صدرت الرواية السادسة (انعتاق الرغبة)، للكاتبة المغربية الدكتورة (فاتحة مرشيد)، عن المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، المغرب، بطبعتها الأولى عام 2019، وعدد صفحاتها (224) صفحة، بقياس 14.5 × 21.5، وهي تستدعي الأمم والعوالم والمجتمعات إليها، ليكون العالم الذي تصنعه مصحّةً تجرّب فيه طبها وسلوكياتها وتجري فيه من العمليات ما تجعل المتلقي يعيش حالة الإستئصال أو حالات نفسية، يدخلُ معها في مختبرها ويلبسُ معها الكفوف ويضع الاكمام والصدرية ليرى بأم عينيه ما يجري بوعي. في هذه الرواية تأخذنا الدكتورة (فاتحة مرشيد) نحو موضوعٍ خطيرٍ وجريء تتصدرهُ لأوّلِ مرّةٍ، روايةٌ عربيةٌ بهذا الشكل وبهذا الوقت تحديداً، في عالم الأقليات الجنسيّة، واضطراب الهويّة الجنسية، وفي مشكلة الجنس الثالث، هذه الموضوعةُ الشائكة التي يتصارعُ فيها الجسدي والروحي، في مجتمعاتنا العربية بما تحملُ من قيمٍ وأعرافٍ دينية وأخلاقيةٍ ومذهبيةٍ وقبلية. وسندخلُ مع الكاتبة في مصحتها(روايتها) هذه وقسّمنا الدراسة على مباحث، في العنوان (عنوان الرواية ومفتتحها)، ومجتمعات الرواية، المكانُ في الرواية، والثقافات في الرواية، والأمراض المطروحة فيها وضمن الدراسة. – المبحث الأول: (عنوان الرّواية، ومفتتحها) المتابعُ لكتابات (الدكتورة فاتحة مرشيد) الشعرية والسردية، يمسكُ خصلةً من خصالها المتعددة، أنها تختار العناوين من أدراج النّص، من روحه، فهو لا يأتي من عدم، بل يولدُ ولادةً طبيعية وينمو ويتكامل داخل رحم النّص، ليس مجلوباً من خارج هذا الرّحم، كما نجدهُ في العديد من الاصدارات، لأغراض تسويقية أو لجلب انتباه المتلقي، لغرضٍ تجاري، أو لأغراضٍ غير معلنةٍ. انعتاقُ الرّغبة: لماذا هذا العنوان، لماذا انعتاق؟، ولماذا الرّغبة؟ كلمة انعتاق: فقد وردت هذه المفردة في السّرد: في (ص 77): (… وفي انعتاقها خلاصُنا.) –على لسان (عز الدّين / عزيزة). في (ص78): (لايمكننا أن نخوض رحلة الانعتاق دون أن نخبرَ العزلةَ وننتهي الى الاستقرارِ فيها.). على لسان (عز الدين/ عزيزة). وفي(ص92): (…إنهُ طريقٌ صعبٌ ومرهقٌ ومؤلمٌ ومحفوفٌ بالمخاطر، لكنّهُ الطريقُ الوحيدُ للانعتاق.). –على لسان (عز الدين/ عزيزة). وفي (ص 172): (… ليعوّضَني عمّا فاتَ ويساعدَني على تحقيقِ ذاتي وانعتاقِ أحلامي.). – على لسان الدكتور فريد السّامي-. كلمة الرغبة: كما وردتْ هذهِ المفردةُ في طيّاتِ النّص: في (ص 77): (أمّا الرغبةُ، فهي المُحرّكُ الذي يدفعُنا الى الأمام). وفي نفس الصفحة: (… الرغبةُ هي الحياة..). – وفي الصفحةِ ذاتِها: (.. وماذا عن الرّغبةِ في الخلاص؟). – على لسان (عز الدّين/ عزيزة) -. هكذا ترى عزيزي/ عزيزتي كيف وُلِدَ عنوان الرواية بشكل متفاعل وولادة طبيعية في رحم النّص. فاتحةُ الرّواية: أمّا مفتتحُ الرّواية، فقد أصبحتْ لدى الروائيّةِ / الشاعرةِ سُنّةٌ في وضع فاتحةٍ أو استهلالٍ لديوانها أو روايتها أو مجاميعها القصصية، وهذا الافتتاح (الفاتحة) يولدُ بل هو من أعمدة النّص سواء كان شعرياً أم سردياً. وقد افتتحت روايتها في (ص5): «الأسوءُ ليسَ ألا ننتظرُ شيئاً من أحد، بل ألاّ ننتظرُ شيئاً من أنفسنا.». لماذا وضعت هذا الاستهلال ولمنْ هو، لمفكرٍ أو أديبٍ أو سياسي؟؟ في كلّ مرّةٍ عندما تكتبُ الكاتبةُ استهلالاً تضعُ تحته اسمَ قائلهِ أو كاتبهِ، لكنها هذه المرّة بدون أي أشارة للقائل. والقاريء حين يتابعُ الرواية ويقرأها بتمعن سيحلّ طلاسمَها. في (ص:77): ورد نصّ العبارة على لسان –عزّ الدّين/ عزيزة-. «ظللتُ زمناً أمنّي النّفس بالآمالِ في انتظارِ معجزةٍ الى أن أدركتُ أنّ الأملَ لن يفعلَ شيئاً لوحدهِ. يجبُ أن تكونَ رغبتي في التغيير أقوى من كل شك، من كلّ عقبة، من كلّ احباط.. يجب أن تكونَ المحرّك..». … «أدركتُ أن الأسوأ ليسَ ألاّ ننتظرَ شيئاً من أحدٍ، بل ألاّ ننتظرَ شيئاً من أنفسنا.». وتكرّرتِ العبارةُ في (ص: 212): في قولٍ وحوارٍ للدكتور فريد السّامي:»…لقد كانَ والدي على حقّ حينَ قالَ في رسالتهِ: (الأسوأ ليس ألاّ ننتظرَ شيئاً من أحد، بل ألاّ ننتظرَ شيئاً من أنفسنا». إذن نلاحظُ أن هذه العبارةَ لم تكنْ لكاتبٍ أو فيلسوفٍ أقحمتها الروائية، أو جاءتْ معبّرةً عن روح الرواية ومبتغاها، بل أنها عبارة قيلت من خلال السّرد وأمسكتْ بها لتضعها فاتحةً للرواية كونها تمثّلُ –حسب وجهة نظرها- بيتَ القصيد. المبحث الثاني: مجتمعات الرّواية: نسلّطُ الضوءَ هنا على المجتمعات التي تؤلفُ ثيمة النّص/ الرّواية، والمؤثرة في الصراع وفي صنع الدّراما والأحداث. -المجتمع الأول: عزّ الّدين / عزيزة: لماذا وضعتُ (عز الدين/ عزيزة) في بابٍ لوحده واعتبرتُهُ مجتمعاً لحاله، لأنهُ لا يمثّلُ حالةً فرديةً أو شخصيّة بل هو مجتمعٌ كاملٌ لوحده، هو عالم الأقليات الجنسية، وهو محور الرواية من بدايتها الى نهايتها. لماذا اسم (عزّ الدّين/ عزيزة): في ص38: (… عز الدين اسم يحملُ من المقدّس والعزّةِ والفخر، ما يُثقلُ كاهلَ حامله بمسؤوليةٍ عظمى، عليه أن يبرهن باستمرار على أنهُ جدير بتحملها. اسمٌ ذكوري حتى النخاع، لا لبسَ فيه، مُركّب من «العز» والاعتزاز والعزّة ومن «الدين» بتعاليمه ومقدساته ومحرماته. في ص 89: (اليوم كذلك قررتُ تغيير اسمي الشخصي. لا أعلمُ لماذا بدا لي اسم «عزيزة» بديهياً. ربما لأنهُ يحتفظُ على الشطر الأول من اسمي «عز»، أو لربما لأنّ هناك موسيقى تسمى «عزيزة» للموسيقار محمد عبد الوهاب…). وفي نفس الصفحة 89: بحثتُ عن كلمة «فرس» في المعجم العربي لأجد لها مرادفا أو شيئاً يقربها في المعنى، وكم كانت سعادتي عارمة عندما قرأتُ أن كلمة فرس تطلقُ على الواحد من الخيل، الذكر والأنثى على حد سواء…). وفي الصفحة نفسها: (لكل هذا، لم أجد أحسن من اسم « عزيزة فرس» تعبيراً عن كنه ذاتي. وفي ص 17: يتحدثُ (عز الدين/ عزيزة) عن سبب تسميته «فرس» الذي اختاره له والده: (كان معجباً -أي: والده- بنجم المنتخب المغربي آنذاك «أحمد فرس» الذي رفضَ كل العروض للعب في صفوف أندية عالمية مفضلا البقاء في فريقه الأصلي «شباب المحمدية» والذي يُعتبرُ هدّاف المنتخب المغربي على مرّ العصور ب 42 هدفاً. لهذا أطلقَ عليّ لقب «فرس» لقب يحمل من الشهامة والفحولة ما أزّمَ وضعي أكثر.). وفي