«عندما قرأت أشعار رامبو سمعت النداء في أعماق البحر»، موضوع نشرته جريدة الغارديان The Guardian بملحق "الكتاب الذي غيّر حياتي A book that changed me، وهو للشاعر البريطاني جورج سيرتش George Szirtes (الهنغاري المنبت 1948)، حيث يتحدث فيه عن تأثير الشاعر رامبو في حياته، الأمر الذي يبرز أهمية "الكتاب" كمنعرج بحياة البشر، حيث الكاتب لا يكتب فقط، بل إنه يغير الحياة بنفس الوقت. الكاتب يبني الواقع عبر فتح الحياة من قوقعتها التأزمية نحو فضاءات وآفاق للتحرر. وأهم نقطة يقف عندها الموضوع هي فترة المراهقة حيث بداية طريق النضج عند البشر، يتم غالبا رسمها انطلاقا من تأثير كاتب أو كتاب في حياة الشخص يصطدم به خلال هذه الفترة، حيث ينير له الطريق الغامض والمجهول؛ وحتى بالنسبة لمن لم يتأثروا بكتاب نتيجة لامبالاة أو قلة اهتمام بالأدب، فإنهم غالبا يتأثرون بأشخاص الذين بدورهم تأثروا بكتاب أو كاتب ما. إن الكتابة هي ما يُوجد الحياة بشكلها التاريخي الإنساني، حيث الحياة تجلي للكتابة وتمظهر لها، يكتب الكاتب واقعا، أو يهرب من الواقع نحو الكتابة كما في حالة كافكا حيث تمثل الكتابة طريقة للتكيف مع الحياة، من منظور دارويني. ففي الكتابة خلق وحياة، أو بديل يصبح بدوره حياة. نص الموضوع كما جاء بقلم الشاعر : Du mut dein Leben ändern "يجب أن تغيّر حياتك"، يقول راينر ماريا ريلكه في مؤلفه جسد أبولو العتيق Archaic Torso of Apollo، لا تحوير، ولا تغيير بسيط في أسلوب الحياة، ولا مزيد من الجهد، إنما حياتك غيّرها. كل الكتب الجيدة تغيّر حياتك بشكل محترم، إن بتوسيع معارفك والتي بدورها تملك القدرة على تغيير تصوراتك. بعضها يقودك نحو تغيير شامل للاتجاه (الفكري). أعرف شخصا فقد إيمانه الكالوثيكي نتيجة قراءته لسامويل بيكيت. آخر قرر الالتحاق بالجامعة بعدما قرأ جود المغمور Jude the Obscure (لتوماس هاردي). هناك العديد من الكتب المفيدة بالطبع، والمتنوعة. هناك مجموعة من الكتب الجيدة "تفيدني"، غير أن الكتاب الذي أحدث شيئا بداخلي، ولا يزال كذلك كلما أطالعه، هو كتاب البطريق الكلاسيكي: أشعار ومختارات لرامبو، بمقدمة ومنثورات مترجمة لأوليفر برنارد. لقد كان "الجسد العتيق" بالفعل بمعنى أو بآخر. كنت قد اتخذت قراراً بأن أصبح شاعراً، لم يكن هذا فقط بالتأثير الذي أحدثه فيّ : لقد كان على نحو أكثر، مفهوماً ثوريا حول معنى كينونة "الشاعر"، ليس بمعنى أخذ صيغة أو صيغتين ساعياً لأن تبدو شبيها بشاب عبقري قدر الإمكان، بل على نحو عميق حتى المستوى الأكثر عمقاً. لقد كان ولا يزال، نداءً في أعماق البحر. "لست بالشخص الجاد وأنت في سن السابعة عشر" تقول الرومانسية، من قصيدة رامبو حول حب فترة المراهقة. من المساعد إدراك ذلك في مثل هذه السن، طالما أن كل شيء حينذاك لا يبدو شيئا جاداً، خاصةً الحب. تقول لك القصيدة بأن هذه الفتاة جذابة، و"الوهن مُسكر ويذهب مباشرة لداخل عقلك"، وبهذه، بهذه السن، كل شيء يُأخذ. كم كان يبلغ رامبو من العمر حينما كتب ذلك ؟ لم يكن بالكاد قد تجاوز السابعة عشر، بما أنه قد بدأ ينشر قصائده بسن السادسة عشر، وتوقف عن ذلك بالوقت الذي بلغ فيه الواحد والعشرين. الرومانسية كانت على نحو ما (بالنسبة لرامبو)، فارسا متأملاً، متساءلاً ومنقاداً نحو نيران "موسم في الجحيم" و"إشراقات". يجب أن نتخيل موهبة فذة، شاباً بائساً، مفخرة المدرسة التي يدرس بها، يلف مقاطع شعرية بإحدى الاختبارات ويحوز الجوائز، لكن أيضا ذلك الذي يترك بيته المضجر وتشدّد أمه الديني الخانق، بشارلفيل، متوجّهاً إلى باريس ليصبح برناسياً*، شاعر البناء