فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصبة
نشر في طنجة الأدبية يوم 17 - 03 - 2008

عشت أيها البطل الصغير، كان هذا صوت الحجة فطيمة .رمت لي كيس الطعام في حذر. الظلام حالك في الزقاق، سمعت صوت محرك السيارة، وبعض الكلمات بالفرنسية .
- الجنود في كل مكان!.
قال لي أبو محمود وهو يركض نحوي .
همست:
أين عبد القادر؟!
أجاب وهو ينظر إلى كيس الطعام:
لا أعرف .. لقد اختفى .
أطلت الحجة فطيمة من شباك منزلها وهتفت:
ادخلوا .. ادخلوا .
قفزنا من عتبة الشباك ...
اخرج أبو محمود مسدسه من جيبه، صاحت به الحجة فطيمة:
لا .. لدينا أطفال .
أعاد مسدسه إلى جيبه، لكنه بقي متحفزاً .
وقال بحنق:
لن نبقى هنا!
تناهى إلى مسامعنا خطوات الجنود . ثم إطلاق رصاص، وصوت نحيب امرأة .
قالت الحجة فطيمة بهلع:
هذا صوت! . صوت مليكه .
نحيب قوي مؤلم، بدد سكون المكان هدوء مخيف، نحيبها كسر هدوءه ويزيد من الخوف منه.
تلصصت الحجة فطيمة من الشباك بحذر.
ثم قالت:
لقد ذهب الملاعين .
خرجنا ووجدنا مليكة تبكي بألم وعلى حجرها رجل ميت .. صاحت وهي تقبله:
لقد قتلوا أبا فرحات .. قتلوا أبا فرحات .
ظهر طفل صغير أمام الباب، يرتجف .
بدأت السماء تمطر. المرة الأولى التي أشاهد فيها رجلا ميتا، ثقب جسده بعدة رصاصات . وبقيت جثة أبو فرحات تلازمني فترة طويلة، تذكرت أبي.
هو أيضاَ مات برصاص الفرنسيين، لكني لم أشاهد جثته .
أخرج أبو محمود مسدسه وصاح:
والله لأقتل أحدهم، وركض مبتعدا عنا .
حاولت اللحاق به لأمنعه لكنه تلاشى تحت المطر والظلام. بعد قليل سمعنا طلقات رصاص.
وضعت الحجة فطيمة يدها على صدرها وتمتمت:
لا إله إلا الله .
والتفتت إلي:
ارحل الآن .. قبل أن يعودوا .
ركضت كثيراً، وضعت كيس الطعام تحت ثيابي حتى لا يبتل.
صوت المطر وارتطامه على الأرض. وهدوء المكان المتقطع . ووقع قدمّي زادني رعباً .
ركضت أكثر من ساعة . لم أشعر بالخوف كما أشعر به الآن خيل لي أن الفرنسيين طاردونني.
وصلت البيت، ركلت بابه بقوة وأنا أصرخ مذعوراً:
لقد قتلوا أبا محمود!!.
وصمت!
المكان فارغ ومخيف، وضوء خافت ينطلق من قنديل وحيد، معلق بسلسلة تتحرك به ذهاباً وإياباً.. الدماء تملأ الغرفة، الجدران مثقوبة بالرصاص، تراجعت إلى الخلف مذعورا، وتعثرت بشيء وسقطت فاقدا الوعي .
لا أعرف كم بقيت فاقداً الوعي، حيث استيقظت على ظلام دامس من حولي .
بصيص من الضوء يتقدم نحوي. كلما يتقدم يبهرني الضوء، وضع يده على جبهتي بلطف وقال:
أنت في مكان آمن بني .
ثم وضع القنديل بجانبي .
صحت بفرحة:
عم يوسف .. أنت!!
شهدت ابتسامته تتلألأ وقال:
تلك الدماء في البيت ليست دماءنا .
سمعت سعدي يقول:
الفرنسيون .
تمتمت:
الحمد الله .