ص91: (من حقّكَ أن تتساءلَ لماذا لم أحتفظْ باسم العائلة «السامي» وأكون بذلك عزيزة السامي. فكّرتُ كثيراً في الأمر واحتراماً لرغبةٍ منك محتملة، في ألا يكونَ لنا اسم مشترك يربطك بشخص قد تزعجكَ قرابته.. أعرضتُ عن الفكرة.). هكذا نقرأ بين طيّات الرواية ونحنُ إذْ نُفلّيها ونفككها ونقرأ بين سطورها، هذا المجتمع الغريب ، المختلف، المتناقض، المركّب، (عز الدين / عزيزة) فحتى تركيبة الإسم واختياره وطبيعة تكوينه ودلالاته يصبّ في منحىً لفائدة انسيابية الاحداث وتباطئها وتسارعها .كيف تم اختيار اسم (عز الدين) بعد ولادته، إثرَ ثلاث بنات، اسم فيه من القوة بل القدسية، والفحولة، جعلت من هذه الشخصية(المُركّبة) كيف تتأزم وتتصاعد في توترها على مختلف أدوار حياتها؛ ثم بعد التحوّل الجنسي، كيف اختار(ت) لنفسه(ا) اسماً ينطلق للعالم بحريته ليشبهه هو/ هي لا يكون من صنع غيره، فجاءت (عزيزة) بدلا من (عز الدين) ، وجاء اللقب ليكون (الفرس) بدلاً من (السامي) للأسباب والدواعي التي ذُكرتْ في الصفحات التي أشرنا إليها في متن الرّواية. كلمة (ولدي العزيز) في الرواية: نجد كلمة (عز/ عزيزة/ العزيز) كلمات ومفاتيح ونوافذ في متن الرواية، تتردّد، بل تغمر الرواية كاملةً ب(العز) و(العزّة)، وهذا ما اختارته الكاتبةُ بوعيّ وأصرّت على اختياره دون الأسماء والمفردات الأخرى، لتنسجم مع التسلسل الدرامي داخل النّص. وكلمة (العزيز) وردتْ عدّة مرّات في مخاطبة (عز الدين/ عزيزة) في رسائله الى ولده (فريد)، وذلك لتوكيد انتمائه وانتسابه الى (عز/ عزيزة)، وقد وردتْ: 1-في (ص:7)، في أول سطر من الدفتر الأول الذي كتبَ(ت) «عز الدين/ عزيزة» الى فريد في رسائله: (بروكسيل 20 يناير 1989، ولدي العزيز فريد). 2-ثم في (ص:76): (مونتريال 24 ماي 1992، ولدي العزيز فريد). 3-وفي (ص: 92): (ولدي العزيز فريد). 4-في (ص :94): (ولدي العزيز). 5-في (ص: 104): في رسالة من (فادية) الى (فريد): (عزيزي الدكتور فريد). المجتمع الثاني: المجتمع النسوي في الرواية: حينما نقول المجتمع النسوي، لا يعني أن يتبادرَ الى ذهنك وأنت تقرأ مقالنا هذا، أنهُ مجتمعٌ متجانس، كما يتم تعريفه في كتب التاريخ والجغرافية، أو كتب التربية الوطنية، له عاداته وثقافته، كلا..، هذا المجتمعُ هو خليط هجين، غير متجانس من جنسيات وثقافات ودول ولغات وديانات مختلفة: آ: أسرة (عز الدين/ عزيزة): وهي أسرة نسوية قبل أن يأتي ويولد صاحب العقدة المشكلة (عز الدين)، فأخواته الثلاث هنّ: (فاطمة، خديجة، ربيعة)، وأكثر واحدة كانت قريبة له وأعني- عز الدين- هي شقيقته المقاربة لسنّه، وتكبره بعام ونصف، هي (ربيعة) التي كان يجد معها ذاته (ذاتها) التي تعيشه بداخله ويخشى ويخاف منها، لكنه مع (ربيعة) كان يفرّغ من شحناته المكبوتة بجده وهزله ولعبه، وأمّه (الحاجة السعدية). هي أسرةٌ نسويةٌ بامتياز، تعجّ بعطر وملابس وأحاديث نسوية وأحلام وأصوات وأحاسيس وآمال، كلها كانت تتصارع وتتفاعل بداخله، بل وما كان يرى حين تصحبه والدته وأخواته الى أماكن تتواجد فيها النسوة في أماكن يجدن فيها حريتهن للتعبير عمّا يجول