الأدبي الأكثر صفاءً، وهو الدور الذي وُهب له على أعلى درجة. لقد صار سنداً للعامة داعماً للشعب. وقد كتب حينها مجموعة من الرسائل الخلابة، والتي يعلن من خلالها أن على الشاعر أن يكون رائياً، ويجب على حواسه أن تُفتن. وتلك كانت المسألة مع بول فرلين Paul Verlaine. حيث الهدف فرلين يصيب ويجرح ورامبو يشرب حد الثمل والسعي. لكن يبقى الأهم من ذلك أن القصائد ذات جرأة وعظمة فاتنة. ثم النهاية أو كما كتب مارتن بيل في قصيدته : "رامبو يتمدد مستلقيا بأفريقيا" ميّتاً بسن الثلاثين، كتاجر، لم يكتب بعدها أي قصيدة. أوليست هذه بكل بساطة قصة المراهقة؟ أوليست السبب في وقوع البشر في حب القصائد والمظاهر على حد سواء، ليس فقط سبب حبهم لهذه الفترة ذاتها، حيث الشقاء والملل، بل بسبب حبهم لمعنى المراهقة ؟ أوليست سوى أسطورة بروميثيوس**، حيث يتكرر الأمر مراراً وتكراراً ؟ حيث الحياة ك"فن" استيهامي ؟ غير أنه لا يمكنك أن تحوز الأسطورة من دون أشعار. ليست بأشعار حول النمو إنما حول التدرج والإنتاجية، التنامي والقدرة على النضج داخل منبت فريد مؤقت. لم أكن بشيء يُذكر، هكذا كشاب. كنت عاديا، مدّعيا، انطوائيا ومترددا. تخيل أن تكون كما كان رامبو، والذي أعرفه جيدا، فقط تخيل. لقد تخيلت قَدَرا جيدا بعد، بسن السادسة عشر والسابعة عشر. ومعظم ما تخيلته كان فشلا وتوقفا عن الفشل. إلى أن وصلت لتلك المرحلة التي لم أعد أريد بعدها أن أظل بائع صحف، أقرأ خلف الشباك، أحلم، ثم نعم أتخيل، وأكافح في صحراء بجزيرة الفشل، حيث يمكن للإنسان أن يسقط بسلام. ربما أراد رامبو أن يتابع (يستوفي) بعد ؟ لا أعتقد ذلك. أدركت جيدا مقصده حول رغبته بأن يكون شخصا آخر، أن يكون رائياً، حول التشتت حيث تنفلت الحواس متناثرة، حول الرغبة بمغادرة شارلفيل (في حالتي مغادرة الشمال الغربي لضاحية لندن) والأم (من، سامحيني أمي). بَطْريق رامبو تم تقديمه بترجمات مبتذلة، لكن مع هذا التلميذ الفرنسي والدقة التناغمية لأوليفر برنارد، تفتحت القصائد أمامي كمفرقعات إعجازية صغيرة. لقد أحببت تلك البطاريق على كل حال، كذلك بودلير، ريلكه، غوته، مختارات الشعر الحديث من مختلف اللغات. لقد كانوا عوالم قائمة بحد ذاتها. لكن في حالة رامبو (بودلير كان كل حلمه) فقد كان الأمر أكثر من ذلك. لقد كان، ولا يزال، إشراقاً ليس فقط على نحو فني، بل مهما بدى في الأمر من مفارقة، فقد كان إشراقاً فكرياً. حقيقة، لم أقصد كتابة الأمر على هذا النحو بالضبط، لكن هكذا كتبته الآن على أية حال. هناك حيث يجب أن يكون شيء ما بعمق الفن، إنه الإنزعاج، عدم بلوغ الرضى، التطلّب، مع هذه الحماسه للمراهقة المتزمتة. ليس هناك من "أنا" بهذا المكان : إنها هناك بمكان آخر. حيث الحواس مشتتة بحق، وهناك ربما شيء ما مرئي كأنه هناك، شيء متهكم بشكل قاتل حول التصوارت الخاصة، والتي رغم كل ذلك تصورات. هذا التهكم يشتعل داخل رامبو، حيث يمنح الفن. أما نحن فلا. تجلّي رامبو هو حينما يكتب.. كمرشد، صارم، سيء، وحشي، رائع، وحقيقي. - George Szirtes The Guardian : Sunday 31 August 2014. هوامش : * البرناسية : مذهب شعري، يمثل مرحلة انتقالية بين الرومانسية والرمزية، فمن الذاتية والانطواء على النفس مروراً بالوضوح والرقة وصولاً إلى مرحلة التوازن مابين الاثنين أي إلى الرمزية أخيراً - (أحمد صالح يساوي - الفرات). ** بروميثيوس : إله بالمثيولوجيا الإغريقية، حيث عاقبه زيوس على السرقة، بأن ربطه بصخرة بجبال القوقاز، مسلطا عليه نسرا ينهش كبده كل يوم، ثم يتجدد كبده بالليل، كمعاناة لا تنتهي إلى أن قام هِرَقل (هيراكليس) بتخليصه.