترة من الفترات خلال الحماية ، اصبحت الكلمة والفكرة، المسكوبتان في القوالب والأجناس الأدبية المختلفة علامة فارقة في مساروعي جيل بكامله ، ناقش ممثلوا هذا الجيل وجادلوا بحرية ، في كل ما له صلة بالشأن الوطني والقومي والعالمي، أنصتوا بامعان لكبار الأساتذة الذين مروا من ظهر المهراز و الذين ملات أصواتهم مدرجات كلية الآداب وطبعوا مخيلات ووجدانات طلابية من امثال اليابوري و المرحوم البهبيتي والمرحوم امجد الطرابلسي. هناك في تلك الحجرات ومرافقها تفتحت إرادة جزء كبير من عناصر الانتلجنسيا المغربية والنخب السياسية على عوالم الالتزام والمسائلة الدائمة للقائم من التوازنات . وهناك في مرحلة لاحقة صيغت أحلام بدون حدود، ونسجت بسخاء أيديولوجيات كانت حبلى باكبرالامال ، وتبلورت الطوبى الثورية ، لشباب لم يكن اغلبه قد أتم ربيعه العشرين، شباب ردد ملئ الحناجر زجليات احمد فواد نجم و أغاني الشيخ امام، وناقش تحت ضوء الفوانيس الباهتة في الليالي الشتوية الباردة أفكار فوكو ودريدا ورولان بارت وماركوز و بورديو وانتاجات مدرسة فرانكفورت الفلسفية . هناك انعقدت حلقات النقاش الصاخبة بين شباب تشبث حد التشدد بتفسيرات وقراءات لمتون الفكر الماركسي ومدارسه وتوجهاته المختلفة ،وهناك تعالت أصوات واختلطت تحليلات وسجالات بحثا او سعيا وراء ما يمكن ان يكون يقينا راديكاليا صافيا لا تعكر صفائه حالة الواقع مهما كانت قسوته او رعونته. هناك في منعطفات الطرق المؤدية الى الحي والمطعم وجد الرفيق رفيقة العمر التي ستصبح ام أولاده بعد التخرج وولوج سلك الوظيفة العمومية او افتتاح مكتب مهنة حرة ، وهناك جالت بالأذهان تخطيطات و أماني بممارسة اعمال ومهام منها ما بدا منسجما مع قاعدة المبادئ المستبطنة ، المعلنة والمختزنة ، ومنها ما اثبت لاحقا تعارضه معها في الجملة وفي التفاصيل. . المكان الهم أعمالا أدبية وروائية عدة متحت من رمزيته القوية ومن تفاعلات دينامية الحياة المتدفقة على جنباته ، كان آخرها فيما نذكر رواية احمد المديني « ظهر المهراز « . هو إذن مكان للذاكرة lieu de memoire ( بتعبير المؤرخ الفرنسي بيير نورا) . هو مكان من طراز ما يسميه مؤرخ المدن الشهير Peter Accroyd ب «خطوط الاستمرارية « Lines of Continuity اي ذاك النوع من الأمكنة والفضاءات التي تستمد قوة دلالتها وكثافة رمزيتها مما تختزنه من شواهد الماضي ووقائع التاريخ ، وليس من مجرد الخصائص الفيزيقية الجغرافية للمكان اومن مجرد حجم الأسمنت و الأجور والحجر الذي استخدم في البناء ومحسن لت الواجهات ، بهذا المعني فان الحي الجامعي ظهر المهراز هو من صنف ذلك النوع من الابنية التي يتدخل التاريخ بقوة في تحديد معالمها ومواصفاتها وأكاد اقول هويتها العميقة ، هو من نوع الامكنة التي لا يمكن ولا يجوز ولا يستساغ، عند قياس قيمتها ، اعتماد تلك المعايير الاقتصادية المباشرة، المحيلة مثلا على حسابات التكلفة والربح والفائدة و المردودية المالية . لم يكن ذلك المبنى ذو الطوابق الاربعة للحي الجامعي ظهر المهراز ، المتواضع في هندسته المعمارية ، المحدود في طاقته الاستيعابية ،مجرد مكان للسكن الطلابي ، صار مع مرور الوقت وتعاقب الأجيال، ذاكرة جماعية/ جامعية، ومعلمة مدنية/ مدينية ، ذات رمزية قوية تكاد تنطق نطقا بما تختزنه بين الثنايا والزوايا من حكايات الماضي وذكرياته ، الحلو منها والمر، السعيد منها والاليم، حكايات فترات السكينة وفترات الاضطراب ، فترات الصراع بين فرقاء الصف الطلابي تراوحت بين المجادلة بالفكرة والحجة في القضايا العامة، وبين الانفعالات الخطرة التي استسلمت خلالها النفوس للغة الإقصاء والغلاظة. فترات الصفاء والعمل والأمل حيث العيون - والانتباه -مشدودة على الاخر الى كراسات المقررات وما يرتبط بها معارف ، وفترات الخوف والهدوء المشوب بالحذر تحسبا لانزالات أمنية ، تحولت مع مرور الوقت ومع إيقاع فصول الزمن الجامعي في فاس الى لازمة من لازمات المكان . ونعود الى المقطع الثاني من عنوان هذه المقالة : أزمة اماكن الذاكرة في المدن المغربية . كان الحديث يجري منذ مدة طويلة عن اهتراء البناية وكونها ايلة للانهيار وكان يفهم من نفس الحديث ان اليقظة والحذر يقتضيان والحالة هاته الإسراع بالهدم تلافيا لكارثة محتملة الوقوع لو تداعى المبنى في غفلة عن الجميع . والمفهوم بالطبع ان دراسات وبيانات تقنية للخبراء أفادت هذا المعنى ، وان قرار الهدم اتخذ على ضوء ذلك . نعم كل هذا مفهوم ومعروف ، لكن هذا ليس هو بيت القصيد فيما نود أثارته ونحن نتحدث عن محنة ذاكرة المدن في المغرب من خلال حالة مبنى الحي الجامعي القديم ظهر المهراز . وللتوضيح منذ البدئ فان الدافع الى إثارة الموضوع ليس هو التعبير عن نوستالجيا رومنطيقية مثالية لا تكترث بضرورات التطور التي لا بد ولا مناص من ان تطال الابنية والامكنة والجغرافيات مهما توغلت في القدم . . الدافع الى إثارة الموضوع هو التنبيه الى هذا الفراغ الفظيع الذي يشكو منه قاموس التخطيط الحضري عندنا ، وتشكو منه الممارسة الميدانية المترتبة عنه، في مجال التعامل مع اماكن الذاكرة وخطوط الاستمرارية في المدن المغربية. وحصيلة هذا الفراغ ، في النهاية، هي ما صرنا نلاحظه من ممارسات في مجال تخطيط المدن عندنا ، تنزل وتهوي ببعض المعالم المعمارية، ذات الحمولة التاريخية او الثقافية او الفنية القوية والغنية ، حينما تدب فيها علامات القدم ، واحيانا حتى دون ان يلحقها اي اذى من الزمن المنساب ، الى مجرد حيزات ومساحات قابلة للهدم والردم ، طيعة امام مشاريع بناءات او استعمالات لا علاقة لها بايحاءات المكان او رمزيته او ما يختزنه ويخزنه من شواهد، بناءات واستعمالات لا تعبا اطلاقا بما يسميه بيتر اكرويد بخيوط الاستمرارية ، التي تفرض حدا معينا من الانسجام في استعمالات وتوظيفات الامكنة يحترم التلاقح الخلاق بين الماضي والحاضر حتى وان اختلفت مواد البناء وأدواته وأحجامه.كما يحدث في المدن العالمية التي يحترم فيها المخططون الحضريون رمزيات الأمكنة وحرمة التاريخ والأجيال الماضية . وبالطبع حينما لا يتسع قاموس التخطيط لهذا النوع من الثقافة الحضرية ، فان الكلمة الفصل تكون للربح والمردودية المالية، و يصير الراي الغالب هو رأي المضاربين . ان حمى المضاربة ، النافية لمبدأ خيوط الاستمرارية لا تصيب الافراد العاديين او الخواص وحدهم ، بل قد تصيب بنفس الدرجة - هل نستغرب ؟