بخواطرهن بل وحتى أجسادهن. وبعد أن تزوّجَ (عز الدين) من زوجته (مريم) أصبح له ولد اسمه (فريد)، الذي تزوّج من بنت اسمها (صوفيا). ب: مجتمع (عزيزة) النسوي: وأعني بهذا المجتمع أعني صديقاتها (عزيزة) بعد تحوّلها، ومن صديقاتها: 1- سمرا: وهي امرأة مصرية، تعرّضت لشتى أنواع العنف والقهر، منذ طفولتها تعرّضت لعملية ختان بطريقة وحشية (الختان الفرعوني) وهي لم تبلغ الخامسة من العمر، وزوّجَها أهلها في سن السادسة عشر، من رجلٍ بسن والدها، وكيف تعامل معها بوحشية. ثم الآلام التي عانتها بموت جنينها في بطنها، وكيف بعد هذه المعاناة هربت من قريتها بالصعيد الى القاهرة، واشتغلت خادمة عند امرأة أجنبية (كندية) وهذه المرأة ساعدتها في الهجرة الى كندا. هذه المرأة ومعاناتها التقتْ (عزيزة) في المستشفى ب(كندا) في وقت عمل عملية لها، لترميم (عضو مزّقته وحشية البشر / ص186)، و(عزيزة) التي دخلت المستشفى في ذات الوقت لاستئصال (عضو بثّتْهُ الطبيعة خطأ في جسمي/ ص186)، وهكذا تعارفتا، وأسكنتْ (عزيزة) صديقتها وضيفتها (سمرا) بيتها، فكانت بينهما علاقة حب (مثلي)، ثم انتهت العلاقة بموت (سمرا). هي حالة من الحالات التي تعاني منها النساء، حالة عنف، وفي بلد آخر غير(المغرب)، في (مصر)، وهاهي تطرحُ الكاتبة صور للمرأة في أماكن ودول وقارات مختلفة كي تكشف عن المستور، لأن الألم واحد والجراح واحدة باختلاف الألوان والديانات والثقافات. 2- فادية: وهي من صديقات (عزيزة)، بل لها دور كبير في أحداث الرواية والتي ربطت بين حياة (عز الدين)، و(عزيزة)، وكان جسرا بل رسالةً الى الدكتور (فريد السامي)، ولها قصة ألم وجرح كبير يختلف عن قصة (عزيزة) و(سمرا). إمرأةٌ قادمة من ليبيا، ليبيا (القائد)، ليبيا (الكتاب الأخضر)، بكل قداسته، القائد الذي هو أبو الوطن،كانت الثالثة في تسلسلها في العائلة بعد ولدين، من أب موظف في البنك، وأُمٍ مُدرّسة للغة الفرنسية. وُلدتْ في مدينة (طرابلس)، ونشأتها نشأة سويّة في عائلةٍ مثقفة، وكانت لها طموحاتها، دخلت (فادية) كلية الحقوق بتفوّق، وبدأت مأساتها وجراحاتها، في سنتها الأولى بالكلية حينما أوكلت لها مع مجموعة من الطالبات مهمة أستقبال (القائد)، ومن دون الطالبات، ويبدو بفعل واختيار مقصود اختيرت (فادية) لإلقاء كلمة الترحيب ب (القائد)، في جامعة طرابلس في القاعة الخضراء.وكيف وقعت بفخاخ (القائد) وأصبحت من جواريه دون إرادتها، بل تحت الضغط والتهديد، بقتل والدها، وفي النهاية كيف تهرب مع زميلتها من سجون (القائد) بعد أحداث دامية أيام (الثورة)، بعد خطابه (التاريخي) : « زنقة.. زنقة».وبعدها كيف هربت الى (تونس)، ومن ثم الى (كندا) واللقاء ب (عزيزة)، قبلها كانت بينهما رسائل واتفاق على كل شيء للعيش في (مونتريال). وسيجد القارىءُ، مبحثا كاملاً عن (الديكتاتور)، تستطيع أن تعمل منه بحثاً كاملاً عن صورة المقدّس في الديكتاتور، ومبحثاً في (الديكتاتور والانحراف الجنسي)، في الرواية (ص145-176). وتدخل شخصيات أخريات ضمن مجتمع (سمرا) ويرتبطن بتاريخها، وهنّ: – عائشة: امرأةٌ في الخمسين من العمر، تشرف على حريم (القائد)، تصول