نزلت الدرج الضيق المعوج بخطى سريعة، تلقفها الدرب الطويل المظلم ، وجه ملائكي صغير بللته الدموع، حرقة ونظرة حزن وحنين . صدى الصفعة لا يزال يتردد في أذنيها ورسم كف فطيمة انطبع فوق وجنتها الصغيرة .أخذت تركض تاركة العنان لساقين نحيلتين غطى جزأهما العلوي سروال قصير وتنورة مخلفة وراءها الأبواب الموصدة . الأزقة الخالية تسكنها الرياح وقطط هزيلة تموء .تحاصرها جدران الدروب الملتوية فتشعرها بالدوار، ما إن ينتهي درب حتى تخلفه دروب أطول وأعمق. أنهكها المسير ولم تعد تذكر أين هي ،أو الى أين تسير .تعالى صوت المؤذن قريبا منها فاتجهت صوبه .تراءى لها من بعيد قوس ضخم نقشت عليه كلمات وحروف ،بابه الخشبي الكبير قد اضمحل لونه البني وشحب .أفواج المصلين تحج لتأدية فريضتها . جلست على عتبة الباب مسندة ظهرها الى الحائط .كانت تنصت الى الامام وهو يردد كلمات :الله أكبر .غالبها النوم فاستسلمت لسنته، وعندما استفاقت كان الجامع قد أصبح شبه فارغ بعد ان انفض المصلون في صمت وهدوء فور انتهاء الصلاة .فركت عينيها الصغيرتين وانتفضت قائمة .أخذت تخطو خطواتها مترددة حائرة تعالج بوصلة رأسها لعلها تهتدي الى طريق العودة .مخيلتها تختزن الأماكن ،لكن شبكة الدروب العنكبوتية تحول دون اهتدائها الى بيت أختها فطيمة.وبينما هي تائهة في دوامة حيرتها، أحست بلمسة لطيفة ليد تنزل على كتفها ،التفتت بخفة، يغمر الفرح قلبها الصغير.لا شك أنها فطيمة عثرت عليها بعد بحث طويل . تلقفتها كلمات مبحوحة لصوت غير مألوف ولكنة غريبة . وجه خلف الجذري آثاره العميقة فوقه : ماذا تفعلين هنا أيتها الصغيرة ، لا شك أنك ضائعة ، ما اسمك ؟ من والداك ؟ أين تقيمين ؟ أسئلة كالصاعقة تنزل على أذنيها فتجهش في البكاء . أمسك يدها وغادرا المكان تبتلعهما ظلمة الزقاق الطويل .أ وجدت نفسها داخل بيت واسع، فناء تتوسطه نافورة عتيقة يتراقص الماء نازلا من حوافها ،محدثا موسيقى هادئة .أبواب ونوافذ ضخمة زادتها جمالا قطع الزجاج الملون المتناغم مع الجدران المكسوة بالفسيفساء . نسوة خرجن من حيث لا تدري ، التففن حولها : -من تكون هذه الطفلة سيدي إسحاق ؟ إنها جميلة – شقراء ما أحلاها – ما اسمك يا حلوة ؟ – ضفائرها جميلة، ما اسمك يا عزيزتي ؟ بالكاد استطاعت أن تنطق اسمها : مريم . ارتفع صوت الرجل من بعيد يخاطب النساء : -لا شك أنها جائعة ،قدمن لها شيئا من الطعام لتأكله ، واحتفظن بها حتى نعرف أهلها . حضر الطعام الشهي في لمح البصر، لكن النساء لم يفلحن في جعلها تلتهمه . الخوف غول ضخم يجثم على صدرها ، خوف من أختها فطيمة التي فرت من بيتها بسبب الصفعة ، وخوف أكبر من هؤلاء النسوة البدينات اللاتي تتدلى من أعناقهن الحلي الذهبية وتزين أكفهن الغليظة نقوش الحناء البنية المائلة الى السواد .تتعالى قهقهاتهن مكسرة هدوء المكان ،ويرتفع لغطهن وغناؤهن وهن منهمكات في تنظيف الفناء الفسيح . كانت مريم تراقب حركاتهن وسكناتهن مذهولة من ذلك الانسجام الحاصل بينهن . في لحظة انتفضت كمن يستفيق من شظايا حلم مبعثر وتسللت خلسة في خفة طائر قاصدة الممر المؤدي الى بوابة البيت . تنهدت وهي تقف على عتبة الباب ، تطلعت الى الأعلى : سماء رحبة ورب كريم . تذكرت أختها فطيمة ، لا شك أنها تبحث عنها ، ثم تذكرت والدها سيدي أحمد الذي وعدها بزيارتها ، تراه نسيها ؟ وهي المدللة التي كان يصحبها معه الى حقول القمح ، يزين خصلات شعرها بزهرات الأقحوان ، يغني لها أناشيد الرعاة وهي تلاحق الخراف الوديعة . يوم السوق كانت تنتظر إطلالته محملا بلفافات الحلوى وقراطيس الفشار . حلم جميل يمر سريعا أمامها . استفاقت منه مبتسمة يملأ بريق الحنين عينيها . خطت خطواتها الى الأمام تحتضنها عتمة الدروب الباردة …… -يا صبية ، توقفي ، توقفي صوت مجلجل يجمد حركة ساقيها الرفيعتين . صوت ألفته ، التفتت يمينا ، خلف المنضدة الخشبية القصيرة يقف الحاج عبد الرحمان صاحب الفرن في مؤخرة الزقاق : -تعالي يابنت ، أين اختفيت هذا اليوم .فطيمة تبحث عنك . يا ولد ،اركض وراء فطيمة ، لقد توجهت صوب الساحة ، بشرها بعودة أختها الصغيرة . لا تكرريها أيتها العفريتة ، أختك كادت تجن . تسمرت في مكان بعيد عنه يحجبه عنها النور الخافت للفرن . تطل فوهة الفرن مضيئة متوهجة تستقبل أرغفة الخبز دقيقا معجونا وتودعها طازجة شهية. بعد حين ،عاد الصبي تتبعه فطيمة ببطنها المنتفخ ، أنفاس تتلاهث ووجه متورم من أثر البكاء . عانقت أختها بحرارة واعتذرت . في الغد كانت مريم تتجول مع فطيمة داخل القيسارية ،فقد وعدتها بفستان جميل وبعودة قريبة الى القرية . دنت فطيمة من محل الملابس تسأل صاحبه السعر ، أطل التاجر من خلف الفساتين المعلقة . -عم اسحاق ، كيف حالك ؟ – بخير بخيرابنتي . – لقد أحضرت أختي لأنتقي لها فستانا يليق بجمالها . التفتت فطيمة خلفها تفتش عن مريم ، كانت قد اختفت …