عرفت أن العم يوسف ورجاله أحسوا بحركة خارج البيت. فخرجوا من خلال نفق سري، شاهدوا ثلاثة من الجنود الفرنسيين يدخلون البيت، باغتوهم بإطلاق رصاص عليهم وقتلوا اثنين وأسروا الثالث .
سألت العم يوسف:
ماذا ستفعلون بالأسير ياعم يوسف؟
قال بتؤدة:
سنبادله بأحد رجالنا، هذا إذا لم يمت من الخوف منّا ..
اكتشفت أننا جميعا نقيم في حارتنا، حي القصبة . حيث ولدت وترعرعت في هذا الحي الكبير، كانت لي طفولتي الخاصة. واشتهر الحي بقصوره العثمانية و منازله العتيقة وأزقته الضيقة. وبالمحلات، والدكاكين، خياطون وصانعو فخار، إسكافيون، وبائعو ملابس تقليدية. وعرف هذا الحي بأنه كان معقلا للثوار الجزائريين .
كان الفرنسيون يرهبونه، لم يتجرأوا كثيراً في التوغل إلى عمقه، فالثوار يتوزعون في أزقته وبيوته، وما سهل لهم كثيراَ الإفلات من الفرنسيين .
ذات يوم كان العم يوسف مجتمعاً مع رجاله، فيها تردد إلى مسامعي غير مرة اسم جميلة بوحيرد لأول مرة .
سمعت صوت امرأة تصرخ:
سأحمل السلاح مثل جميلة .
وخرجت مسرعة وبيدها بندقية، باليد الأخرى تجر طفلاً خلفها .
تبعها بوعلي صائحاً:
مليكة انتظري .. يا أم فرحات .. انتظري .
يلحقه العم يوسف بصوته:
دعها .. إنها امرأة شجاعة .
التفت إلي بوعلي وقال:
أنت! .. نم .
وأغلق الباب خلفه .
لم أكن أحب بوعلي، كان يعتبرني طفلاً، رغم أني بلغت السادسة عشرة من عمري، العم يوسف وهو صديق والدي، يعتمد علي كثيرا في القيام ببعض الأعمال، كجلب الطعام للثوار، وفي نقل الرسائل، وفي التجسس على أماكن الفرنسيين ورصد تحركاتهم، وهو عمل بقدر ما كان يشعرني بالمتعة، كان له رهبته .
ما زلت أذكر وجه سعدي متجهماً عندما دخل علينا الغرفة وبيده صحن من الطعام، قال بصوت ضعيف:
الفرنسي .. لقد انتحر .
ركضنا جميعاً إلى البدروم، يسبقنا العم يوسف، وجدنا الفرنسي ممددا على الأرض والدماء تنزف من رسغ يده اليسرى. وقنينة زجاج مكسورة .
تحرك الفرنسي، ارتبكنا، أسرع العم يوسف في ربط مكان الجرح ليمنع نزيف الدم. وصاح بنا:
ليذهب أحدكم ويحضر الحكيم بسرعة .
بقيت أراقب الفرنسي وهو ينازع الموت، لا أدري لم حاول الانتحار رغم أني أخبرته بأننا سوف نبادله بأحد من رجالنا .
قال سعدي غاضباً:
كان يجب أن تدعه يموت .
جاء الحكيم، وعالج الفرنسي، و خرج علينا قائلاً:
سوف يشفى، لم يكن الجرح عميقا.
وقبل أن يغادر المنزل قال بصوت هادئ وعميق:
احذروا .. إنهم يبحثون عنه، يفتشون بيتاَ،بيتاَ .. مع السلامة .
بدأ اسم جميلة بوحيرد يتردد بيننا كثيراً وأيضاً جميلة أبو عزة .
مليكة قبض عليها وهي تحاول قتل تاجر فرنسي، عذبت واغتصبت ثم أطلق سراحها عن طريق الخطأ، لم أرها، سمعت بأنها تزوجت رجلاً من الثوار وشكلت معه فصيلة من المقاومين .