وتجول، وتدخلُ غرفة (القائد) أثناء ممارساته الحيوانية بحريّة، وتذكّرُهُ بمواعيده السياسية والدبلوماسية، وهي الوحيدة التي تتجرأ على الكلام معه وكأم تنهره أحياناً، (ص: 154). – فوزية: امرأة تعمل في كافتريا الحريم، تبدو هرمة لكن غير مُسنّة، كانت تعطف على (فادية)، وهي التي ساعدتها للهرب من بيت الحريم وقبضة السجّان، وهربت معها الى (تونس)، (الرواية / ص 155). -عالية: صديقة (فوزية)، وهي ليبية، من ضحايا (القائد/ الوحش)، زوّجها (القائد) بعدَ أن ملّ منها، بأحد حرّاسه، وعندما ماتَ زوجها، هاجرتْ الى تونس، وقد تعرّفت على (فوزية) داخل جناح الحريم، وقد آوت (عالية) كلا من (فادية وفوزية) في بيتها، (الرواية/ 167). ج: مجتمع النساء المتحوّلات: في الرواية تسلط الكاتبة الضوء على مجتمع من النساء المتحوّلات، وهّنّ فنّانات وكاتبات عالميات معروفات، عرفتهنّ الايام والصحافة ووسائل الاعلام، كيف عملن على الاقدام للتحوّل. وهنّ من المشاهير في زمانهنّ، وهي معلومات واقعية مذكورة في كل وسائل الاعلام ووسائل التواصل، استخدمتها الكاتبة ووظّفتْها في خدمة السرد، (ص: 31-33)، منهن: الفنّانة، (كوكسنيل) التي غيّرتْ جنسها سنة 1958، وقد كانت في الأصل ذكراً بإسم «جاك شارل ديفريسنوي». والحالة الأخرى هي عارضة الأزياء «أبريل أشلي» التي وُلدتْ تحت اسم (جورج جاميسون). وحالةٌ أخرى هي المغنية والممثلة «أمندا لير» الذي أدّى تكاليف عملية تغيير جنسها من ذكر الى أنثى الفنّان التشكيلي الكبير (سلفادور دالي). ومما ذكرتْهُ الكاتبةُ أخيراً، الكاتب «جيمس موريس» الذي أصبح بعد تغيير جنسه، الكاتبة « جان موريس». في هذه الحالات المذكورة، تؤكد (الكاتبة) على أن هناك تاريخا طويلا يمتد لهذه الظاهرة التي أصبحت شبه سائدة وطبيعية في كل المجتمعات، الغربية أولاً، وبين مشاهير العالم في مختلف الآداب والفنون، فهي غير محصورة على مجتمع أو أمة، دون أخرى، أو ديانة دون أخرى، أو ثقافة دون ثقافات أخر. كما أن شخصية (الدكتور جورج بيرو) شخصية واقعية، طبيب فرنسي، كان يعمل في الدار البيضاء/ المغرب. د: مجتمع الهيجرا: مجتمعٌ يعودُ تاريخُهُ الى عهد الامبراطورية المغولية، هم ذكور يتقمّصون الهوية الأنثوية. منهم جماعة المخنثين والمخصيين، بإسم الدين أو بإرادتهم أو بالإكراه. وهم يعانون من تمييز شديد، وفي نفس الوقت يُعتقدُ أنّ لهم قدراتٍ خارقةً تجعلُ الناسَ يطلبون بركتهم أثناء الزواج أو الولادة. (الرواية /ص: 81). وردت سيرة هذا المجتمع ليس اعتباطاً بل ضرورة للتعريف به لارتباط شخصيات بالرواية بهذا المجتمع منها: (أروانداتي): فنّانة هندية تعمل في كباريه ليلي للمثليين، وقصّتها، أنهُ تمّ إخصاء (أرون- اسمها الأصلي) حيث كانت ذكراً، وهو طفل وبيعَ بالمزاد العلني كعدد من أقرانهِ للغورو فيديا، وهي بمثابة مرشدة روحية ليصبح بعد ذلك (أروانداتي). المجتمع الطبي: مجتمع الأطباء: هل يُعقلُ أن يمضي السّرد في ذكر أمراضٍ عدّة، دون وجود أطباء، لقد ذكرت الرواية عدد من الأطباء الذين أسهموا هنا أو هناك بخدمةٍ تتلاءم مع رسالتهم وثقافتهم وظروفهم، ومن