الباب في العادة لا يغلق إلا إذا اقتنصت المومس طريدتها ، كان رجال الشرطة كثيرا ما يزورون ماخور " حاسي بركة "يغلقون الزقاق من مدخله فترى الرواد يتسابقون ركضا ... جري ولغط وصفير ينطون فوق الأسوار الطينية المهترئة ، يثبون خارج حي المتعة فرارا من صفعات " الثعابين " كما يسمونهم أو من مساوماتهم الدائمة أما من يرفض منطق " التدويرة " فالغارة على الحي تجعله مأسورا أو مكسورا. حين تغادر حي المتعة تجد نفسك وسط شارع " حاسي بركة " الذي يشطر دور الحي إلى شطرين : سفلي ينتهي بواحات النخيل الممتدة على حواشي وادي درعة ، وعلوي ينتهي بالمصلى الملاصق للخيرية ، تمر أمام دكان " الروكش " الواقف أمامك يمينا ، فتقف عند أعتاب بيت المرحوم " علي العوجا " لتنتعش أنفاسك من جديد فتنسى نتانة الماخور تحت ايقاع خرير المياه المنسابة بين ثنايا الساقية التي يمر فوقها كل غاد ورائح ، تأخذك الطريق المغبرة و المتربة إلى حي" تانسيطة " ببيوتاته الطينية المتقاربة، وزقاقاته الضيقة المنداة بمياه الغسيل ، تصادف صبية حفاة ينتعلون التراب سمر الوجوه يملأون المكان ضجيجا وصخبا ، غير بعيد عن مدخل الحي وسط الزقاق الطيني المستطيل الذي يشبه السرداب إلى حد بعيد يوجد المخدع الهاتفي الوحيد في" تانسيطة " ، حين تنحدر يمينا تجد " تودة الخياطة " التي اعتادت أن تعيش على رتق ما تعاتق وتقادم من ألبسة أهل الحي البسطاء . في منتهى زقاق " بوسكري " يوجد مسجد الحي الوحيد ، الذي مازالت سواريه و أسواره عارية تنتظر إحسان المحسنين ، فأشغال التبليط والتنميق تنتظر دريهمات أهل الجود وعطف" السافاريان " الذين يفدون على المنطقة خلال عطلة الصيف. في مخدع " إجديكن " هذا الذي يحمل معنى الورود بالأمازيغية إعتادت " حياة " أن تحادث رفيق دربها " يشو " فيتواعدان ليلتقيان ، هكذا كانت لقاءاتهما تتكرر وتزداد العلاقه توطدا و توهجا ، كانت ترافقه على متن دراجته النارية يختليان ببعضهما البعض ينتشيان بسويعات العناق المحرم ، تعود " حياة " إلى المنزل وهي تحمل في دروب ذاكرتها النشوى أحلاما وردية لا تنتهي: " غدا يزهر المستقبل سنبني عشا ، سأغدو زوجة " يشو "على كل حال ، لا بأس لا يضر انا أحبه وكفى " . كانت تمرر يديها على خصلات شعرها المتدلي ، تداعب خطاباته العاطفيه التي أمطرها بها طوال الأيام الخاليات... إعتادت أن تستسلم لعباراته الجميلة التي يطرز بها الأوراق ، فتشنف أسماعها على نغمات عبد الحليم كانت تهيم وتهيم... ، تطرب وتنتشي. " أمي المسكينة ، آه أمي الساذجة البسيطة ، لم أكذب قط على أمي حتى أحببت هذا المعتوه ، لكنني تعلمت الكذب عندما أصبحت أخرج معه ، مرة أدعي أنني مع صديقتي وأخرى أستدعي إلى مخيلتي المطواعة كل الأعذار حتى أغادر منزلي كي أستمتع بلهيب أنفاسه الحارقة " . كانت " حياة " تائهة في حوار داخلي أليم يكاد لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد : " كم مرة كذبت وكذبت....