المجتمعات مثل أي جسد، يكون معافى من العلل والأسقام والعوارض، فينتج حياة وإبداعا ويصنع تاريخا وجمالا وخيرا، والمجتمعات كما الأجساد تترهّل وتشيخ بشيخوخة عقول أبنائها وعجز من يقودونها ويوجهون دفة سفينتها، ومهما كثرت الأسقام والعلل في أي مجتمع يبقى الأمل في الغد، شمسا ينتظر إشراقها، فتعيد التفاؤل وتتجدد الحياة. أقول هذا وأنا أرى غدا غائما أو مشوّشا أو مخيفا أو مجهولا، ذلك هو الغد في عالمنا العربي، غد ملامحه لا توفر كثيرا من جمال المخيلة ومع أنك تسمع من يناديك على الفور، ?أيها الكتاب كفوا عنا تشاؤمكم وانظروا مليا إلى الجزء الممتلئ من الكأس?. وسمعنا وأطعنا ونظرنا إلى كؤوس شتى في هذا العالم العربي الحزين، فإذا به عالم عربي تتبدد ثرواته يمينا وشمالا، وتهدر طاقات أبنائه أو ما يصطلح عليه ? الموارد البشرية ? عشوائيا، وإلا ماذا تسمى عسكرة المجتمعات العربية التي تجري بلا هوادة، وإنفاق الأموال الطائلة على الأسلحة والبقاء على أهبة الاستعداد وذلك تحسبا لمن؟ إما تحسبا من الجار الأقرب، وإما تحسبا من الأولاد العاقين الذين ضربتهم لوثة العنف، فانخرطوا في عصابات قطاع الطرق ومصاصي الدماء. ولكن وبالرغم من كل الإدانات للأبناء العاقين، تتحمل الأمة ضياع أبنائها وانحرافهم لأنها لم تسأل يوما ما مشكلات هذه الطاقات الشابة التي أعدادها اليوم بالملايين لاسيما وأن البلدان العربية قاطبة هي بلدان شابة وكثيرة الخصوبة، إذ تزيد نسبة الشباب إلى الكهول على 60 بالمئة، هذه الملايين العربية تتخبط في أزمات كثيرة تتركها الأنظمة تستفحل وتكبر حتى تقع الطامات الكبرى التي نراها اليوم ونعيش فصولها التعيسة، شباب عاطل بلا أمل ولا انتماء، عميق يشاهد الفساد والسرقات من حوله، وطبقة سياسية متخمة، ونظام حكم جائر لا يؤمن إلا شفاها بالمساواة والعدالة الاجتماعية. شباب ممزّق نفسيا لا يعرف بوصلة حياته إلى أين تسير، أدنى حاجاته الأساسية لا يستطيع تلبيتها، فضلا عن أصناف من القمع والكبت والإذلال، وفضلا عن ترك الحبل على الغارب للحاضنات الإجرامية التي تستغل ضياع هذه الفئة من الشباب، فتنخر عقولها بنزعات الكراهية والتكفير والتطرف والقتل، وسائر أنواع الإجرام المغطى بأغطية شرعية وأيديولوجية. هذا الواقع الذي نحن بصدده، هو حقا مهنة من لا مهنة له، ألا وهي مهنة اختطاف كامل للغد، فضلا عن بروز أشكال أخرى لاختطاف الغد مثلما شهدناه على الشاشات من قيام عصابات الجريمة المنظمة في العراق مثلا، باختطاف الناس عشوائيا وابتزازهم وترويعهم وترويع ذويهم وأخذ الأتاوات منهم في تجارة مربحة انخرط فيها الكبار في السن كما اليافعين في تنظيمات عصابية إجرامية تبث الهلع في الناس. واقعيا إن هذه الأعراض، مجتمعة، سواء الانخراط في الجريمة بتوصيفاتها المعروفة، أو الانخراط في العصابات التي تسبي الناس وتقتل وتفجّر وتذبح باسم الله تعالى علوا كبيرا عن هذا الإجرام، ما هي إلا علامات مرض في جسد البلاد والمجتمع، أعراض صارخة تنذر بالخطر وتتطلب أن يهرع المعنيون إلى العلاج والترياق الشافي، وألا تترك كرة الثلج لتتدحرج وتبلغ مدى أبعد وأبعد في إصابة النواة الصلبة للمجتمع في مقتل. يتطلب الأمر، قبل كل ذلك، وعيا مجتمعيا ورصدا مسبقا لما هو آت ونظرة واعية ومستقبلية تشخص الخطر الداهم وتتحسب له، فالدولة يجب أن تكون متيقظة منذ المحاضرة الأولى التي تلقّاها ذلك الشاب في إطار غسيل الدماغ لغرض استدراجه إلى ما هو أفدح وأبعد، القراءة الواعية لحياة الجيل، وما هي الحلول والبدائل من أبسط بديهيات وواجبات الحاكم ونظام الحكم. صور الانحطاط بأشكالها ما هي إلا البيئات الخصبة لإنتاج أشكال لا حصر لها من الانحرافات المجتمعية، ولهذا من المستغرب أن يجري إنفاق تلك الأموال الطائلة والجهود الهائلة لمكافحة الداء بعد استفحاله، وليس قبل أن يظهر أو حال ظهوره، وتلك هي الإشكالية الأخطر في الحياة العربية، ذلك النوع من الإهمال المتراكم للظواهر وتركها تتضخم حتى تتحول إلى معضلات معقدة للغاية من الصعب، بل أحيانا من المستحيل معالجتها بموجب أنماط الحكم والعقليات السائدة والأجواء السلبية المتواصلة التي تتعامل بسلبية مع الفرد، وتهمل الدقائق الصغيرة التي تشكل أرضيات خصبة لولادة التطرف وسائر الانحرافات الخطيرة التي ما انفكت تنخر المجتمعات العربية.