- هيات ومؤسسات عامة اوحتى بلديات ( كما يحث بصفة مستمرة بالنسبة للمجالات الخضراء في مدننا اليوم )وهكذا فليس من النادر او الاستثنائي أوغير المتوقع ان تجد عندناملعبا للخيل وقد تحول الى تجزئة سكنية ( فاس نموذجا) ، او مسرحا وقد تحول الى عمارة من اربع او ست طوابق بمقاهي ومقشدات في الطابق السفلي ، كما حدث لمسرح بيريس كالدوس في القصر الكبير وكما حدث لسينما استورياس في نفس المدينة التي تحولت من قاعة عرض الى كراج كبير لركن السيارات، وكما حدث لمبنى تياترو اسبانيا الأندلسي الشكل في العرائش الذي أقيمت فيه عمارة من ست طوابق على جنبات شارع لا يتعدى طوله عشرة أمتار ، وكما قد يحدث لمبنى مسرح سيرفانتيس القوطي اللمسات ، الجميل ، في طنجة،و الواقف باباء وشموخ لا تلزمه غير بعض الإصلاحات ولمسات الترميم ،( هناك لحسن الحظ مبادرات ومرافعات لمنظمات المجتمع المدني لإنقاذ هذه القطعة المعمارية الرائعة ) . من المؤكد انها أمثلة فقط لعينة من المعالم التي تتهاوى واحدة تلو الاخرى في مدننا تحت ضغط المضاربة وحسابات الربح السريع ، امام انظار الجميع وبصمت مريب للمتدخلين في تدبير المجال الحضري ، اي عمليا من أولئك الذين يفترض فيهم العمل والحرص على ضمان حد أدنى من خيوط الاستمرارية .ومن المؤكد كذلك ان ما نصادفه باستمرار من تعبيرات تلقائية على لسان الشريحة العامة من الناس البسطاء عن أزمة اماكن الذاكرة في مدننا هي شهادة تدحض تلك الفكرة الشائعة بالخطأ والتي يروج لها المضاربون من كل صنف ، فكرة ان الناس يودون السكن والايواء دونما اعتبار لتاريخ الأمكنة ورمزياتها، فكرة ان هناك أولويات لا يقع ضمنها إطلاقا احترام اماكن الذاكرة ولا العمل وفق قاعدة خيوط الاستمرارية التي تملي على المخطط تلافي بتر الذاكرة الجماعية استجابة لهواجس الربح وحده . انها فكرة المضاربين وحدهم ، ومن باب التجني على الحس السليم ان تنسب فظاعات التعمير المدمرة لاماكن الذاكرة الى الناس البسطاء ، وانه لمن باب استصغار الذوق العام استخدام ذريعة الاستجابة للحاجيات الضاغطة في مجال السكن لتدمير نقاط التعرف على هويات المدن les repères . ما الذي سيخلف تلك البناية التي ارتبط بها اسم الحي الجامعي ظهر المهراز ، هل يمكن ان ننتظر مثلا ان تخلفها مكتبة جامعية كبيرة او مركب ثقافي يليق برمزية المكان ، وفي هذه الحالة فقد نطمئن جزئيا ومؤقتا على الاقل ان المخطط الحضري عندنا بدا يستبطن اخلاقيات احترام اماكن الذاكرة ، وينوي الاشتغال على هدي مقاربة خيوط الاستمرارية في مجال التعمير ، ام اننا سنفيق ذات يوم على هدير جرافات تعلن عن بداية أشغال عمارات جديدة من كذا طابق دونما اعتبار لرمزية المكان ووظيفة الأمكنة المحيطة به ، وفي هذه الحالة فان الامر سيشكل دليلا إضافيا اخر على ان المشتغل بالاستثمار الحضري عندنا لم يبتعد اجمالا بعد عن تلك الثقافة التي لا تفرق بين التعمير و» التعمار» ، اي ملئ الفراغات كيفما اتفق ، وأننا بذلك ننتج من حيث لا نحتسب صيغتنا المنقحة من مدن الملح ، بتعبير الروائي عبد الرحمن منيف.