حتى أراك و أتشممك و أعانق طيفك الواقف أمامي لم تكن أنت على كل حال ". الأفكار تتصارع في دماغها وهي تجري نحو بيتها ، النابت قرب المخدع أدلفت بسرعة إلى غرفتها الصغيرة ، كتبها لا تزال متناثرة على الطاولة حيث تستعد لإمتحانات الباكالوريا ، فتات خبز هناك على أطرف المائدة كأس صغير به بقايا قهوة ، حصير أحمر يكسو حجرة صغيرة، على حواشيه وضعت وسادة فيلالية وردية فوق فراش بني متواضع ، قبالة السرير ينغرس مسمار في الحائط الطيني تتدلى فوقه سبحة منظومة من عقيق رديء ، صار بياضه سوادا بعد أن تعب من مداعبة الأب لحبيباته كلما جلس أمام التلفاز ، وهو يسمع بتلذذ غريب صوت مذيعه المفضل " مصطفى العلوي ". ارتمت على وجهها وألقت بجسدها العليل المتهالك فوق السرير ، كانت تبكي بكاء مراً وتنتحب ، نحيبها يصل الى الأم وهي تعد لمجة المساء في انتظار عودة الأب من عمله على شاحنته في مقلع الحجارة في" بني زولي " قرب القنطرة على ضفاف درعة... لقد طاف " حمو " الغرب كله باحثا عن عمل شريف يقتات منه و يضمن له درهما حلالا يعتاش منه ، ويطعم زوجته وابنتيه " حياة " و " فرح " ، عاد إلى مسقط رأسه عاملا ينقل الحصى والحجر والتراب من حواشي الوادي نحو المدينة و ضواحيها ، لقد يئس من حياة الغربة و تجرع مرارتها التي أحنت ظهره وأثقلت كاهله بالديون ، دون أن يفلح في تشييد الاستقرار الذي كان يطمح اليه... تناهى إلى مسامع أمها " ربيعة " وهي في المطبخ نحيب الفتاة في غرفتها ، شكت في بادئ الامر لأن "حياة "غادرت البيت عصراً ، حاملة معها دفتر الفرنسية كي تراجع مع صديقتها ، فما سبب عودتها الآن وهي تبكي وتنتحب ؟ لكن تعالي البكاء واستمراره نزعها من تفكيرها المجوف فأسرعت إلى غرفة الفتاة ، كانت تضرب الباب بعنف الأم المكلومة وهي تصيح بأعلى صوتها : " حياة إبنتي افتحي الباب، اخبريني ماذا حدث ؟ " لكن الفتاة امتنعت فقد اغلقت الباب عليها من الداخل واستسلمت للبكاء والنواح ، كانت تنتحب وصدرها يعلو وينخفض تحت تاثير رصاصاته الموجعة .. ساءها أن تسمع منه هذا الكلام بعد سنتين جميلتين كانا يتواعدان فيها ، هو لم يعدها أبداً بشيء ولم يطلب يدها للزواج ، ولكنها استسلمت - مذ عرفته - لأوهام جميلة فشيدت أحلاما وردية كبرى على رمال الشاطئ ... وياليتها شيدتها على رمال الوادي الذي يرتاده والدها كل صباح قد تدوم أحلامها أطول من يدري !؟ يومها قال لها وهو يهاتفها وبأعصاب باردة : " ... أنا لن أستمر معك على هذا الحال " - ماذا تعني ؟ - ألا تفهمين ماذا اريد أن أقول سأتزوج . أحست أن الدوار قد سكن جثتها من مقدمة رأسها الى أخمص قدميها ، لم تصدق مسامعها فألتفتت إلى صديقتها سعاد التي كانت تجلس قبالتها على كرسي بلاستيكي أخضر اللون وهي تقلب بين يديها عشرات الدراهم تنتظر قدوم زبائنها ، ألقت السماعة من يدها اليمنى ، فغرت فاها واستسلمت للدوار الذي كاد يفصل أنفاسهاعن جسدها ، خرت من أعلى محدثة دويا صادما لم يكن منتظرا ، تحاملت على نفسها كي تفف من جديد ، استيقظت وقد ارغدت وأزبدت ، كأنها لم ترد أن تصدق ما سمعته آنفا ، استيقنت من الخبر ، حينها بدت كما لواستوعبت نسبيا صدمتها أسرعت سعاد نحوها ، أهرقت فوق رأسها