أعدم أبو محمود وعبد القادر بالمقصلة بعد محاكمة سريعة، وبقت جثتاهما معلقتين بجانب ثكنة عسكرية فرنسية .
حزن العم يوسف عليهما حزنا ً عميقاً، أول مرة أشاهده يبكي، كان أبو محمود أكثر الرجال المقربين إليه، قال وفي عينيه إصرار عجيب:
قسماَ بالله إني لن أموت ألا شهيداً مثلك يا أبا محمود .
لكن العم احمد لم يمت شهيداً حيث عمر وعاش فترة طويلة ما بعد الثورة .
كنت نائماً عندما خرج العم يوسف ورجاله من البيت في الساعة الثانية صباحاً وعادوا قبل الفجر بقليل، قال لي وهو يلكزني بكعب بندقيته:
انهض أيها الشاب .
فتحت عينيّ وجدتهم جميعهم حولي مبتسمين .. سألت:
ماذا حدث؟! .
قال لي زبانه:
لقد ضربناهم .. قتلنا الكثير منهم .
حقاً، ثم لم لم تدعوني أذهب معكم؟!.
رفع العم يوسف البندقية عالياً وقال:
هذه بندقيتك سترافقنا في المرة القادمة.
قفز بوعلي واحتج قائلاً:
لا .. مازال صغيراً.
- لقد كبر ..
قال ذلك وقذف البندقية في حجري .
بقيت جالساً في فراشي والبندقية في يدي .. كنت فرحاً تمنيت طويلاً حمل البندقية مثل أبي، أبي مات شهيداً، مات واقفاً وبيده بندقيته، بكيت بشدة، كم تمنيت الانتقام لأبي، فجأة قفزت من فراشي، وركضت إلى البدروم وصوبت فوهة البندقية على رأس الأسير الفرنسي، فأخذ يصرخ من الخوف حتى تبول على بنطلونه، والعرق يسيل من جبهتي رغم برودة المكان وينقط على كعب البندقية ثم يمر إلى الزناد لينحصر هناك، لحقني العم يوسف وتبعه الآخرون، سحب من يدي البندقية وهمس:
اهدأ بني .
ارتميت على صدره وأجهشت بالبكاء .
في اليوم التالي أخبرني العم يوسف أن الجندي الفرنسي قد مات، قال لي سعدي مبتسماً:
لقد أخفته .
لم أعلق، كنت أحب مواجهة الجندي في ساحة المعركة .
دار نقاش حاد بين بوعلي والعم يوسف بسببي، لم يكن بوعلي يوافق على ذهابي معهم للقتال مبرراً بأني مازلت طفلاً، فدخلت عليه غاضباً ووقفت أمامه مستعداً لمصارعته .. صحت:
هييه .. دعني أر قوتك .
قال بلا مبالاة:
ابق في فراشك .
فعاجلته بلكمة بوجهه، لم يترنح، لكمني بقوة حتى سقطت متألماً، لكني نهضت كالثور وحملته ورميته بعيداً، وشجعني العم يوسف ورجاله:
هيا بني .. دعه يرَ قوتك .
نهض بوعلي مسدداً لي عدة لكمات قوية، ترنحت لكني بقيت واقفاً، لم أسقط . أنفي وفمي ينزفان، ثم سدد لكمة قوية قذفت بي أرضاً، تقدم بعد ذلك نحوي ومد يده ليرفعني، صافحني وشدني إلى صدره واحتضنني بقوه .
مليكه وزوجها استشهدا في كمين نصب لهما .
أخبرنا أحدهم أنه تم القبض على جميلة بوحيرد .. لم نصدقه .
عرفناه بعد أيام أن الخبر كان ملفقاً من قبل الفرنسيين .. تحولت جميلة إلى أسطورة .
أصبحنا أنا وبوعلي متلازمين، كان يحبني ويهتم بي، اخبرني أن أخاه استشهد وهو في سني .
وصلت لنا معلومات أن الفرنسيين سوف يدخلون حارة القصبة بأعداد كبيرة، للقبض على الثوار .. قال العم يوسف:
سوف نتدبر أمرهم بسهولة .