هؤلاء: دكتور فريد السامي وهو ابن (عز الدين/ عزيزة)، وشريكه في المصحة الدكتور جميل، الدكتور برنار صديق (فريد) في كندا. والدكتور (جورج بيرو)، هو صاحب القدح المُعلّى بالرواية، وهو المتصدّي الأول لعمليات التحوّل الجنسي، فقد وُلدَ بفرنسا، وترعرع في وهران بالجزائر، حيث درس الطب ثم عمل طبيباً مختصاً بأمراض النساء والتوليد في الجزائر العاصمة، قبل أن يستقرّ بالدار البيضاء ليكون بها أوّلَ منْ يمارس جراحة تغيير الجنس من أنثى الى ذكر ومن ذكر الى أنثى. المبحث الثالث: المكان والزمان في الرواية: للمكان والزمان أهميةٌ كبرى في الرواية، حيثُ تهتمّ وتشتغلُ (الكاتبةُ) على ذكر أدق التفاصيل في توصيف المكان، والدّقة في تحديد الزمان والتاريخ، منذ السطر الأول للرواية وحتى ختامها. 1- ففي ذكرها للمكان والزمان (التاريخ) مثلاً: بروكسيل 20 يناير 1989(ص: 7)؛ وفي (ص: 37): (اتجهتُ نحو مراكش أولا ومنها الى إقليمأزيلال ثم ذهبتُ الى آيت بوكماز..)؛ وفي تحديد الزمان: يوم الجمعة الماضية (ص: 59)؛ وفي المكان أيضاً: (… فهناك دفترٌ آخر في انتظارك في مونتريال… ص: 59)؛ وفي ص: 60، تحديد لحادثة زمنياً: (… قالتْ توفّي يوم الجمعة الماضي..)؛ وفي ذات الصفحة (60): (كانت تأشيرة كندا بجواز سفري). وفي تحديد الزمان والمكان، في (ص: 106): ذكرت دولة (لبنان)، و (نيودلهي)، ثم تحديد الزمان: ( في أبريل 2014)؛ وفي (ص: 107): ذكرت دولة (باكستان)، وتحديد الزمان ، (تحديداً في يونيو 2016..). وتحديد دولة أخرى (إيران)، ثم (تايلاند). وفي تحديد الزمن (ص: 121): (إنّها الثانية عشرة وربع..). وفي تحديد التاريخ (ص: 166): (في العشرين من أكتوبر 2011..). وفي (ص: 171): (وصلت مونتريال في أواخر شتنبر 2012).. وفي (ص: 206): (عادت بعد ثلاث ساعات..). 2- وفي ذكر الشوارع والمناطق: في (ص: 63): (.. على طول شارع سانت كاترين..)؛ (مررتُ أمام غاليري نُصبتْ في الهواء الطلق، في ملتقى شارع سانت كاترين وزنقة وولف..). وفي (ص: 143): (.. شارع روني لي فيك). 3- في وصف شقة (عزيزة) وطرازها وأثاثاها المغربي، والديكور، والمفروش وصينية الشاي والصحون، … 4- في ذكر الدول (المكان): في (ص: 142): (… رايات بلدانهم الأصلية لترفرف في سماء مونتريال منها راية لبنان ومصر وتونس وليبيا والمغرب والجزائر والأردن.. وغيرها. وهكذا نجدُ الرواية ترسمُ خارطةً جيدةً لا تعتمد فيه اكتشافات (كولمبس)، أو ما وضعهُ الأدريسي في الجغرافيا، بل ترسمُ خطى الشخصيات وتحركاتها، ومساراتها بل وتّدقّق بالتاريخ تحديداً بل وبالساعات، تجعلنا نعيش الحدث في مكانه وزمانه، فهي تحدد المدينة، والشارع ورقم الزقاق، والساعة، ووصف المكان بتفاصيله الدقيقة المعقدة لتجعل المتلقي يعيش الحكاية وتعيش به. المبحث الرابع: الأمراض التي تناولتها الرواية: أهم ما تناولته وركّزت عليه الرواية بل محور السّرد، هي اضطرابات الهوية الجنسية والانحراف الجنسي، والتشبّه الجنسي. وهناك امراض ذُكرتْ طي السّرد، منها، متلازمة ستوكهولم، ومرض (الكليبطومانيا)، وهو هوس السّرقة، سرقة أشياء تافهة، وهذا ما كانت تمارسهُ (صوفيا/ زوجة الدكتور فريد) بالرغم من أنها من عائلة ميسورة، وهي وسيلة للتخفيف من حالة قلق أو إحساس بالفقدان. ومرض آخر تناولتهُ الرواية، هو جنون العظمة لدى (الديكتاتور). الرواية بيت قصيدها الهوية الجنسية أو الجندر، فكانت فيها تفاصيل لحالات متعددة لذكور وأناث من مختلف الجنسيات، وكيف يعاملن في أوطانهم، ونجد في الرواية مبحثاً كاملاً عن علاقة الدين بهذه الأمراض، أي بشريحة كبيرة من المجتمع الإنساني التي تعاني من اضطراب بالهويّة، بل هوس وجنون المجتمعات التي لم تضع قانونا لحماية (الجنس الثالث). المبحث الخامس: التراسل والكتاب في الرواية: صيغت الروايةُ؛ أسلوباً وسلوكاً وبناءً؛ على صيغة التراسل، حيث كانت الرسالة هي المحرّك لكل الأحداث، وما الرواية إلا مجموعة من الرسائل كُتبت لتُقرأ على صيغة سينمية (الفلاش باك)، أوما يُسميّه-بعض النّقّاد- «الاسترجاع» هو سبيلُ السّردِ كلّهِ، تبدأ الروايةُ وقد انتهى كلّ شيء، وحتى نهايتها التي أبقتها (الكاتبةُ) سائبةً ومفتوحة. بُنيتِ الرّوايةُ إذا ما أخذناها بمنظور التراسل على محورين، أو منحيين، الأول وهو الدفتر الأول (وكاتب الدفترين عز الدين/ عزيزة)، فقد كان فيه الخوف والألم والعذابات، وهو يصوّر الحالة النفسية التي يعيشها (عز الدين) في المغرب قبل التحوّل)، والعبارات قلقة، وفيها من الهواجس والقلق، حيث عدم التصالح بين الروح والجسد. أمّا الدفتر الثاني، فهي حالة (عزيزة) المتحوّلة في (كندا) فيختلف اختلافاً كبيراً، عباراته فيها من الرّقة والعواطف وأكثر تحررا ولا خوف فيه ولا توجّس، ثم نلاحظ هناك في الدفتر الثاني حالات من التوقف في الكتابة، وتغيير في لون حبر القلم وكلها اشارات عن الحالة النفسية المضطربة، وأحياناً عن حالة الهدوء النسبي. وبين طيّات هذه الكتابة التراسلية تبرز هناك الصحف والمجلات، التي تذكرها الرواية، مثلا المجلة الفرنسية الخاصة بالأمور الطبية (ص: 40)، جريدة رابطة أل بي جي تي، وهو اختصار لرابطة المثليات والمثليين وثنائي الميول والمتحولين جنسياً (ص:99). وجريدة (لوموند) في (ص: 171). وهناك في هذا التراسل موجات من الموسيقى والنغم حيث لا تخلو روايةٌ من روايات الكاتبة دون ذكر للموسيقى والنغم الذي تزوّق به السّرد كي لايكون هناك ملالاً لدى القارىء، فنسمع موسيقى وألحانا وكلاما غنائيا، (في ص: 134-135): موسيقى الغوسبل، وأغنية مكتوبة باللغة الانكليزية وترجمتها للعربية (كسّر الأغلال/ كسّر القيود/ أنا حر…)؛ وفي (ص: 142): موسيقى محمد عبد الوهاب، لأغنية بلهجة مصرية (عزيزة.. آه من عزيزة)؛ وفي (ص: 188): أغنية (فيروز)، «سمرا يا أم عيون وساع».. وما لهذه الاختيارات من دلالات وربط متقن في الحبكة حيث دلالة أغنية (عزيزة) على بطلة الرواية (عزيزة) وحياتها، وما تشيره (فيروز) في أغنيتها (سمرا) إشارة الى (سمرا) صديقة (عزيزة). أمّا الكتاب فقد شغل السّرد وما احتواهُ من معانٍ ودلالاتٍ في التفكير والقراءة منها: 1- كتاب (النبي) لجبران خليل جبران، في (ص: 95)، حيث جاء على لسان (عز الدين)؛ وورد كتاب (النبي) أيضا في (ص: 186). 