كاس ماء مثلج كان داخل القارورة الموضوعة فوق الطاولة الحديدية المهترئة ، التي اعتادت أن تضع فوقها أغراضها البسيطة : رزمة مفاتيح ، كأس بلاستيكي أخضر ومجلة نسائية قديمة تحمل إسم " سيدتي " . تحاملت ونهضت ، عادت إلى البيت راكضة مسرعة على غير عوائدها ، كانت قد غابت عن الوعي بعد طول بكاء وانتحاب ، غص البيت بالزوار والفضوليين ، من يواسي ومن يشمت ، كثر الغمز واللمز بين الجيران ، أولئك الذين عادة ما يكونون مستودع الأسرار... حضرت الإسعاف ، حملت الفتاة على وجه السرعة إلى المشفى ، أدخلت ساعتها إلى جناح الإنعاش ، حقنت بما يلزم شدوا وريدها وألصقوا فيه أنبوبا ، أفرغوا فيه بلسما لعله ينعش عروقها المتيبسة . تمنت حياة بعد استيقاظها وهي على هذه الحالة لو قطعت شريانها الأيسر بدل غرز أنبوب الدواء فيه.فتحت عينيها السوداوين المتورمتين ببطء شديد على صور ضبابية ، أشباح تقف أمامها أدركت بعد لأي أن الأم والأخت كانتا واقفتين أمامها ، أرادت أن تبكي من جديد و تصرخ بأعلى صوتها حتى يسمع جميع الناس صرختها ، لكنها لم تستطع ، أدركت " حياة " أن ذلك يعني بداية التعافي من آثار الصدمة ، بيد أنها وفي الوقت نفسه وبحدسها العاطفي تيقنت أن حب " يشو " لازال يسكن أطرافها ، أطرقت ساهمة تفكر في حالتها النفسية المتردية التي وصلت اليها بفعل طيشها وجريها خلف عواطف قاتلة و غرائز مميتة . صممت ساعتها على نسيان ما حدث و شطب كل السويعات الجميله المطرزه بالعناق الوردي الحالم و قطرات الشهد المصفى ، التي طالما ارتشفتها في لحظات غروب كل آحاد شهر ابريل الدافئ . تذكرت المقهى وهو يتراقص أمامها وهي تواعده أول يوم في ركن منزو داخل مقهى chez Ali" ، يده الدافئة وهي تلاحق يديها المرتعشتين كريش عصفور مبلل بقطرات طل باردة ، ذاك اليوم الذي قضت فيه ساعتين وهي تتجمل أمام المرآة ، و تضع مساحيق تبييض علها تخفف من سواد بشرتها الداكنة ، كي تقنع عشيقها الوحيد الذي قررت أن تبوح له بغرامها وأرقها الطويل في انتظار عودته من عطلة صيفيه طويلة خارج الوطن يبني فيها ما يهد أحلام " حياة " الجريحة ، تذكرت قصائده الطويلة التي طالما حاصرتها في غرفتها ، وهي تتمتع بقراءتها على نغمات عبد الحليم حينما تصادفها مندسة بين أوراق دفاترها داخل القسم في ثانويه المجد. سمعت في أذنيها كل وشوشة كان يخبرها بها وهو قابض على يديها يداعبهما ، أو يحيط يمناه بخاصرتها وهي تغني بغنج الممثلات في انتشاء ، تحس بأنفاسه تحرق وجنتيها ، يداعب خصلات شعرها المتدلي ، أو يحملها فوق دراجته النارية الصينية تحيط ذراعيها بحزامه وتضع وجهها على ظهره ، تلامسه بعطف و تتحسس قلبه النابض بحبها ، جسدان متحدان لا يفرق بينهما انسان. هكذا كان ، أو هكذا كانت تعتقد ، لكن " الكاورية " التي كانت تقيم وراء البحار كان لها رأي آخر ، سحر آخر ، لم يكن جمالا على كل حال ، فهناك أوراق تطبع وأخرى تختم ، ودولار يغري . سرقتها أفكارها السوداوية إلى ما قالته أمها ربيعة في يوم ربيعي جميل ، وهم جلوس في ساعة سلوة حول شاي العصر ، شاي اعتاد أهل