يدرك الفرنسيون أن حي القصبة من أصعب الأماكن اختراقاً .
قال لنا العم يوسف:
افحصوا بنادقكم جيداً، احملوا قدراً كافياً من الرصاص، سوف نتوزع إلى مجموعات صغيرة مع الآخرين .
ثم التفت إلي وقال:
أنت ابقَ مع بوعلي .
نظرت إلى بوعلي. كان منهمكاً في فحص بندقيتي .
ذهب الجميع وبقيت أنا وبوعلي ورابح، كان بوعلي صامتاً طوال الوقت، بينما كان رابح قلقاً والسيجارة لا تفارق فمه، تحرك بوعلي قليلا. ثم فجأة رمى لي البندقية وحزاماً من الرصاص وقال:
كن مستعداً .
أقول الحق، كنت خائفاً فلكنة بوعلي قد أخافتني، فكأنه يقول كن مستعداً للموت، نزعت السيجارة من فم رابح ورحت أدخن بشراهة، سمعت بوعلي يتمتم:
لا إله إلا الله .
ثم خرج بعد أن وضع اللثام حول وجهه وفعل مثله رابح، ولم أفعل لأني لم أحمل اللثام معي، كنا نمشي خلف بوعلي مثل ظله .. قال لنا بوعلي:
سوف نتجه إلى الشمال .. سوف نحاصرهم .
وجدنا مجاهدين آخرين يمرون من أمامنا بخفة، ثم سمعنا صوتاً يشبه صوت البومة، وتكرر هذا الصوت كثيراً، سمعت بوعلي يقلد أيضا هذا الصوت، وأدركت أنها إشارة بين المجاهدين، كان الظلام حالكاً. تعثرت أكثر من مرة برابح .. فقال لي غاضباً:
ابعد عني مئة متر .. حتى لا تسقط أيها الأعمى، فمشيت خلفه بحذر .
سمعنا طلقات رصاص مكثفة، ثم خيم في المكان هدوء عجيب لا يقطعه سوى أصوات تلك الطيور التي أزعجها طلقات الرصاص .
عادت الطلقات من جديد أكثر كثافة وأكثر قرباً منا، ارتجفت، شعرت بالخوف الشديد. لم أشعر بنفسي وأنا أركض خلف بوعلي ورابح، وجدت نفسي أركض بقوة. بل وأسبقهم من دون شعور، اعتقدت أنهم أيضا يفرون مثلي.
صاح بوعلي:
إلى أين؟.. انتظر .. ستقتل!
وقفت في مكاني منتصباً، كانت الطلقات قريبة مني أشعر بصفيرها تمر من أمام أذنيّ، كنت في حالة صدمة، قدماي تصلبتا على الأرض، صوت بوعلي يضعف ويضعف أمام كثافة الرصاص، فجأه شعرت كأن أحدهم رمى بنفسه فوقي وسقطنا معاً على الأرض جسده على جسدي .
بدأ صوت الرصاص يخف تدريجياً، سمعت بوعلي يهمس لي في أذني:
أيها الغبي .. ستقتل نفسك، من ثم زحفنا إلى مكان آمن .
بقيت أنا وبوعلي في ذلك المكان حتى الصباح،كنا على بعد أمتار قليلة من موقع الفرنسيين تاركين إحدى عرباتهم تحترق مع سائقها .
أخفى بوعلي عن العم يوسف ما حدث لي تلك الليلة، وأخبرهم أني قمت بعمل شجاع وكدت اقتل أحد الفرنسيين، لحظت فيما بعد العم يوسف يشم فوهة بندقيتي، والتفت نحوي مبتسماً.
حضرت اليوم عائشة الابنة الوحيدة للعم يوسف،في المرة السابقة عندما حضرت لم أرها .. سمعتها تحدث والدها، وكأنها تكلم رجلا لا تعرفه:
أمي تريد تشوفك .
