اهتزت صدورنا الضعيفة كالمرجل حين سمعَت بالنبأ،ولم نتمالك أنفسنا فذرفنا الدمع غزيرا .. مسحنا دموعنا بمناديل قديمة لما تجف بعد ! وتذكرنا بموته رجل الأخلاق(1) ومن كان قبلهُ، خَاطَبْنا المناديل:"ما عُدتِ أيتها المناديل تمسحين شيئا بما صار عليك من بلل" ! حملنا النعش على الأكتاف إلى حيث حفرة هناك بجوار قبر حبيب آخر (2) ثم بكينا..خاطَبَناَ أحدُهم:"كفاكم حزنا فحكمة الله سبقت حكمة صاحبكم والرجل قد صار إلى ربه وهو أحكم الحاكمين"،أطرقت رأسي وخاطبته في نفسي:"بل دع الحزن يحيي فينا ما مات من معاني جميلة،دعه يرقص كالجريح الحزين(3) المستوحش لبسمة تزين وجه الوطن". نظرت فإذا بأطياف الحاضرين للجنازة في كل الأزقة والدروب في خشوع رهيب.. ! من منكم يا سادتي يستطيع صد بكائهم إذ يمشون إلى المقبرة ومعهم أشلاء جسد طاهر مزقته خفافيش الظلام في ظلام ؟ ! كلماته تأبى إلا أن تضرب بأمواجها القوية ضفاف قلوبنا العليلة،تخاطبنا :"قد يكون الابتلاء نتيجة جهل بالسنن الكونية والشرعية أو خطأ في الفهم والتقدير،ويثبت الأجر على حسب النية، ويقع الابتلاء عقابا عاجلا كما وقع للمسلمين في غزوة أحد،فإنهم لم ينتصروا ولكن قتلى المسلمين من الشهداء"(4). سمعت صوتا يخاطبني : * لم ينتهي زمن الظلمات بعد يا ولدي،وإن كان مدُّهَا تقهقر نسبيا بدون شكٍ مع ظهور أولى بشائر الربيع وهي تحمل في يدها مصباحا أوقد الصالحون شمعته. قلت: يا الله ما أحزن هذا الزمان وما أقساه ! من لم يمت غرقا بين الشعاب والوديان مات كطائر محمل بوهج الشروق تتطاير أطراف جسمه الصغير في الهواء كما شظايا بركان ملتهبة استنفذتِ النارُ منها أغراضها فهَوَتْ بها جانبا. دخان بلادي يا سادتي أسودٌ رهيبٌ يأتي على كل شيءٍ ويعصف بالنور حيث وجد..وهذه القلوب المتوضئة اليوم تسمع كل شيء..والصم وحدهم لا يسمعون ! نظرت إليه وسألته: * إلى أين يا سيدي؟ماذا نصنع بعدك؟ ابتسم ابتسامته المعهودة وأجاب دون أن يلتفت: * هذا زمن الصمت يا ولدي ! حاولت فهم مراد كلامه ولم تكن إلا لحظات حتى تجلت الحقيقة ناصعة أمامي:"من لا طاقة لكفه على القبض على جمر مواجع الوطن قهرا لا سبيل له إلى الإصلاح". (1):أحمد الزايدي رحمه الله. (2):قبر الدكتور عبد الكريم الخطيب رحمه الله يقع إلى جنب قبر الراحل عبد الله بها رحمه الله. (3):وقَّعَ الدكتور أحمد الريسوني وهو كما لا يخفى من أصدقاء ورفقاء درب الراحل عبد الله بها رحمة الله عليه رسالة تعزيته إلى أسرة الفقيد الصغيرة والكبيرة بهذا اللقب. (4):من مقالة للراحل عبد الله بها رحمه الله بعنوان:"سنة الابتلاء" كتبها في جريدة "الاصلاح" ( السنة 2 – عدد 24) .