زاكورة ارتشافه فوق جميرات فحم في طقس يكاد يكون مقدسا : " السعوديون يسرقون بناتنا ، والنصارى يسرقون أبناءنا " . يومها كان الوالد" حمو " مستندا إلى الجدار الطيني وهو يمسك بسبحته الأثيرة ، فاعتدل مستويا وقد برقت عيناه واتسعت حدقاتهما ، فقال في حدة رجولة زاكورية مسنودة بنكهة الخبرة الواسعة التي زادتها سنون الغربة تخمرا وتعتقا : " لا يا ربيعة لقد أخطأت إن الدولار هو من يسرق أبناءنا وبناتنا " . ماري تلك العجوز الخمسينية الأرملة التي تسكن منزلا فسيحا في ضواحي " نابولي "وقد ورثت مالا كثيرا عن زوجها " أنطونيو فيليب " عاشق السيكار الكوبي الذي قتل في السجن بسبب علاقاته التجارية مع " المافيا " جاءت يوما ما إلى زاكورة من إيطاليا متورمة الركب ، لم تكن تستطيع الإنحناء لتلبس فردة حذائها الطبي سرقت " يشو " وشباب " يشو " ، حقيقة هي لم تسرقه ولكنها اشترته كما يشترى العديد من فتيان زاكورة ، إبتاعته كما يبتاع العبيد في سوق النخاسة . تذكرت " حياة " كل ذلك وهي تتجول بعينين مفتوحتين تائهتين لا تلويان على شيء ، كانت أسوار مستشفى" الدراق " كيئبة يعلوها سواد وأتربة غبراء ، تزيد نفسها حزنا وقتامة . عادت إلى الواقع كليلة منكسرة كأنها ترفض أن تتعايش مع وضعها الجديد ، تناهى إلى مسامعها صوت أغنية منبعت من مكتب المداومة ، ترتيمات الموسيقار عبد الوهاب الدكالي يصدح بأغنيته الجميلة المغناة بلحن مغربي دارج : " كل شيء راح مع الزمن كل شيء صار في خبر كان الله حي باق حي ... " وكأن كلامه أعطاها شحنة إيجابية لتتعالى على حال مهزوز و مأزوم ، فمنحها ترياقا تتعايش به مع نكبتها الجديدة وأرجعها إلى طريق لا يخيب ، لاحت تباشير فجره من بعيد ، فعادت إلى الله منكسرة وضارعة ، حينها و حينها فقط - ولعلها مجبرة أيضا - قررت أن تعيد الوهج المفقود إلى حياتها المليئة بالعثرات والنكبات ففقد رفيقها لا يعني نهاية العالم ، وهي حتما لن تكون آخر واحدة تغدر أو يسرق حبها من بين يديها ، ليستنبت هجينا في بلاد ما وراء البحار ، ولن يمنعها " يشو ماري " عن معاودة النهوض من جديد ، فهي تعلم أنها لا زالت متبوعة بامتحانات الباكالوريا ، حلمها الوحيد لتدرك ما تصبو اليه ، وتفرح الأب المكدود والمهدود الذي حرص على تعليمها " نعم أنا حزينة ممتلئة ذلا وهوانا مكسورة لكنني مجبرة على النهوض " . ثم ما لبثت أن عادت لتحتمي بما ألتهمته من كتب أدبية بتوجيه من أستاذ اللغة العربية ، وكأنها لم تقرأها إلا تلك الساعة ، فلمعت في ذهنها أسطورة العنقاء التي انتصبت واقفة من داخل رمادها لتعيش مجددا ، صوت المرحوم درويش وهو يشنف أسماع الحاضرين تحت صرير تصفيقاتهم : " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " فتمنت "حياة " أن تعود إلى الحياة أو تعود الحياة إليها ، وتمنت أن تجد " يشو الجديد " بشعره المضفور و و صورته البوهيمية عند أول منعطف وهي خارجة من مشفى " الدراق " ، فتبصق في وجهه أمام العبور وتصيح بأعلى صوتها : " أنا أكرهك " يشو ماري " أكرهك أيها الخائن المعتوه أكرهك وأكره نابولي....