وضع يده بلطف على رأسها وقال:
لا أستطيع أن أحضر
تتراجع إلى الوراء لتسقط يده إلى الأسفل .. قالت:
أمي مريضة ستموت .
أعجبتني الفتاة، بدت لي بهيئة مقاتل، ولدت لتقاتل، كانت واقفة أمامه تحدق إلى وجهه بقوة وحزم .
- لا أستطيع الحضور .. اذهبي .
- لن تحضر! .. لن تراها قبل أن تموت .
لم يقل شيئاً . استدار وتركها في الغرفة، خرجت تركض، لا أعرف لمَ رحت أركض خلفها، ناديتها:
عائشة ..عائشة.
توقفت، وحدقت نحوي. وحاولت مسح دموعها وقالت:
نعم .. من أنت؟!. وماذا تريد؟
تلعثمت وقلت:
أنا أعمل مع والدك.
- تعمل!
- أنا من الثوار .
- حسناً؟ ماذا تريد؟! أيها الثائر
هززت كتفي بعجز .. و قلت في خجل:
أمشي معك إلى البيت .
تطلعت إلي وهزت رأسها .. ومشينا معاً .
سألتني بعد حين:
ما اسمك؟
- عميرات .
- كم عمرك؟
- ستة عشر .. وأنت؟
- سوف أبلغ الثامنة عشرة بعد أيام
- أمك مريضة ؟
- نعم .. السل
قال لي رابح ذات يوم:
إن الفرنسيين جبناء عندما يعجزون عن القبض على المجاهدين فإنهم يلجأون إلى أسر عائلاتهم واغتصاب النساء وتعذيبهن .
كان الطعام الذي يصل إلينا قليلاً فاضطر العم يوسف أن يوزع بعض رجاله إلى أماكن أخرى أراد مني بوعلي أن أرحل معه إلا أن العم يوسف رفض ذلك وبشدة .
ودعني بوعلي بحرارة وقال:
سوف نلتقي قريباً .. كن حريصا على حياتك .
كانت هذه آخر مرة أرى فيها بوعلي .. انتهت الثورة وهاجر بوعلي إلى فرنسا .
فرحات ابن مليكه، علمنا أن عائلة فرنسية أخذته إلى فرنسا بعد أن وجد حياً تحت جثة أمه، عمه سافر إلى فرنسا لاسترداده .
- أمي ماتت .
- ليرحمها الله.
قال ذلك واستدار عائداً إلى الغرفة وقد أغلق الباب خلفه.
لحقت عائشة إلى الخارج، سرنا فترة طويلة دون أن نتفوه بكلمه، ثم سمعتها تبكي، واحتضنتني بقوة وكانت تصرخ:
اتركني ابكِ.. اتركني ابكِ.
تابعت تقول:
كان أبي عاجزا أن يبكي أمامي .. وكنت مثله عاجزة أن أبكي أمامه يالتفاهتنا.
التقيت عائشة كثيراً .. أخبرتها ذات مرة أني أحبها، تطلعت بي بسخرية وقالت:
أيها الطفل الصغير أليس من الأفضل أولاً أن نحرر أنفسنا.
وأضافت وهي تركل علبة صفيح:
ما الفائدة أن نحب بعضنا .. لنتزوج .. لتموت أنت برصاص الفرنسيين .. أو أموت أنا بمرض السل .. قبل كل ذلك ستتركني أقلق عليك طوال الوقت.
ثم تنهدت وقالت:
سوف أسافر إلى فرنسا .
لكنها لم تسافر أبدا.
ذات يوم دخل علينا مرسلي وبيده صندوق خشبي وضعه أمامنا وقال:
تعالوا .. انظروا .
تجمعنا حول الصندوق .. قال وهو يبتسم لنا:
انظروا إلى حجم القنابل .. أصبحت صغيرة.. تستطيع النساء إخفاءها في مكان آمن .
هز العم يوسف رأسه وقال:
عظيم .. أبلغ عائلة بوحيرد تحياتنا .