2- الكتاب الذي أهدتْهُ (عزيزة) إلى (فادية) حال وصولها كندا وهو (Les Proies) يفضحُ الوجه الوحشي (للقائد) وجرائمه، للكاتبة الفرنسية (أنيك كوجان). نستشفّ من اختيار كتاب (النبي) لأنهُ كتاب روحاني شفيف فيه ما قالهُ جبران في الأبناء، وهذا ما أرادتْ به (عزيزة) نقله الى ابنها (فريد) وهذا ما ورد في الدفتر الثاني. أما الكتاب الذي أهدته (عزيزة) الى (فادية هو دواء لها بعد معاناتها في ليبيا. خاتمة ماهي الرسالة التي أرادتْ الكاتبةُ إيصالها للقارىء العربي؟ إن الكاتبة وضعت القارىء في (مصحّة) الرواية وجهّزتْ له كل الأدوات وأحاطته بالمكان وصفاً تفصيلاً وأشارت له بالزمان بكل دقة، ووفّرت كل عوالم الصراع الحاصل في المجتمعات التي ذكرناها، وما وفّرت من أطباء للعلاج، هي بالرغم مما قالته وأثارتْهُ بكل جرأة لحالة خطيرة ومهمة في ذات الوقت عن (الجنس الثالث)،حالة الصراع بين الانسان كنتاج بيولوجي ونتاج اجتماعي، وكانت صرخة مدوّية لأنصاف هذه الشريحة الكبيرة في مجتمعاتنا العربية، وتشريع القوانين التي تضمن لهم الحق في اختيار الهوية، ورفع معاناتهم من الجنسين؛ وقد حدثت وتحدث هذه الحالات في مجتمعاتنا العربية والاسلامية ، والعالم أجمع، ولكنها تعتبر من المسكوت عنه، وتعيش في ظلال بل ظلام ودهاليز الحياة، خوفا منها، بل أن المؤسسات المجتمعية والحكومية والدينية تعيش حالة (الرّهاب) من هذا الموضوع؛ حيث تتقاسمُ مسؤوليته الجهات كافّة، من الأسرة بدءاً، حيث تجعل من الذكر أنثى ، والأنثى ذكراً، في طفولته وترى أطفالاً ذكوراً تقوم أمهاتهم أوآباؤهم بإطلاق العنان لشعرهم ليكون طويلا كالبنات ، أو قص شعر البنت وجعله مثل شعر الأولاد، أو من ناحية الملابس حيث يرتدي الطفل ملابس البنت، أو البنت ملابس الولد،بل وحتى اختيار الاسماء (التي تجعلها مثلما يقولون-أسماء الدّلع)، بل وسمعنا من الحكايات والقصص في العراق –خصوصا- عن مثل هذه التحوّلات وأشهر حالة هي المطربة (مسعودة العمارتاية- نسبة الى مدينة العمارة في الجنوب العراقي-) وتحوّلها من رجل الى امرأة، وغيرها من الحالات. تبثّ الكاتبةُ بين سطور روايتها لا تقلّ أهميةً إذا لم تكن الأهم، أن أهم تطبيب لجراحنا ومآسينا هو القراءة، والقراءة هي المعرفة، والعلم، والاطلاع على فكر وثقافة الآخر، الكتاب حياة نسعى دائما لتكون حياتنا المثالية، فالقراءة هي علاج أمراضنا النفسية، وهي حالة من التفريغ لأنواع الكبت والقمع، والكتابةُ والتراسلية نوع من التطهير، وهذا ما تُفصحهُ الكاتبةُ في (ص: 185- 186): « يقولُ المصريون القدامى بأن المكتبةَ طبُّ النفوس». وكما ورد في الرواية: (وهي تحدّثني عن مصطلح «العلاج بالقراءة» وأن هذا هو الاختصاص الذي يستهويها لأنّ القراءةَ تجعلنا ننفتح على الاحتمالات الممكنة. لم أكن على علم بهذا النوع من العلاج الذي يدعى Bibliotherapie الذي يعتمدُ قراءة الكتب الأدبية أساسا للمساعدة على علاج أعراض مرضية نفسانية….). نجحتْ وأفلحتِ (الكاتبةُ) في تطبيب جراحنا وآلامنا، دون مشرط أو عمليات كبرى، وبلا تخدير، وكان تشخيصها دقيقاً لما تمر به ثقافتنا وأعرافنا لتضع علاجاً لهذا الدّاء.