قفزت إلى مرسلي وقلت له:
خذني معك .. أريد أن أراها .
قال دون أن يلتفت لي:
لا يمكن .
أمسكت يده وتوسلت:
أرجوك .
التفت إلي طويلاً، وغادر دون أن يقول شيئاً .
كان عدد قليل جداً يعرف منزل جميلة بوحيرد لاحتياطات أمنية، حيث تصنع القنابل في منزلها، تمنيت كثيراً رؤية جميلة، لكني لم أرها طوال حياتي .
وضعت جميلة أبوعزة قنبلتها في مقهى ميشلي مما أدى إلى خسائر كبيرة بين الفرنسيين .
التقيت في الصدفة بزيغود الذي عمل خياطاً مع والدي، والدي الذي كان يعمل خياطا في النهار ومجاهدا في المساء. قال لي زيغود وهو يحضنني بقوة:
ياااا.. لقد كبرت .
قال ذلك وانفجر باكياً، كنت أعرفه شاباً رقيقاً ومؤدباً، أحب والدي كثيراً، كان أكثر تأثرا بوفاة والدي، أخبرني بأنه فتح محلا للخياطة وسماه باسم والدي، وطلب مني زيارته في المحل، وعدته بذلك، لكني خلفت وعدي، وزرته بعد سنوات طويلة.
عاد الطفل فرحات وعمه من فرنسا، استقبله أهله وأهل الحي بفرح شديد. قال إن الوضع في فرنسا متوتر وإن الثورة الجزائرية ترعبهم وإن هناك أصواتاً بدأت ترتفع مطالبة برحيل الفرنسيين عن الجزائر .
طلبت عائشة مقابلتي، كانت كئيبة حزينة، جلسنا على درب صغير، ثم راحت فجأة تبكي بشدة . أخبرتني أنها تحاول أن تعمل لتجمع النقود وتهاجر إلى فرنسا وطلبت مني أن أرحل معها، لم اقل شيئا. اكتفيت أن أعاتبها بعيني، وتركتها، لحقت بي، اعترضت طريقي وصرخت غاضبة:
ستموت.
ابتسمت لها بشفقة ورحلت.
خرج العم يوسف مع بعض رجاله ليلا، وعاد مصاباً بجرح عميق وقد فقد نصف رجاله.
قال لي سعدي ساخطاً:
الجبناء رموا علينا قنابل النابالم . أصيب العم يوسف بحروق شديدة في بطنه وبترت بعض أصابعه.
كان العم يوسف رجلاً قويا لم تؤثر به تلك الإصابة. استمر يقاتلهم حتى النهاية.
بعثت برسالة إلى عائشة أخبرتها فيها عن إصابة والدها لكنها لم تحضر أبدا لرؤية والدها، فكرت في أنها هاجرت لفرنسا.
تلقى الجيش الفرنسي الكثير من الضربات من جميع الجهات. أصبحوا أكثر وحشية وقسوة ضد الجزائريين، شهدت الجزائر اضطرابات استمرت لأيام، ونزل الجيش إلى الشوارع محاولا فتح المحلات بقوة وقام بتكسير أبواب المحلات و المنازل، ثم وصل إلى حي القصبة وعمل على هدم أبواب المحلات والدكاكين .
قام العم يوسف بتقسيمنا إلى مجموعات صغيرة، كل أربعة أفراد في مجموعة واحدة، وتوزعنا في الحي . وحدث اشتباك مع الفرنسيين، لم يجرؤ كثيراً على الدخول إلى الحي .
شاهدت مرسلي يركض نحونا صائحاً:
الكلاب ..إنهم يحاصرون جميلة بوحيرد .
- أين؟!
لم أنتظر منه رداً، ورحت أركض مبتعداً عنهم، وشاهدت سيارة فرنسية أمامي، وأطلقت عليها الرصاص، وظهر أحدهم وبيده رشاش، وأطلق الرصاص بعشوائية نحوي، وسمعت صوتاً يشبه صوت العم
يوسف:
أخفض رأسك .
توقفت، التفت خلفي وشاهدته يشير إلي بيده، ثم فجأة أصابني شيء في رأسي وسقطت فاقداً الوعي .
خدشت رصاصة رأسي. تمنيت لو مت، أخبرني العم يوسف بأن جميلة بوحيرد وجميلة بوعزة قد تم القبض عليهما، وأن بوحيرد أصيبت إصابة بليغة في صدرها. حزنت كثيراً، وتمنيت أن تموت ولا تقع في أسر الفرنسيين .. لكنها لم تمت .
أصبحت أقود مجموعة من خمسة أفراد، كنا نقوم بوضع القنابل والألغام ضد عربات الفرنسيين، لكنهم في نفس الوقت كانوا يلقون علينا القنابل على أمل إضعافنا، لكنهم كانوا يزيدوننا قوة وشراسة .
ذات يوم جاء إلينا الولد خوجا وهو في السادسة عشر من عمره، كلما ألتقي به يذكرني بنفسي حينما كنت في سنه أنقل الطعام والأخبار إلى الثوار، قال إن الفرنسيين سينقلون بعضاً من عرباتهم وجنودهم إلى معسكر آخر في منتصف الليل .
طلبت من أفراد مجموعتي الاستعداد، كنت مندفعاً ومتهوراً .
خرجنا من القصبة ليلاً وحملنا معنا أكبر قدر من القنابل والرصاص، بدت لي هذه المعركة هي المعركة الأخيرة، معركة التحرير، شاهدنا عدداً كبيراً من الجنود بعرباتهم .
تطلعت إلى رجالي، كانوا على أهبة الاستعداد، وأعطيتهم الإشارة بالهجوم، بدأنا بقذف القنابل عليهم، ومن ثم أطلقنا عليهم الرصاص بكثافة، كنا قد حاصرناهم، وأصبحوا على مرمى من نيراننا،إحدى العربات استطاعت أن تفر وتعود إلى معسكرها، عادت بقوة كبيرة والتفوا حولنا، قامت مدفعيتهم بقصفنا، طلبت من رجالي الانسحاب، لكنهم حاصرونا، وسقطت قذيفة بالقرب منا وسقط عبد الهادي مصاباً بساقه، فحملته على كتفي ورحت أركض، استطعت الإفلات منهم ووصلت حي القصبة، ودخلت البيت وأنا أصرخ:
لقد أصيب عبد الهادي في ساقه، أحضروا الضمادات .. الحكيم .
التف الجميع حولي، قال العم يوسف:
أنت أصبت .
صرخت:
لا
قال:
أنت تنزف، وأشار إلى بطني .
قلت:
هذا دم .. عبد الهادي، قلت ذلك ومزقت أزرار قميصي، اخترقت شظية بطني دون أن أشعر بها، نظرت إلى الجميع بذهول وسقطت فاقداً الوعي .
فتحت عيني ..
وجدت عائشة جالسة بجانبي، وأناملها تلعب بشعري بلطف، لم أعرف كم مضى من الزمن وأنا فاقد الوعي .
- عائشة .
- نعم حبيبي .
- أين كنت؟!
- أبحث عنك
- لم تسافري .
ابتسمت:
أسافر .. ولمن أترك حبيبي الصغير يعتني به .
- أين العم يوسف؟
- ذهب ليحتفل .
- هل سيتزوج؟!
- يتزوج! .. وضحكت
- الفرنسيون .
قامت وفتحت النافذة حيث تسربت أشعة الشمس بقوة على الغرفة وشاهدت وجهها يتلألأ وقالت:
سألتني عن أبي وقلت لك ذهب ليحتفل .. لم تفهم بعد؟ .
- آه .. حاولت الابتسام لكني لم أستطع كان الألم شديدا. تمتمت عائشة وهي تقبل رأسي:
لا تقلق.. سنبقى معاً حبيبي.
قالت ذلك وتركت جسدها على صدري وبقيت أنا محدقاً إلى الشمس حتى غابت .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.